لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
كثيرًا ما يُختزل سؤال معنى الحياة في ثنائيةٍ شائعة: "العمل والحب". وقد يُغني هذان العنصران فعلاً حياة الإنسان بالانتماء والإنجاز، لكنَّ الاكتفاء بهما لا يجيب عن الشوق الأعمق للمعنى، ذاك الذي يتجاوز اللحظة ويخترق صمت الكون بحثًا عن البصمة الفريدة لكل فرد.
في هذا السياق، تبرز فكرتان تشكلان حجر الأساس في بناء حياة ذات مغزى: تحقيق المواهب الفطرية، وترك أثر إيجابي في العالم.
إنَّ لكل إنسان منحة خفية، قد تكون ميلًا فطريًا نحو الفن، أو قابلية للعلم، أو موهبة في الإصغاء وفهم الآخرين. هذه "البذور الوجودية" ليست رفاهية، بل دليل وجودنا الخاص. تجاهلها يعني خيانة الذات. وكما قال الفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون:
"الغاية العظمى للحياة ليست المعرفة بل الفعل، والمجد الحقيقي هو أن تكون نفسك."
فالموهبة، حين تُكتشف وتُنمّى، لا تُحقق فقط الإنجاز الفردي، بل تمنح شعورًا بالتماهي مع الوجود، كما لو أن الكون نفسه يقول لك: "هذا هو مكانك." في لحظة الإبداع أو الاكتشاف أو الأداء الصادق، يشعر الإنسان بأنه يؤدي دوره في المسرحية الكبرى، لا كمجرد ممثل عابر، بل كصوت لا يتكرر.
ولذلك، لا يكفي أن نعرف ما نُجيده، بل يجب أن نأخذه على محمل الرسالة لا التسلية، أن نحوله إلى مشروع نضوج دائم، نُخرجه من حيز "الإمكان" إلى حيز "الفعل".
أما الوجه الآخر للمعنى، فهو ما نتركه خلفنا. فالحياة ليست حكرًا على حاضرنا وحده، بل هي امتداد بين من سبقونا ومن سيأتون بعدنا. في هذا الامتداد تتجلى مسؤوليتنا: أن نكون نقطة ضوء في سلسلة الوجود، لا عبئًا عليه.
أن نترك أثرًا لا يعني بالضرورة إنجازات ضخمة أو شهرة مدوية. قد يكون الأثر تربية ابن صالح، أو إصلاح خطأ صغير، أو زرع شجرة، أو نشر فكرة ملهمة. إنها مساهمات صغيرة، لكنها كحبات الرمل التي تصنع الشاطئ.
قال الطبيب والفيلسوف ألبرت شفايتزر:
"المثل الأعلى ليس أن نعيش إلى الأبد، بل أن نترك شيئًا يستحق البقاء."
ما يدعو إليه التأمل الفلسفي تُصادق عليه الرسالات السماوية. فالدين، في جوهره، ليس سلسلة من الطقوس فحسب، بل دعوة إلى أن يحقّق الإنسان أفضل نسخة من نفسه، وأن يكون وجوده نافعًا لغيره.
وقد لخّص النبي محمد ﷺ ذلك بقوله الموجز البليغ:
"خيرُ الناس أنفعُهم للناس." [رواه الطبراني]
هذا الحديث الشريف يجمع بين تحقيق الذات (الخير الكامن في الإنسان) وتوجيهه نحو نفع الآخرين. فالدين لا يعارض الطموح، بل يباركه، ما دام مكللًا بالنية الصالحة والمقصد النبيل. ومواهبنا، من هذا المنظور، ليست ملكًا خاصًا، بل أمانة نسأل عنها: كيف استخدمناها؟ ولمن أفادت؟
بهذا المعنى، تصبح الحياة ساحة عبادة ممتدة: كل إتقان لموهبة، وكل نفع للناس، هو قُربى إلى الله، سواء أكان علمًا، أو خدمة، أو إبداعًا، أو كلمة طيبة.
تحقيق المواهب هو بحث في الداخل، أما ترك الأثر فهو امتداد إلى الخارج. الأول هو وعد بالتميّز، والثاني هو عهد بالمسؤولية. ومن التقاء هذين المسارين يولد المعنى الأسمى: أن نحيا حياةً لا تندم عليها ذواتنا، ولا تنساها الأرض.
والمفارقة الجميلة أن من يخلص لنفسه في تطوير موهبته، يجد أن هذه الموهبة نفسها تصبح جسراً نحو خدمة الآخرين. فالفن الذي نبدعه يلامس قلوب الناس، والعلم الذي نحصّله يداوي أجسادهم، والكلمة التي نكتبها قد تهدي حائرًا.
بعيدًا عن ضغوط العمل وتقلبات الحب، ثمة دعوة داخلية لا تخفت: أن نكون نحن، بكل ما فينا من مواهب دفينة، وأن نترك خلفنا أثرًا يبرر وجودنا في دفتر الزمان.
ليست الحياة رحلة بحث عن المعنى بقدر ما هي دعوة لصنعه، عبر ما نُتقنه، وما نُحسنه، وما نُضيفه لهذا العالم.
فمن عرف موهبته، وخدم بها غيره، فقد اقترب من سر الوجود، وسار على درب الصالحين.