لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
إبراهيم الهجري
تخيل أن الرقاقة الإلكترونية (أو شريحة أشباه الموصلات) تشبه مدينة صغيرة مزدحمة، لكن بدل الناس، توجد مليارات من المفاتيح الصغيرة جداً تُسمى "ترانزستورات"، تتحكم في تدفق الكهرباء. هذه الرقائق تُصنع من مواد خاصة، أهمها السيليكون، لأنها قادرة على توصيل الكهرباء أحيانًا ومنعها أحيانًا أخرى، حسب الحاجة – ولهذا سُمّيت "أشباه موصلات".
تصنيع الرقائق يبدأ بتحويل كتل السيليكون النقي إلى رقائق رفيعة جدًا تُسمى "الويفر" (Wafer). ثم باستخدام تقنيات طباعة دقيقة للغاية، يتم "رسم" مليارات الترانزستورات فوق هذه الويفر، طبقةً فوق طبقة، عبر عمليات معقدة تشمل:
الطباعة الضوئية (Lithography).
الحفر الدقيق (Etching).
الترسيب الكيميائي (Deposition).
التوصيل بين العناصر (Interconnects).
كل خطوة تحتاج إلى دقة عالية بحيث يمكن إنشاء بنى أصغر بآلاف المرات من عرض شعرة الإنسان!
أهمية الرقائق الإلكترونية واستخداماتها اليومية والصناعية
تُعتبر الرقائق الإلكترونية اليوم مثل "الدماغ المصغر" لكل شيء ذكي حولنا. أينما نظرت، هناك شريحة تعمل خلف الكواليس:
- في حياتنا اليومية:
الهواتف الذكية التي لا نفارقها.
السيارات الكهربائية المليئة بأنظمة التحكم الذكية.
التلفزيونات الذكية، الأجهزة المنزلية المتصلة بالإنترنت (IoT).
- في الصناعات المتقدمة:
مراكز البيانات العملاقة التي تدير خدمات مثل جوجل وفيسبوك.
الطائرات الحديثة التي تعتمد على أنظمة ملاحة وتحكم إلكترونية معقدة.
المعدات الطبية مثل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI).
بدون الرقائق، ستتوقف عجلة التكنولوجيا الحديثة كليًا!
ماذا نعني بشريحة 5 نانومتر أو 2 نانومتر؟
قد تسمع أن شركة ما أطلقت "معالج 5 نانومتر"، ولكن ماذا يعني هذا؟ ببساطة، النانومتر هو مقياس للطول (واحد نانومتر = جزء من مليار من المتر!). عندما نقول "5 نانومتر"، نشير عادة إلى حجم الترانزستورات أو المسافة بينها.
كلما صغر هذا الرقم زاد عدد الترانزستورات الممكن وضعها داخل نفس المساحة، وأصبحت الرقاقة أكثر كفاءة وأسرع وأقل استهلاكًا للطاقة.
للمقارنة، قطر شعرة الإنسان يتراوح بين 50,000 إلى 100,000 نانومتر!
كيف تُصنع الشرائح الصغيرة (5 نانومتر و2 نانومتر) فعليًا؟
لتصنيع شرائح بهذا الصغر، نستخدم تكنولوجيا طباعة خارقة تُسمى الطباعة الضوئية بالأشعة فوق البنفسجية الشديدة (EUV). تخيل الأمر كأنك تحاول رسم تفاصيل دقيقة جدًا باستخدام شعاع ضوء فائق الرقة بدلًا من قلم تقليدي.
التحديات الرئيسية:
تصميم أنماط دقيقة جدًا على رقاقة صغيرة.
ضمان عدم حدوث أي عيوب أثناء الطباعة.
الحاجة إلى بيئات نظيفة للغاية (غرف نظيفة بمستوى شبه معقم تمامًا).
تقنية EUV وحدها مكلفة جدًا: آلة الطباعة الواحدة قد تكلف أكثر من 150 مليون دولار!
لماذا تحتكر شركات قليلة مثل TSMC تصنيع الشرائح المتقدمة جدًا؟
ببساطة، تصنيع هذه الشرائح يحتاج إلى:
استثمارات ضخمة (عشرات المليارات من الدولارات لبناء مصنع واحد!).
خبرة تكنولوجية نادرة.
سلاسل توريد معقدة جدًا.
لذلك، شركات مثل TSMC التايوانية وSamsung الكورية أصبحت ملوك هذه الصناعة. TSMC وحدها تصنع أكثر من 90% من الرقائق المتقدمة في العالم!
الحدود الفيزيائية والتقنية لتصغير الترانزستورات
تصغير الترانزستورات لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. كلما صغر حجم الترانزستور، تصبح:
إشاراته أقل وضوحًا (ضوضاء كهربائية).
صعوبة التحكم فيه أكبر.
تسرب الكهرباء أكبر.
نحن نقترب الآن من حدود قوانين الفيزياء الكمية، حيث يصبح الإلكترون قادرًا على "اختراق" الحواجز حتى لو لم تكن مفتوحة!
ماذا بعد الوصول إلى أصغر ترانزستور ممكن؟
للتغلب على حدود التصغير، بدأت الصناعة في ابتكار حلول جديدة:
الأول : GAA-FETs (Gate-All-Around Field-Effect Transistors) وهو نوع جديد من الترانزستورات يلف حول القناة بالكامل لتحسين التحكم.
التكديس ثلاثي الأبعاد (3D Stacking): بدلاً من جعل الرقائق مسطحة فقط، نبدأ ببنائها طبقات فوق بعضها، كما لو كنا نبني ناطحات سحاب إلكترونية.
الحوسبة الكمية: نوع ثوري تمامًا من الحوسبة يعتمد على ميكانيكا الكم، لا على الترانزستورات التقليدية.
الأزمات العالمية المرتبطة بنقص الرقائق
شهد العالم بين 2020-2023 أزمة خانقة في توفر الرقائق الإلكترونية. الأسباب:
جائحة كورونا عطلت المصانع.
الطلب على الإلكترونيات انفجر فجأة (بسبب العمل والتعليم عن بعد).
حروب تجارية وسياسية بين دول كبرى.
النتيجة؟
توقف إنتاج سيارات وأجهزة إلكترونية.
ارتفاع أسعار المنتجات.
توترات اقتصادية عالمية.
الشركات الرائدة وأوضاعها الحالية
الأولى: TSMC وتعتبر الزعيم المطلق لصناعة الشرائح المتقدمة. تصنع شرائح Apple وNVIDIA ومعظم شركات التقنية الكبرى.
الثانية: Samsung وهي تنافس بقوة على تصنيع شرائح الذاكرة والشرائح المنطقية المتطورة.
الثالثة Intel حيث كانت رائدة لكنها تأخرت، تحاول الآن العودة بقوة عبر استثمارات هائلة وخطط تصنيع حديثة في أمريكا وأوروبا.
مستقبل صناعة أشباه الموصلات خلال العشر سنوات القادمة
المستقبل يبدو واعدًا... ومليئًا بالتحديات!
نتوقع أن:
تستمر تقنية GAA-FETs بالتحسن.
تظهر طرق تصنيع جديدة مثل الطباعة بالحزمة الإلكترونية.
تنتشر الشرائح ثلاثية الأبعاد أكثر فأكثر.
تبدأ الحوسبة الكمية تدريجيًا في تغيير قواعد اللعبة.
وتبقى المنافسة محتدمة بين الشرق والغرب على السيطرة على هذه الصناعة الحساسة والحيوية.