لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في بدايات القرن العشرين، حين كانت جائزة نوبل تُمثّل ذروة الاعتراف بالعبقرية الفردية، كان يكفي أن يجلس عالم واحد في مختبره، ومعه أنبوب اختبار ودفتر ملاحظات، ليغيّر مجرى التاريخ. كان الاكتشاف حينها يُنسب إلى "العالم"، لا إلى "البيئة". لكنّ الزمن تغيّر، والعلم أيضًا لم يعد علم أفراد، بل علم منظومات متكاملة، تتضافر فيها العقول والمؤسسات والأمم.
اليوم، عندما يُعلَن عن فوز عالم بجائزة نوبل، فإن ذلك الفوز ليس نتاج فكرة عبقرية واحدة بقدر ما هو ثمرة منظومة كاملة من الفكر والتمويل والبنية التحتية والتعليم والسياسات الوطنية. لقد تحولت نوبل من تكريم "العبقري المنعزل" إلى تكريم "العقل الجمعي للأمم المتقدمة".
من المختبر الفردي إلى النظام الوطني للبحث
في الماضي، كان العالم يعتمد على ذكائه الفطري ومهارته الشخصية، أما الآن فلا بد له من بيئة علمية خصبة تتيح له التفكير والتجريب والتطبيق.
فعندما يفوز عالم ياباني أو ألماني أو أمريكي بنوبل، فإن خلفه يقف:
نظام تعليمي متين بدأ منذ الطفولة بتعزيز الفضول العلمي لا الحفظ.
اقتصاد قوي استطاع أن يخصص جزءًا من موازنته للبحث العلمي دون أن يرى فيه ترفًا.
دولة راعية للعلم تؤمن بأن تمويل الأبحاث ليس عبئًا بل استثمارًا طويل الأجل.
فريق بحثي متكامل من العلماء والفنيين والمبرمجين والمهندسين، يشكلون عقلًا واحدًا متوزع الأدوار.
الفوز بنوبل اليوم هو نتيجة نظام بيئي علمي متكامل، وليس مجرد شرارة ذكاء لحظة في رأس عالم واحد.
الفضل للأمة قبل الفرد
قد يبدو من السهل تعليق الميدالية على صدر الباحث، لكن خلف تلك الميدالية هناك آلاف الأيدي والعقول التي لم تذكرها الصحف.
فالسياسي الذي خطط لبناء دولة مستقرة وآمنة أسهم في خلق مناخ يصلح للبحث،
والاقتصادي الذي وفّر التمويل أسهم في بناء المختبر،
والمهندس الذي صمّم الأجهزة الدقيقة مكّن العلماء من القياس والتجريب،
والمعلم الذي غرس حب العلم في الطالب كان أول من أشعل تلك الشرارة البعيدة.
إنها سلسلة طويلة من الفضل المتبادل، تنتهي بتتويج اسم واحد فقط، بينما الحقيقة أن الجائزة — في جوهرها — تعود إلى الأمة التي أوجدت ذلك الباحث وأتاحت له أن يفكر بحرية ويجرّب دون خوف.
نوبل.. مرآة لتقدّم الشعوب
حين نتأمل خريطة جوائز نوبل في المئة عام الماضية، نلاحظ أنها لا توزَّع عشوائيًا.
هي تتجمع في بلدان محددة: السويد، الولايات المتحدة، ألمانيا، اليابان، فرنسا، بريطانيا..
وليس السبب أن شعوب هذه الدول أكثر ذكاء، بل لأنها أكثر تنظيمًا واستثمارًا في المعرفة.
إن نوبل أصبحت مرآة صافية تعكس البنية العلمية والثقافية للأمم، لا عبقرية الأفراد فقط.
نحو رؤية جديدة للعبقرية
في زمننا هذا، لم تعد العبقرية أن تعمل وحدك، بل أن تقود فريقًا يعمل بعقل واحد وقلب واحد.
العالم الفائز بجائزة نوبل اليوم هو في الحقيقة قائد أوركسترا علمية، يعرف كيف يوحّد العقول المختلفة في سيمفونية اكتشاف واحد.
ولذلك، حين نحتفي بالفائز، يجب أن نحتفي بالبيئة التي جعلت فوزه ممكنًا. فلو وُضع ذلك العالم في بلد لا يقدّر العلم، ولا يمول الأبحاث، ولا يصنع أجهزته بنفسه، لما خرج من معمله إلا باليأس لا بالنوبل. ولهذا ليس من الإنصاف التفاخر بجائزة لم تساهم في صناعتها بأي شكل من الأشكال.
وختاما ، إن جائزة نوبل، في جوهرها الحديث، لم تعد جائزة للفرد بل للأمة التي صنعت من العلم ثقافة وطنية لا مغامرة فردية.
ولهذا فإن شكر الفائزين يجب أن يتوجه أولًا إلى أوطانهم التي آمنت بالعلم طريقًا للكرامة، قبل أن يتوجه إلى أسمائهم الفردية.
فوراء كل عالم نوبل، دولة نوبل..
ودون دولةٍ تؤمن بالعلم، لا عبقرية تنجو، ولا ميدالية تلمع.