لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
"العلم يتغير".. عبارة نسمعها كثيرًا في النقاشات، وغالبًا ما تُستخدم لتبرير التشكيك في نتائج علمية ثابتة أو لرفض ما لا يتوافق مع ما تعلّمناه في الصغر أو ما استقر في الأذهان من معلومات قديمة. غير أن هذه العبارة، رغم صحتها في ظاهرها، تُستخدم في كثير من الأحيان استخدامًا مغلوطًا، فتتحول من حقيقة علمية إلى أداة للهروب من التفكير أو من مواجهة الواقع.
دعونا نضع الأمور في نصابها: نعم، العلم يتغير. ولكنه لا يتراجع عن الحقائق، ولا ينقلب على نفسه فجأة، ولا يتصرف كطفل يبدّل رأيه بين الصباح والمساء. بل إن هذا "التغير" الذي نراه في العلم ليس سوى تراكم معرفي منهجي، يُبنى على أسس، وينمو مع الوقت، ويتقدم إلى الأمام لا إلى الوراء.
لماذا يبدو العلم وكأنه يتغير؟
السبب في هذا الانطباع يعود إلى طبيعة العلم نفسه. فالعلم لا يدّعي الكمال، ولا يزعم أنه يملك الحقيقة المطلقة. العلم هو عملية استكشاف دائمة، تطرح الأسئلة وتعيد فحص الأجوبة، وتعدل الفرضيات، وتُحسّن الأدوات، وتُوسّع المدارك. هذه الديناميكية هي سر قوّته، لا نقطة ضعفه. فحين يقول لك العالم: "كنا نعتقد كذا، لكننا اليوم نرى الأمور بطريقة أفضل"، فهو لا يُظهر تخبطًا بل يقدم لك دليلًا على صدقه، لأنه لا يتمسك بالخطأ ولا يقدّس الموروث العلمي، بل يصححه متى ما ظهرت أدلة جديدة.
لكن، وهنا جوهر المسألة، ليس كل ما في العلم عرضة للتبدّل الكامل. فهناك مستويات مختلفة من المعرفة العلمية:
بعض الأمور تكون فرضيات مبدئية في طور الاختبار، وهذه تتغير كثيرًا.
وبعضها يكون نظريات قوية مدعومة بأدلة ضخمة، وهذه تتطور دون أن تنهار.
وبعضها يكون حقائق راسخة مدعومة بأدلة متعددة من تخصصات مختلفة، ولا يمكن دحضها إلا بثورة معرفية شبه مستحيلة.
المشكلة أننا نخلط بين هذه المستويات، فنساوي بين ما هو قيد الفحص وما هو مؤكد.
حقائق لا رجعة فيها: أمثلة صارخة
لنأخذ مثالًا شائعًا: كروية الأرض.
هذه ليست "وجهة نظر علمية"، ولا "رأي قابل للنقاش"، بل حقيقة مثبتة تجريبيًا وتجريبيًا وتجريبيًا. الأدلة على كروية الأرض تتجاوز مجرد الرؤية بالعين المجردة. لدينا:
صور مباشرة من الأقمار الصناعية ومركبات الفضاء.
حسابات دقيقة في علم الجاذبية لا يمكن أن تُفهم إلا في سياق كروية الأرض.
تطبيقات حياتية مثل الملاحة الجوية والبحرية تعتمد على هذا الشكل الكروي لتحديد المواقع.
اختبارات تاريخية بسيطة، مثل تجربة إراتوستينس قبل أكثر من ألفي عام لقياس محيط الأرض باستخدام الظل فقط.
فهل من المعقول أن يأتي يوم ما ونكتشف أن "كل هذا كان خطأ"؟ لا. ليس لأننا نرفض احتمال الخطأ، ولكن لأن الاحتمال نفسه أقرب إلى المستحيل علميًا، لأنه سيتطلب منا إعادة تفسير آلاف الأدلة المنفصلة والمتماسكة بطريقة واحدة بديلة أكثر إقناعًا… وهذا لم يحدث ولن يحدث.
مثال آخر: نظرية التطور.
يظن البعض أنها "فرضية" أو "اعتقاد دارويني"، بينما هي في الحقيقة نظرية علمية مدعومة بأدلة متداخلة من علم الحفريات، وعلم الوراثة، والتشريح المقارن، والتطور الجزيئي، والبيولوجيا السكانية. صحيح أن هناك نقاشات داخلية في المجتمع العلمي حول "تفاصيل آليات التطور" أو "سرعة الطفرات"، لكن لا يوجد عالم بيولوجيا واحد اليوم يشكك في المبدأ الأساسي: أن الكائنات تتغير عبر الزمن، وأن الكائنات الحالية هي نتاج عمليات تراكمية من التغير والانتخاب الطبيعي.
لماذا التغير إذن؟ وما الذي يتغير؟
الذي يتغير في العلم ليس الحقائق الكبرى، بل طرائق الشرح والتفسير والنمذجة. فحين نكتشف أدوات جديدة أو نحصل على بيانات أكثر دقة، نعيد ترتيب فهمنا للتفاصيل. مثل من يشاهد لوحة فنية من بعيد فيظنها منظرًا طبيعيًا، ثم يقترب أكثر فيدرك أنها مشهد معقد يضم تفاصيل لم يرها أول مرة. المشهد لم يتغير، بل وضوح الرؤية هو الذي تغير.
فالعلم لا يقول "أرضنا ليست كروية"، بل يقول "ظننا سابقًا أنها كرة مثالية، لكننا وجدنا أنها مفلطحة قليلاً عند القطبين".
ولا يقول "لم يعد هناك تطور"، بل يقول "ظننا أن الانتخاب الطبيعي هو الآلية الوحيدة، ثم اكتشفنا دورًا أكبر للطفرات العشوائية والجينات الراجعة".
بين الحقيقة والجهل المغلف بالتشكيك
إن من يُردد بأن "العلم بيتغير"، غالبًا ما يستخدم هذه العبارة كـ درع نفسي لحماية معتقداته أو لتبرير رفضه لتغيير فكره. فيرفض الأدلة العلمية الجديدة لأنها "قد تتغير يومًا"، بينما يقبل أي خرافة ثابتة لأنها توفر له الراحة الذهنية.
لكن العلم لا يهتم براحتنا النفسية، بل يسعى للحقيقة. قد يزعجنا، يصدمنا، يخلخل ما اعتدنا عليه، لكنه في نهاية الأمر أصدق أداة عرفها البشر لفهم العالم.
والحقيقة التي يجب أن نقبلها، إن أردنا العيش بعقل ناضج، هي أن المعرفة العلمية ليست مطواعة للأهواء، وأن طريق الفهم محفوف بالشوك والشك، لكن نهايته هي ضوءٌ أقرب إلى اليقين من أي طريق آخر.
الخلاصة
العلم يتغير.. نعم.
لكنه لا يعتذر عن وجود الجاذبية غدًا، ولا يتراجع عن كروية الأرض بعد ألف سنة.
ما يتغير هو الشرح، لا الحقيقة.
وما يتطور هو النموذج، لا الواقع.
ومن يستخدم "تغير العلم" كذريعة لرفض المعرفة، لا يفهم العلم ولا يقبل المعرفة.