لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
"الكون لا يسير بلا قانون، بل نحن من لا نزال نكتشف قوانينه بالتدريج."
يتردد في الأوساط العلمية والفلسفية سؤال جوهري: هل تسير ظواهر الكون على وتيرة منضبطة تحكمها قوانين دقيقة، أم أن العشوائية هي الحاكم الأسمى لحركة الأشياء؟ هذا السؤال ليس مجرد جدل نظري، بل هو جوهر نظرتنا للوجود ولقدرتنا كبشر على الفهم والتحكم في ما حولنا.
ما يبدو لنا كعشوائية قد لا يكون كذلك في الحقيقة. كثير من الظواهر الكونية بدت عبر العصور بلا تفسير، حتى كشف عنها العلم بنور الفهم والتجريب. البرق، الزلازل، الطوفان، والكسوف، كانت تُفسَّر في المجتمعات القديمة على أنها نذير غضب الآلهة أو علامات للعوالم الغيبية. لكن مع تقدم العلم، ظهر أنها تخضع لقوانين طبيعية قابلة للرصد والتوقع.
لو عدنا إلى القرن السابع عشر، لوجدنا أن إسحاق نيوتن غيّر مجرى التاريخ باكتشاف قوانين الحركة والجاذبية. لقد حوّل السماء من مجال غامض تسكنه الأرواح والكواكب العجيبة، إلى نظام رياضي دقيق يمكن التنبؤ بحركته. كان هذا إعلانًا ضمنيًا: الكون ليس فوضويًا، بل نحن من لم نمتلك المفاتيح بعد.
دخلت ميكانيكا الكم في القرن العشرين لتعيد إشعال النقاش من جديد. فجأة، صار الحديث عن "احتمالية وجود جسيم" بدلًا من "مكانه الدقيق"، وعن مبدأ عدم اليقين بدلًا من الحتمية الصارمة. بدا أن العالم على المستوى الذري يخضع للصدفة لا للنظام.
لكن هل هذه الصدفة حقيقية؟
أم أن قوانين أكثر عمقًا، لم تُكتشف بعد، تحكم هذا "الاحتمال"؟
يقول الفيزيائي النظري ديفيد بوم إن الفوضى الكمية ما هي إلا سطح مضطرب يخفي تحته نظامًا ضمنيًا لم نفهمه بعد.
حتى ريتشارد فاينمان، أحد رواد ميكانيكا الكم، كان يصرّ على أن عدم قدرتنا على التنبؤ الدقيق لا تعني غياب القانون، بل ربما وجود "أنماط إحصائية أعمق" تحتاج أدوات جديدة لفهمها.
لو كانت الصدفة هي الحاكم المطلق، لما كانت الحياة لتظهر بتلك البنية الدقيقة والمعقدة. تخيل خلية واحدة من جسم الإنسان: تحتوي على مليارات من التفاعلات الكيميائية التي تتم بانتظام مذهل، وفي كل لحظة. ثم تأتي الأعصاب، والدماغ، والوعي.. كل هذا التعقيد هل يمكن أن يكون وليد مصادفات عشوائية؟
نظرية التطور نفسها، رغم اعتمادها على "الطفرات العشوائية"، تشترط وجود "انتقاء طبيعي" يعمل كفلتر منظِّم. العشوائية فيها ليست فوضى، بل جزء من منظومة تؤدي إلى نتائج قابلة للتكرار، كما هو الحال مع قوانين الوراثة والجينات.
إن أعظم ما في هذا الكون – وهو العقل البشري – لا يمكن أن يكون ناتجًا عن فوضى. فلو كان الكون فوضويًا بالكامل، لما وُلد عقل يكتشف القوانين. حقيقة أن الإنسان يستطيع التنبؤ بحركات الكواكب، أن يصنع ساعات ذرية لا تخطئ ثانية في آلاف السنين، أن يتتبع الإشارات الكونية من مليارات السنين الضوئية، كل ذلك دليل على أن العالم يسير وفق نمط. وإن بدا لنا أحيانًا مضطربًا، فهذا ناتج من ضعفنا في الرؤية.
كان يُعتقد أنهما من أعمال الآلهة في العصور القديمة. لكن مع تجارب بنجامين فرانكلين واكتشاف الكهرباء، أصبحا جزءًا من علم الأرصاد والفيزياء.
ظل الطقس يُعد من أعقد الظواهر وأكثرها تقلبًا. حتى اليوم، ما زال التنبؤ به محدودًا نسبيًا. لكن ما كنا نظنه "لا قانون له"، صار يُدرَس بمعادلات ديناميكية وحسابات احتمالية دقيقة ضمن ما يُعرف بـ"نظرية الفوضى". فحتى الفوضى، في الحقيقة، لها نمط خفي يُكتشف تدريجيًا.
كانت ولادة صفات غريبة في الأبناء تُنسب إلى الحظ أو "الجنّ". حتى ظهر مندل بقوانينه الجينية، ثم جاء الحمض النووي ليكشف المنظومة الكاملة لما كان يُحسب مصادفة.
تستخدم بعض فروع العلم مفهوم العشوائية كأداة منهجية، لا كمعتقد. فعندما نقول إن توزيع الجينات يتم "عشوائيًا"، نعني بذلك أنه يخضع لاحتمالات، وليس أنه بلا سبب. الاحتمال أحيانًا يكون تمثيلًا لعجزنا عن معرفة التفاصيل، لا غيابها. فحين نرمي نردًا ونقول إن احتمال ظهور الرقم 6 هو 1/6، لا يعني ذلك أن الرقم ظهر بلا سبب، بل أن معادلات الحركة والتصادم معقدة جدًا لنحسبها بدقة.
يشبه الكون كتابًا مكتوبًا بلغة لم نفك شيفرتها بالكامل بعد. العشوائية التي نراها قد تكون كلمات من فصل لم نقرأه بعد. كلما تقدم العلم، انكشفت أجزاء من هذه اللغة: من قوانين نيوتن إلى نسبية آينشتاين، ومن الوراثة إلى الذكاء الاصطناعي. ومع كل اكتشاف، يتقلص حجم الفوضى، وتتسع دائرة النظام.
يسعى العلماء اليوم إلى "نظرية كل شيء" تجمع بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة. هذه النظرية – إن ظهرت – قد تضع حدًا لفكرة العشوائية المطلقة، وتظهر أن الكون في جوهره أكثر انسجامًا مما كنا نظن. فحتى الصدفة قد تكون وهمًا تولد من الجهل، لا من الواقع.
الكون لا يسير بالصدفة المطلقة، بل وفق قوانين بعضها نعرفه، وبعضها لا يزال في طيّ الغموض. ما يبدو لنا فوضى قد يكون مجرد "نظام بلا ترجمة". ومع كل خطوة يخطوها العلم، يتضح أن حدود الصدفة تتراجع، وأن ما ظنناه بلا معنى، يحمل في طياته نظامًا مدهشًا.
"إننا لا نكتشف في العلم الفوضى، بل نكتشف أننا كنا جاهلين بالقانون."
ومع توسع أفق الإدراك، يظهر الكون كما هو: لوحة هائلة، مدهشة، منضبطة، تنتظر من يكمل رسمها بالحبر العلمي والعين الفلسفية.