لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
حينما تنقلب الحياة فجأة، وتصبح كالسيل الجارف الذي يقتلع في طريقه ما اعتدنا عليه من راحة واستقرار، تتملكنا الغصة، ويأخذنا الألم رهينة في ظلمات الأسئلة: لماذا حدث هذا؟ وكيف سنصمد أمام هذا الجبل الشاهق من الهموم؟ غير أن الحياة، كمعلم حكيم، كثيرًا ما تخبئ بين طيات الألم دروسًا لا تُقدر بثمن، ودروبًا جديدة ما كنا لنراها لولا تلك اللحظة التي ظنناها نهايتنا. هنا يكمن السحر، وهنا تبدأ القصة الحقيقية: زاوية الرؤية.
إنّ تغيير زاوية الرؤية ليس مجرد تمرين فكري، بل هو فن يستدعي القلب والعقل معًا، ويتطلب شجاعة لاقتلاع جذور الأفكار السلبية واستبدالها بنظرة أعمق وأشمل. حينما تواجه المصائب، لا تنظر إليها كأعداء يتربصون بك، بل كمعلمين قساة جاؤوا ليكشفوا لك قوتك الحقيقية. يقول الله تعالى: "لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، وكأن الآية تهمس لنا في أحلك اللحظات أن الخير قد يتنكر أحيانًا في صورة الشر، لكنه لا يلبث أن يكشف عن وجهه الوضاء إذا أمعنا النظر.
تخيل، على سبيل المثال، رجلًا خسر عمله فجأة. قد يبدو ذلك كارثة، وفعلاً هو كذلك عند النظر إليه من زاوية الخوف أو الإحباط. لكن ماذا لو اختار أن ينظر إلى الأمر من زاوية أخرى؟ ماذا لو قرر أن يرى في هذه الخسارة فرصة لتعلم مهارة جديدة أو خوض مغامرة مهنية طالما تردد في البدء بها؟ هكذا تتحول الكارثة إلى فرصة، والمحنة إلى منحة.
إن تغيير زاوية الرؤية ليس هروبًا من الواقع، بل هو إعادة تشكيله. نحن لا ننكر وجود الألم، لكننا نحاول أن نقرأ الرسائل الخفية التي يحملها إلينا. في كل لحظة ألم، هناك دعوة لإعادة النظر، لإعادة البناء، وللتطور. إنها فرصة لأن نكون أقوى، أكثر نضجًا، وأكثر استعدادًا لمواجهة الحياة بكل تقلباتها.
لنأخذ مثالًا من الطبيعة. الشجرة التي تعصف بها الرياح لا تموت، بل تقوى جذورها في الأرض لتواجه العواصف القادمة. كذلك نحن، كل مصيبة تضربنا قد تكون رياحًا تدفعنا للغوص أعمق في ذواتنا، لاكتشاف مناطق القوة التي لم نكن نعلم بوجودها. قد تكون المحنة دعوة خفية للتوقف والتأمل، لتغيير المسار أو لإعادة بناء ما تهدم على أسس أقوى وأعمق.
وعندما نتحدث عن تحويل المصائب إلى نعم، فإننا نتحدث عن إعادة تعريفنا للمعاني. المشكلة ليست مجرد عقبة في الطريق، بل هي فرصة لابتكار حلول جديدة. الفقد ليس نهاية، بل بداية لرحلة تصالح مع الذات واكتشاف قيمة الأشياء. وحتى الألم الجسدي أو النفسي، رغم قسوته، قد يكون تذكيرًا لنا بأن نعيد ترتيب أولوياتنا، وأن ننظر إلى الحياة بعين أكثر امتنانًا.
لكن، كيف نفعل ذلك عمليًا؟ كيف نتحول من أسر اليأس إلى أفق الأمل؟ هنا تأتي أهمية التدرب على التأمل والتفكر. اكتب مخاوفك على ورقة، ثم حاول أن تبحث عن الخير المختبئ في كل واحدة منها. تحدث مع نفسك بصدق، واطرح السؤال: ماذا يمكنني أن أتعلم من هذا؟ كيف يمكنني أن أخرج من هذه الأزمة شخصًا أقوى؟
ولنتذكر دائمًا أن التغيير يبدأ من الداخل. يقول الله تعالى: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ"، وكأن هذه الكلمات تنير الطريق لمن يظنون أن الخير والشر مرتبطان بما نراه بأعيننا فقط. الحقيقة أن الخير قد يختبئ وراء الألم، وأن السعادة قد تولد من رحم الخسارة، فقط إذا اخترنا أن نرى الأمور بعين الحكمة والإيمان.
زاوية الرؤية هي مفتاح التحول. هي الضوء الذي يخترق عتمة الحزن ليكشف عن جمال غير متوقع، عن حكمة أكبر من قدرتنا على الفهم في اللحظة الراهنة. حينما نغير زاوية رؤيتنا، فإننا لا نغير الحدث ذاته، بل نغير علاقتنا به. وهنا يكمن السحر الحقيقي: أن نجعل من جروحنا أجنحة، ومن خسائرنا بدايات، ومن كل سقوط خطوة نحو القمة.
وختاما، تذكر دائمًا أن في كل أزمة درسًا، وفي كل دمعة حكمة، وفي كل خسارة بابًا مفتوحًا نحو ما هو أفضل. ليس المهم ما يحدث لنا، بل كيف نختار أن نتعامل معه. زاوية الرؤية هي المفتاح الذي يفتح لنا أبواب التحول، ويمكّننا من تحويل النقم إلى نعم، والألم إلى مصدر للقوة والإلهام.