لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
قبل أن نبدأ، دعني أطلب منك أمرًا بسيطًا: اقرأ هذه الكلمات بعقل منفتح لا تحكمه الأحكام المسبقة، ولا تحفزه غريزة التصيد أو الدفاع. أعلم جيدًا أنك حريص على الدين، كما أنا حريص عليه.. لكن دعنا، هذه المرة، نحاول أن نفكر خارج القوالب المعتادة، نناقش الفكرة لا النية، ونبحث عن الحقيقة لا عن
الخصومة.
هيا نبدأ
حين ننظر إلى واقع العالم اليوم، لا يسعنا إنكار تفوق الغرب في مجالات متعددة: من التقدم العلمي إلى ترسيخ أنظمة الحقوق والقوانين في بلدانهم وفي مجتمعاتهم، ومن إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية إلى تطوير أنماط التفكير المؤسسي والإنتاجي. هذا التفوق، شئنا أم أبينا، ليس مرده إلى تفوّق ديني أو أخلاقي بحد ذاته، بل إلى اشتغال دؤوب على ميادين محددة: العلم، النظام، المعرفة، المؤسسات، والحقوق.
ومع ذلك، لا تزال بعض النخب الثقافية والدينية في عالمنا العربي والإسلامي تُصرّ على أن مفتاح النهضة يكمن فقط في "العودة إلى الدين". وهي دعوة في ظاهرها طيّبة، ولكن في جوهرها كثيرًا ما تكون تحويلاً للأنظار عن موضع الخلل الحقيقي، وتغليفًا للعجز بمفردات قدسية تعفي من المسؤولية وتسوّغ التراجع.
لا. لم يتفوق الغرب علينا لأنهم أكثر صلاةً، أو لأن كنائسهم أكثر ازدحامًا، أو لأنهم أكثر حرصًا على شعائرهم الدينية. بل على العكس، كثير من المجتمعات الغربية قد شهدت انحسارًا عامًا في التدين التقليدي، لكن ذلك لم يمنعها من أن تتقدم علميًا وتكنولوجيًا، وأن تبني أنظمة قانونية تُحترم، ومؤسسات شفافة، وبيئات إبداعية تفتح المجال للكفاءات بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس.
إذن، موضع البحث ليس الدين كهوية، بل أدوات النهضة: العقل، التنظيم، الحرية، الحقوق، التعليم، العمل المؤسسي، احترام الوقت، الابتكار.. هذه هي مفاتيح القوة التي علينا أن ندرسها.
ليس الغرض من هذا الطرح الاستهانة بالدين أو إقصائه، بل التنبيه إلى أننا كثيرًا ما نخطئ زاوية النظر. فالدين في ذاته يمكن أن يكون محفزًا على النهضة، لكنه ليس بديلًا عن أدواتها. لا يمكن للصلاة وحدها أن تُخرج طائرة من مصنع، ولا للوعظ وحده أن يؤسس نظامًا صحيًا أو قضائيًا عادلًا.
لقد ظللنا نستهلك عقولنا في جدالات لاهوتية، وصراعات مذهبية، وولاءات طائفية، في حين أن الأمم التي نهضت قد أدارت صراعاتها الكبرى داخل مختبرات ومكتبات ومحاكم ومدارس ومراكز أبحاث.
نحتاج إلى مراجعة جذرية لأولوياتنا الفكرية والثقافية. آن لنا أن نُعيد تعريف موضع الجهد العقلي: بدلاً من أن نبذله في "التديّن الشكلي" أو "إثبات التفوق الديني"، فلنبذله في تعلّم إدارة الدولة، وتطوير التعليم، وتطبيق البحث العلمي، وبناء أنظمة اقتصادية عادلة، وتأمين الحقوق، وتكريس المساءلة والشفافية.
نحتاج إلى تنويع الأدوار: لتكن هناك طائفة تتفقه في الدين بعمق، كما نصّ الشرع، لكن يجب أن يُستثمر الجهد الأكبر لبقية الناس في بناء المهارات العلمية والتقنية والبحثية، بعد أن نضمن تحصيل الضروريات من الدين خلال التعليم العام. بهذه الطريقة يُثمر الدين ولا يُستغل للهروب من العمل.
إن الصراع الحقيقي ليس بين المتدين وغير المتدين، ولا بين حضارة إسلامية وغربية، بل بين مجتمعات قررت أن تواجه مشكلاتها بصدق، وأخرى تُجيد التهرب منها بتبريرات مقدسة. بين عقول تصنع أدوات النهضة، وأخرى تكتفي بالترحّم على الماضي وتكفير المستقبل.
علينا أن نوجّه بوصلة البحث نحو العلم والمعرفة والنظام والحق والعدل.. ففي هذه المساحات يكمن التفوق الذي نرجوه.