لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
كان المساء قد لفّ المدينة بوشاح رمادي، حين خرجت من مكتبي في ماربورغ بعد يومٍ طويلٍ من العمل والقراءة والتجارب المرهقة. كعادتي، أغلقت الحاسوب، رتّبت أوراقي بدقة، وألقيت نظرة أخيرة على السبورة البيضاء في المختبر. ثم حملت حقيبتي وصعدت إلى سيارتي، متجهًا إلى شقتي في كاسل، ساعةٌ من القيادة اليومية اعتدتها، ترافقني فيها بودكاستات علمية وفكرية تُنسي وحشة الطريق.
وقد كنت نذرتُ لله – منذ سنوات – ألا أردّ محتاجًا إلى توصيلة، ما دمت أملك سيارة تسير، وصحة تعين. لا أدري لِمَ كان ذلك النذر، لكنه صار جزءًا من طقوسي اليومية، كأنّي أُعيد به التوازن إلى معنى امتلاك الوسائل في عالمٍ يزداد فيه العابرون دون مأوى.
في ذلك المساء، وبينما أنا أقود على الطريق الفرعي قرب محطة وقود "Aral"، لمحت امرأة مسنّة تشير بيدها. أوقفت السيارة بهدوء، فتقدّمت إليّ وهي تلف شالًا رماديًا حول عنقها، وتحدّثت بلكنة ألمانية ناعمة:
"سيارتي تعطّلت، نفد الوقود.. هل يمكنك أن توصلني إلى المحطة؟ ليست بعيدة.. فقط أمامنا."
ابتسمتُ، وأشرت لها بالدخول. لم تكن أشدّ بردًا من الخارج، لكن دفءَ الموقف أسكت توتّر اللحظة. وبينما قدتُ السيارة ببطء نحو المحطة، بدأتُ أفتح حديثًا خفيفًا، محاولًا كسر جدار الصمت:
"هل تحتاجين الوقود لرحلة بعيدة؟"
أجابت، وقد رفعت نظارتها قليلاً:
"إلى مستشفى فرانكفورت الجامعي.. زوجي هناك منذ ثلاث سنوات. سرطان في الدماغ.. لكنني أزوره كل يوم تقريبًا."
تأملت وجهها.. كان يشبه النوافذ القديمة في مدينة هيسن: متعبة، لكنها ما زالت تطلّ على الأمل. ثم بدأت تسألني، لا بفضول، بل بفضيلة من يسمعك ليعرف كيف يمكن أن يكون لك عونًا: عن عملي، وبلدي، وسبب قدومي إلى ألمانيا، وحتى إن كنت أفتقد اليمن.
أوصلتها إلى المحطة، وانتظرتها حتى عادت بعلبة وقود صغيرة، ثم عدنا إلى سيارتها، وساعدتها على تشغيلها. قبل أن أودّعها، مدّت يدها وطلبت رقمي، قائلة بابتسامة فيها دفء أمهات أوروبا:
"قد أحتاجك ثانية.. أو قد تحتاجني أنت.. من يدري؟"
مرّت أيام، حتى جاءني اتصال منها، تدعوني إلى زيارتها في ضاحية جميلة قرب نهر اللان. وصلت إلى بيت خشبي بسيط، لكنه محاط بحديقة هندسية غنّاء. جلستُ معها في شرفة صغيرة، وقد أعدّت لي قهوة ألمانية بنكهة تركية. وهناك، بدأت أكتشف وجها آخر لها.
"آنا فريدريكا مولر"، كانت أرملة رجل أعمال ناجح، عمل في مجال الطاقة والعقارات. لديها ثلاث بنات يدرسن في مدن بعيدة، وهي تقيم وحدها منذ مرض زوجها. لم تعد تثق بأحد، لكن لقاؤنا، كما قالت، كان "علامة نور" وسط عالمٍ رقمي جاف.
صرنا نلتقي من حين لآخر. أساعدها في ترتيب بعض الأوراق، وأراجع معها استثماراتها القديمة، وتقترح عليّ مشاريع، وتسألني عن أفكاري حول التعليم والطاقة والذكاء الاصطناعي. كنت أظنها تبحث عن صحبة، لكنّي أدركت لاحقًا أنها تبحث عن شريك.
بعد شهور، وفي جلسة شتوية أمام المدفأة، قالت لي:
"أريد أن أستثمر ما تبقّى من حياتي في شيء يُذكر.. وأنتَ صرت أقرب من كثيرين حولي.. فهل نبدأ معًا مشروعًا يغيّر شيئًا؟"
هكذا وُلد مشروعنا:
"Lichtspur" – وتعني أثر الضوء.
مشروع لدعم الابتكار الاجتماعي، وتمويل المبادرات الشبابية في التعليم المستدام والبيئة، يجمع بين رأس المال الألماني والأفكار القادمة من الجنوب العالمي.
واليوم، حين يسألني الناس كيف بدأت هذه الرحلة، أبتسم وأقول:
"بمحطة وقود.. وامرأة كانت تبحث عن ضوء صغير في نهاية يومٍ طويل."