لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في بكال، إحدى قرى ريمة ، حيث الجبال تنتصب نحو السماء، ولد شاعرٌ لا يشبه إلا الأرض التي أنجبته؛ ولد ياسين البكالي. لم تكن ولادته مجرد قدوم جسد إلى هذا العالم، بل كانت بذرة معنى، قُدّرت لها أن تنمو في تربة الألم، وتسقى بماء الفاقة، وتزهر في كفاح الإنسان.
من هناك، من حيث لا شيء يُعطى بلا ثمن، تسلّل الحرف إلى قلبه الشفاف، وظل يُنصت لصوت الريح فوق المدرجات، ولأنين الجبل وهو يشقّ ذاته ليستقيم الزرع. وحين كبر، كانت الفلسفة بوصلته؛ درسها في جامعة صنعاء، لا ليكون متفلسفاً، بل ليصير أكثر إنسانية وفهما للحياة. ثم بدأ رحلته العملية ليكون معلماً. لم يسعَ إلى الأضواء، بل آمن أن المعنى يسكن في التفاصيل الصغيرة، في دفاتر التلاميذ، وفي جملة صادقة تُقال في صف ريفيّ بعيد.
شاعرٌ مبكّر التشكل، تشكّلت قصائده من دماء معاناته، لا من ترف اللغة. لم يكن ياسين من أولئك الذين يكتبون للترف العقلي، بل كان يكتب لأن الألم يريد أن يُقال. وكانت دواوينه وطنًا لأوجاعٍ لم تجد من يصغي، فحملها هو، شعراً شفيفاً، نبيلاً، لا يعرف الزيف، ولا يستعير وجهاً غير وجهه.
أُصيب بمرض السكري، فضرب المرض عينه، ولم يوقف خطوه. ثم جاءت الحرب بكل بؤسها، فزادت الجراح، لكنه ظل يكتب. ظل يبتسم. ظل يقول للناس إن الشعر قادر أن يكون بيتًا لمن لا بيت له، ونافذة لمن أُغلقت في وجهه النوافذ.
لم يكن ياسين ثورياً بالخطابات، بل كان ثورة خفية في عمقها، عظيمة في تواضعها. لم يحمل حقداً طبقيًا، ولا تعالَى على أحد، رغم سعة ما يمتلك من حسٍّ وفكر. كان يمشي بين الناس بتواضع كواحدٌ منهم، بل هو أكثرهم إنسانية. لا ترى في عينيه كِبرًا، بل ترى فيها صدقًا شفافًا، يشي بأنه من سلالة الذين لا يساومون على القيم.
لقد تغلّب على البلاء بصبرٍ يشبه صبر الأنبياء. لم يصرخ. لم يتسول الرحمة. فقط كان يبتسم، كأن الابتسام مقاومة. كتب للحياة وهو يتآكل، ووهبنا كرامته سطرًا سطرًا، دون أن ينتقص منها شيئًا.
ياسين .. لم يكن شاعرًا فقط، بل كان ضميرًا نقيًا، نُقشت عليه حروف الوطن وهموم الناس. كان مرآة لكل من أنهكته الحياة، ورفيقًا لمن لم يجد في هذه البلاد من يصغي. وحين غاب، ترك فينا فراغًا لا يُملأ. ترك خفةً كانت تمشي بيننا، وحنانًا لم يكن مرئيًا، لكنه كان يُشعرنا بأن الدنيا، رغم كل شيء، ما زال فيها شيء يُشبه الشعر.
لم يكن ياسين شاعرًا عاديًا. لم يكن ساردًا للوجع، بل كان أحد أشكاله. لم يكن مجرّد صوت، بل صدىً لحناجر انطفأت قبل أن تُنشد. لم يكن يكتب الشعر، بل الشعر هو الذي وجد فيه سكناه.
في زمنٍ كَثُر فيه المتكلمون وقلّ الساكنون في المعنى، جاء ياسين. غريبًا، كما وصف نفسه، لكنه أشد الناس قربًا من الإنسان. صامتًا حين يصرخ الجميع، لكنه أكثرهم صراخًا حين ينكسر الصمت. عاش في شعره لا ليتجمّل به، بل ليتحمّله. وفي كل بيتٍ كتبه، كان ثمّة دمٌ يُهرق على الصفحة، لا حبرًا فقط.
في نصوصه التي تركها لنا، نكتشف لا شاعريته فحسب، بل جرأته على التعبير العاري، الشفاف، الخارج من رحم التجربة لا من بهو اللغة. كتب عن الحبّ كما يكتب عنه الخائفون من الفقد. وكتب عن الوطن كما يكتب عنه من لا يملك فيه موضعَ كفٍّ يسند عليه قلبه.
كان وعيه السياسي والاجتماعي واضحًا، لكنه لم يُلبسه ثوب التنظير، بل غرسه في تشققات القصيدة مثل نبتة برّيّة لا تنحني. نراه يثور على اللغة أحيانًا، ويهادنها أحيانًا، لكنه لا يُساوم يومًا على ما يراه حقًا.
قصائده، التي طافت بين همّ شخصيّ وعام، تحمل ما يُشبه النبوءة الشعرية، وكأنّ الرجل كان يشعرُ أن اسمه سيُكتب أخيرًا على باب الغياب. تأمل قوله:
سأموتُ بعد قليلٍ
فاحتشدوا عليّ
رُبّما سأكونُ أفضل
إنه لا يكتب موتَه كخبر، بل كفعل مقاومة، كسؤال مفتوح على المعنى، لا على النهاية.
ولم يكن ياسين نازفًا فقط، بل كان ساخرًا بحزن، ثوريًا بتواضع، محبًا وهو محاصر بوجع العالم. وحين كان يقول:
كأنّني بيتُ شِعرٍ ذابَ قائلُهُ
في الأبجديةِ حتى اعتادَها فهَفا
فقد كان يتنبأ بموته داخل الحرف، لا خارج القصيدة.
وحين كتب:
لستُ البعيدَ أنا، لستُ القريبَ أنا
الطفلُ الذي دقَّ بابَ البيتِ وانصرفا
كان يقدّم نفسه كما هو: شاعرًا على الهامش، لكنه الهامش الذي لا يكتمل النص بدونه.
أيها الراحل في القصيدة، والباقي في القلب:
لن نرثيك اليوم بكلام رثّ، بل نقرّ لك بأنك كتبتَ رثاءك بنفسك، حين قلتَ في قصيدة أخيرة:
سأموتُ بعدَ الآنِ
لا تتوقعوا أن المسافةَ
بينَ ميلادي ونعشي
حديثٌ نرسمه على جدران من رحلوا سويّا
لقد كنتَ أمينًا على ما شعرت به، صادقًا حدّ التوحد مع اللغة، حدّ الاحتراق بها.
وداعًا، أيها الذي لم يمت.. بل تغيّر موقعه داخل الشعر.
وداعًا، يا من جعل من "الغريب" معنى لا غربة فيه.
وداعًا، يا من كتبتَ من أجل أن نحيا بكرامة، ولو داخل بيت شعر.
نم قرير العين يا ياسين..
ما ودعناك لننسى، بل لنحملك معنا..
في كل لحظة صدق، في كل قصيدة شريفة، في كل قلب لم تفسده القسوة.