لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
يبدو السؤال الذي يتكرر في الوعي المجتمعي: "لماذا لا تستقر بلادنا؟ ولماذا لا ينقطع عنا الصراع؟" سؤالًا بريئًا في ظاهره، ولكنه غالبًا ما يُطرح بطريقة تجنب مساءلة الذات أو تفكيك البنى العميقة التي تغذي هذا الاضطراب المستمر. في الواقع، كثير من الإجابات تنزع إلى تبسيط الظواهر أو إسقاط الأسباب على عوامل خارجية أو تاريخية مبهمة، في حين يتم التغاضي عن مكامن الخلل البنيوي في المجتمع ذاته، وعلى رأسها: العنصرية البنيوية المتجذّرة في النسيج الاجتماعي.
العنصرية.. منظومة غير مرئية تحكم الجميع
ليست العنصرية في ذلك المجتمع مجرد ممارسات فردية أو مزاجية عابرة، بل هي بنية متجذّرة في الوعي الجمعي، تستند إلى تقسيمات طبقية مغلّفة برداء “الهوية” أو “الكرامة” أو “النسب”. هذه العنصرية تتخذ أشكالًا متعددة:
عنصرية النسب والسلالة، حيث يتم اختزال قيمة الإنسان في نسبه، ويُصنف الآخر وفقًا لخط انحداره العائلي.
العنصرية المناطقية، التي تُعلي من شأن جهة جغرافية أو منطقة أو قبيلة على حساب أخرى.
التمييز المهني والمشيخي، حيث يُحاط بعض المسميات الاجتماعية (كالشيخ أو القبيلي أو غيرها) بهالة من التفوق، في حين تُنزع الشرعية المجتمعية عن مهن أو أدوار أخرى، خاصة تلك المرتبطة بالفئات المستضعفة.
هذه التصنيفات ليست محايدة، بل تُمارس كقوى ناعمة تشرعن الامتيازات وتمنح شرعية للهيمنة والإقصاء، وتنتج أجيالًا مشوهة نفسيًا، مفعمة بالعُقد إما من التفوق أو من الدونية.
الشعر.. سلطة رمزية ترسّخ الانقسام
حتى الشعر – هذا الفن الذي يُفترض به أن يسمو على الانحياز – يتحول في ذلك المجتمع إلى أداة لإعادة إنتاج العنصرية، عبر تمجيد الأنساب، وتحقير الآخر، وتكريس الخطاب الإقصائي في وعي الأجيال. إن ما يُقدّم للأطفال واليافعين ليس فقط أدبًا، بل هو جرعات يومية من التشكيل الطبقي الرمزي، الذي يصنع ذاتًا مأزومة لا ترى في الآخر سوى تهديد لهويتها أو مرتبة أقل منها في سلّم “الاستحقاق”.
النتيجة: مجتمع مفكك ومشغول بذاته
ينتج عن هذه البنية:
مجتمع منقسم على ذاته، لا يمتلك هوية وطنية جامعة بقدر ما يتماهى مع هويات فرعية متنازعة.
احتقار متبادل بين الفئات، يُترجم إلى صدامات ظاهرها سياسي أو اقتصادي، لكن جوهرها نفسي وهوياتي.
نظام توزيع ظالم للثروة والسلطة، تهيمن فيه الفئات “العليا” على المقدرات، بينما تُقصى الفئات الأخرى أو تُستخدم كأدوات دونية.
الخطاب والتواطؤ الجمعي
الخطير أن هذا الخلل لا يُواجه بالمساءلة أو النقد الموضوعي، بل غالبًا ما يُغلف بالسكوت أو التبرير أو النفاق الاجتماعي. يتم التسامح مع الجرائم إذا صدرت من فئة “محصنة أو عالية”، بينما تُشن الحملات على الفئات الضعيفة إذا وقعت في الخطأ نفسه. إنه تطفيف اجتماعي، وممارسة فجّة للتمييز الذي يجعل من "العدل" نفسه امتيازًا طبقيًا وليس مبدأ عامًا.
بل إن المزاح الشعبي اليومي – وهو انعكاس غير واعٍ للبنية الاجتماعية – يعج بالصور العنصرية، والسخرية من اللهجات، والمهن، والمناطق. المزاح نفسه يتحول إلى أداة اغتيال معنوي ناعم، يتراكم ليصنع احتقارًا جماعيًا لا واعيًا.
الظلم المقنَّع والمكافأة المعكوسة
النتيجة الطبيعية لهذا الخلل البنيوي أن المجتمع:
يكافئ الظالم إذا كان من الفئة "الرفيعة"،
ويُدين المظلوم إذا كان من الفئة "الدنيا"،
بل وينحاز للظالم ويُجمّله خوفًا أو طمعًا، بينما ينكّل بالضعيف لأنه لا يمتلك شبكات حماية.
والمفارقة أن هذا الظلم لا يُنظر إليه كسبب للفوضى، بل يُبرر على أنه “واقع معتاد”، ما يُفضي إلى إعادة إنتاجه بصورة أكثر عنفًا وقبحًا، ويؤسس لديمومة اللااستقرار وكأنها قدر لا فكاك منه.
خاتمة: مجتمع مريض بترتيب طبقاته أكثر من اهتمامه ببناء وطنه
حين يُصبح "العدل" وجهة نظر، وتُقاس قيمة الإنسان بأصله أو نسبه أو منطقته أو صورته، فإننا لا نتحدث عن مجتمع يبحث عن استقرار، بل عن ساحة صراع متواصل بين الامتيازات والاحتقانات. إن غياب المساواة ليس مجرد خلل إداري أو سياسي، بل هو مرض في القلب الثقافي للمجتمع. والنتيجة المنطقية لهذا المرض: مجتمع لا يستقر.. لأنه لا يعرف العدل، ولا يريد أن يعرفه.
الجزء الثاني:
اليمن.. من أرض السعيدة إلى رهينة الفساد والخراب
حين تتحول المؤسسات إلى أداة لنهب الثروة، يصبح الفقر والحرب سياسةً لا قدرًا
.
في أرضٍ كان اسمها يومًا اليمن السعيد، حيث الجبال تعانق السماء ، والوديان تتغنى برائحة البن، وُلدت حضارات وارتفعت ممالك وسارت القوافل تحمل البخور والذهب. من مأرب بلقيس، إلى سواحل عدن، كان التاريخ يكتب هنا بمداد العظمة.
واليوم؟ صار الاسم سؤالًا حارقًا: لماذا فشلنا؟ كيف تحوّل السعيد إلى جرح مفتوح على الخرائط، وإلى وطن يطارده الخراب جيلًا بعد جيل؟
.
كتاب يضع إصبعه على الجرح
وجدت الجواب – أو جزءًا منه – في كتاب أثار ضجة عالمية: "لماذا تفشل الأمم" لدارون عجم أوغلو وجيمس روبنسون. كتاب ليس عن الأرقام والنظريات الباردة، بل عن روح الشعوب ومصيرها. المؤلفان مزّقا ستار الأوهام التي نختبئ خلفها: لا الجغرافيا مسؤولة عن فقرنا، ولا ثقافتنا عائق أمام التقدم.
الجغرافيا؟ اليمن يقف على واحد من أهم الممرات البحرية في العالم، وتحت أرضه نفط وغاز، وفوق أرضه شمس ورياح تكفي لتوليد الطاقة لقرون. الثقافة؟ لو كانت هي العائق، لما نهضت كوريا الجنوبية من رماد الحرب بينما جارتها الشمالية غرقت في الفقر رغم أن التاريخ واللغة والدين واحد.
.
المرض اسمه: المؤسسات الاستخراجية
الخلل الحقيقي – كما يقول الكتاب – هو في المؤسسات التي تحكمنا. في اليمن، هذه المؤسسات ليست لخدمة الناس، بل لاستخراج الثروة من أيديهم لصالح قلة تتحكم في كل شيء.
إنها شبكة متجذرة: امتيازات تُمنح للمقربين من السلطة، مشاريع تنمية تتحول إلى غنائم، عوائد نفطية تذوب في حسابات خاصة. الشاب الطموح ينهكه الفساد قبل أن يبدأ، والمزارع يخاف على أرضه أكثر مما يخاف من الجفاف، والفرص لا تُوزع بالجدارة بل بالواسطة والانتماء.
.
الدائرة الجهنمية
اليمن عالق في ما يسميه المؤلفان "الدائرة المفرغة": النخبة تستخدم سلطتها السياسية لتصميم اقتصاد يخدمها، ثم تستخدم ثروة هذا الاقتصاد لتعزيز قبضتها على السياسة، وهكذا.. حلقة من الفساد والقمع لا تنكسر إلا لتلتف حول أعناقنا من جديد.
وحين يطالب الناس بالتغيير، تشتعل الحروب لا دفاعًا عن الوطن، بل عن امتيازات مهددة. السلطة تصبح غاية بحد ذاتها، وليست وسيلة لحماية الشعب أو بناء المستقبل.
.
الخوف من النهوض
هنا يظهر ما يسميه الكتاب "الخوف من التدمير الخلاق": أي إصلاح حقيقي يعني تحطيم الاحتكارات وفتح الباب لمنافسة شريفة وولادة قوى اقتصادية وسياسية جديدة. بالنسبة للنخبة الحاكمة، هذا أشبه بانتحار طوعي. لذلك تفضّل استمرار الفقر والبطالة والحرب، على أن ترى منافسًا يكبر أو فكرة جديدة تنتشر.
.
نقطة التحول
لكن التاريخ ليس طريقًا مغلقًا. أحيانًا تأتي مفاصل حاسمة، لحظات يمكن أن تعيد كتابة القواعد. إما إعادة تدوير النظام نفسه بوجوه جديدة، أو القفز نحو عقد اجتماعي جديد ومؤسسات شاملة تعطي لكل يمني حقه وتحترم كرامته.
.
الخلاصة.. والنداء
ما يحدد مصيرنا ليس موقعنا على الخريطة ولا ما نردده عن أنفسنا، بل المؤسسات التي نبنيها أو نتركها تبنينا على مزاجها. واليمن لا ينقصه الرجال ولا الأفكار، بل ينقصه كسر تلك الدائرة التي تسجننا منذ عقود.
إذا كان الماضي قد صاغه من يملك السلاح والمال، فإن المستقبل يجب أن يصوغه من يملك الحلم والإرادة والكفاءة والخير، وطنا لكل اليمنيين وبكل اليمنيين.
وإلا فسيبقى السعيد اسمًا على خريطة، وجرحًا في الذاكرة.