لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
ما الحياة إلا رحلة بحث، مسيرة لا تنقطع نحو إشباع النقص الذي يسكن أعماقنا، كأننا منذ لحظة الوعي الأُولى كُتب علينا أن نظلّ تائهين بين حاجاتنا، ساعين وراء سراب الاكتمال. غير أنّ هذا النقص ليس واحدًا عند الجميع، بل هو اختلاف جوهري يعكس تنوّع النفوس واختلاف طبائعها، فمنهم من يلهث خلف الحبّ، ومنهم من يسعى وراء المال، ومنهم من تُسكره نشوة السُّلطة، ومنهم من يكرّس حياته للفن أو الإبداع ومنهم من يُسخّر عمره للعلم والحقائق، وهؤلاء هم أصحاب سمو عقلي، لأن شرف البحث لا يكون إلا بشرف المطلوب.
ليس غريبًا أن نجد البشر متباينين في أشواقهم، فالرغبة في شيءٍ ما ليست سوى انعكاسٍ لما فُطر عليه الإنسان من نقصٍ داخلي يسعى إلى ملئه. فالعاشق يبحث عن المرأة لا لأنها مجرد كائنٍ آخر، بل لأنها في نظره انعكاسٌ لنصفه الضائع، يراها كقطعة من روحه أُبعدت عنه يومًا، ويعتقد أن اكتماله لا يتحقق إلا عبرها. أما من يبحث عن المال، فلعله يطلب الأمان أو يحاول أن يبني لنفسه عالمًا لا يخضع لقوانين العوز والاحتياج، لأن المال بالنسبة له ليس مجرد وسيلة، بل سدٌّ يحجب عنه مخاوف الفقر والضعف.
أما طالب السلطة، فهو ليس مجرد إنسان جشع يرغب في التحكم فقط، بل هو شخصٌ يرى أن السيطرة هي السبيل الوحيد لترك أثرٍ في هذا العالم، كأن وجوده لا يُثبت إلا بسطوته، وكأن الحياة بلا نفوذ ليست إلا عبورًا باردًا بلا معنى. لكن فوق كل هؤلاء، يقف الباحث عن العلم والحقائق، ذاك الذي لا يسعى خلف متاعٍ فانٍ أو لذّة عابرة، بل يسير في درب المعرفة لأنها وحدها تروي ظمأه، ولأن العقل عنده هو الكنز الذي لا يُفنى، ولأن فهم الحقيقة هو أسمى أشكال الانتصار على الجهل، وأرفع مراتب السمو الإنساني.
إذا كان البحث عن الحب والمال والسلطة يملأ الإنسان بالنشوة حين يحصل على مبتغاه، فإن البحث عن الحقيقة يُثقله بالحيرة ويزيده ظمأً كلما ارتوى. فالعلم، على عكس غيره من المطالب، لا يمنح صاحبه شعور الاكتمال، بل يفتح له أبوابًا أخرى من التساؤلات، حتى كأن كل إجابةٍ ليست سوى بدايةٍ لسؤالٍ جديد.
ولذا، كان العلماء والفلاسفة أكثر الناس معاناة، لأنهم كلما ظنوا أنهم بلغوا الحقيقة، اكتشفوا أن ما وصلوا إليه ليس إلا جزءًا صغيرًا من صورةٍ أكبر، صورةٍ لا يستطيعون رؤيتها كاملةً، لأن اتساعها يفوق قدرة العقل البشري. فالمعرفة ليست راحة، بل قلقٌ دائم، والبحث عنها ليس لذةً خالصة، بل ألمٌ ممزوجٌ بذهولٍ أمام عظمة الكون وغموضه اللامتناهي.
لعل المفارقة العظمى في الحياة تكمن في أن الإنسان، رغم أنه يبحث عن الاكتمال، إلا أنه لو وجده حقًا لشعر بالفراغ، فليس في العالم شيءٌ أكثر رعبًا من أن تصل إلى غايتك، لأن ذلك يعني أن رحلتك قد انتهت، وحين تنتهي الرحلة، ينتهي معنى الوجود.
ولهذا، فإن أعظم الناس ليسوا أولئك الذين وجدوا ما كانوا يبحثون عنه، بل أولئك الذين لا يزالون يسيرون، أولئك الذين لم يُغلقوا أبواب التساؤل، ولم يتوقفوا عن الطواف حول الحقيقة، ولم يسمحوا لأنفسهم بأن يسكنوا إلى وهم الاكتمال.
فربما لا يكون الهدف من الحياة أن نصل، بل أن نظلّ نبحث.