لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
منذ أن تبلورت فكرة الذرة في مخيلة الإنسان بوصفها الوحدة الأساسية لبنية الكون، لم تتوقف العقول الفيزيائية عن محاولة سبر أغوارها، وفك ألغازها، حتى تحقق الإنجاز الأعظم في تاريخ العلم: شطر الذرة. لم يكن هذا الفتح العلمي وليد الصدفة، بل جاء نتاج قرون من التأمل والتجريب، حيث تجاوز الإنسان حدود المعرفة التقليدية إلى آفاق جديدة اخترقت قوانين الطبيعة ذاتها.
في عام 1938، أعلن أوتو هان وفريتز شتراسمان، مدعومين بالتفسير النظري من ليز مايتنر وأوتو فريش، عن اكتشاف الانشطار النووي. هذا الحدث لم يكن مجرد إنجاز علمي، بل كان بمثابة زلزال هز أركان الفيزياء، إذ كشف عن إمكانية تحرير طاقة هائلة من أعماق المادة، عبر سلسلة تفاعلات متتابعة تبدأ بكسر نواة عنصر ثقيل مثل اليورانيوم أو البلوتونيوم. لقد خرج "المارد" من قمقمه، كما وصفه البعض، ليجبر الإنسان على مواجهة تبعات عبقريته، لا ليحقق أمانيه فحسب.
كان الأمل الأول لاستخدام الطاقة النووية هو توظيفها في خدمة البشرية، عبر توليد الكهرباء وتطوير مصادر طاقة نظيفة. غير أن مسار الأحداث، وتحديدًا في ظل أجواء الحرب العالمية الثانية، حوّل هذا الاكتشاف إلى أداة دمار هائلة. فقد وُضعت النظرية على طاولة العسكريين، لتتحول إلى مشروع "مانهاتن" الذي أفضى إلى إنتاج أول قنبلة نووية، ثم إلى كارثة هيروشيما وناجازاكي، حيث أُطلقت السحابتان النوويتان اللتان غيّرتا وجه التاريخ.
ما كان يُحتفى به كأعظم إنجاز علمي في القرن العشرين أصبح في الوقت ذاته أكبر تهديد وجودي عرفه الإنسان ضد نفسه. ومع ذلك، لم تتوقف مسيرة البحث العلمي، بل استمرت في استكشاف آفاق أوسع، حيث تتجه الإنسانية اليوم إلى استثمار الانشطار النووي، بل وتطوير تقنيات الاندماج النووي، لمواجهة تحديات الطاقة والتغير المناخي.
المفارقة الكبرى أن الفيزيائيين الذين قادوا هذا التحول، من آينشتاين إلى أوبنهايمر، كانوا أنفسهم من وقفوا في منتصف الطريق بين المجد والرعب، بين المعرفة والقوة، بين الحكمة والدمار. لقد كتبوا الرسائل والبيانات ينددون باستخدام اختراعاتهم في الحرب، مؤكدين أن ضمائرهم لم تكن بمنأى عن نتائج أبحاثهم.
لقد علّمنا الانشطار النووي درسًا لا يُنسى: أن العقل البشري قادر على شطر ما لا يُشطر، لكنه ليس دائمًا قادرًا على احتواء ما يحرره. إن التقدم العلمي، مهما بلغ من عظمة، يظل رهينًا بمدى وعي الإنسان بمسؤولياته الأخلاقية والاجتماعية. فالعلم بلا ضمير قد يتحول إلى لعنة، بينما العلم المقرون بالحكمة قد يكون أعظم هبة للبشرية.
خلاصة:
إن قصة الذرة المنشطَرة ليست مجرد حكاية علمية، بل هي ملحمة إنسانية تعكس الصراع الأزلي بين المعرفة والقوة، وبين الأمل والخوف. وما زال السؤال قائمًا: هل سننجح يومًا في احتواء المارد الذي أخرجناه من قمقمه، أم سيظل يهدد وجودنا ما لم نتحلَّ بالحكمة والمسؤولية؟