لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في شتاء صنعاء، حين تتسلل البرودة من نوافذ الليل وتستقر في العظام، كنت أستيقظ كل سبت فجرا، أتهيأ لرحلةٍ أسبوعيةٍ إلى جامعة حجة حيث كنت اعمل حينها. حقيبة صغيرة، كتاب في اليد، وكثير من الصبر، ثم إلى حيث تنتظرنا "البيجو" الفرنسية القديمة، والتي صارت تُعرف بين اليمنيين باسمٍ لا تخطئه أذن: "تابوت الموت".
لم تكن تلك التسمية مجازًا، بل أقرب إلى وصفٍ دقيق لسيارة صُممت لستة ركاب، لكنها في بلادنا صارت تتسع لتسعة غصبا عنها. كنا نتكور فيها كأننا حبات قهوة محشورة في مطحنة، بلا متسع للحركة، بلا نوافذ، بلا هواء. المقعد الأخير كان ملاذي، رغم ضيقه، لأنه الأقل زحامًا من سواه. الأمامي محجوز للعائلات، والوسط يعج بالركاب والصخب.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، كثيرًا ما يركب معنا مدخنٌ ثقيل الظل، ينفث دخانه دون اكتراث بمن حوله، كأننا مجرد فراغات في المكان لا بشر. وإن كنت محظوظًا، عمل الكاسيت، وأطلق الأغاني الشعبية التي تغطي على أنين الطريق، أما إن كنت تعيس الحظ، فالصمت والدخان هما رفيقاك طوال الرحلة.
ثلاث ساعات تقطعها البيجو بين صنعاء وحجة، تمر بعمران حيث نفطر، ثم نواصل الطريق الملتوي كثعبان عبر المرتفعات الباردة والمنعطفات الحادة. طريقٌ جميل في رسمه، خطرٌ في حقيقته. ومع ذلك، كنا نضحك.
أذكر دكاترة عراقيين كانوا يدرّسون معنا في جامعة حجة. كنت ألتقي أحدهم أحيانًا في الرحلة، وندردش عن الحياة، الناس، التعليم، الموت المؤجل في تلك السيارات. وكان أكثر من واحد منهم يردد عليّ ملاحظة تكررت حتى حفظتها: "أنتم تساهلتم كثيرًا.. في كل شيء".
كانوا يندهشون من طريقة حديثنا الجافة، من غياب كلمات المجاملة، من اختفاء "من فضلك" و"لو سمحت" و"شكرًا". كل شيء يُقال بصيغة الأمر: "انزل"، "افتح"، "تحرك". كأننا في معسكر لا مجتمع.
لكن الأكثر مرارة، كما قالوا، هو احتقارنا للسلامة. لا طفاية حريق. لا التزام بعدد الركاب. لا مرايا. لا أضواء سليمة. حتى تفقد السيارة قبل السفر صار ترفًا. والبترول؟ يُملأ في الطريق. لم أرَ سائقًا واحدًا جاء بسيارته ممتلئةً بالبترول. كأن التخطيط جريمة.
نعم، كنا نركب البيجو، نضحك، نتحادث، نروي النكت، ونتبادل القصص. كنا نعيش الرحلة كأننا على موعدٍ مع حافة الموت.. ثم ننجو منها مؤقتًا.