لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
ستمائة عام والقات يسرح ويمرح في بيوت اليمنيين، يحضر في الأعراس والمآتم، في البيوت والمكاتب، في الجبال والسهول.. حتى لم يعد يُنظر إليه كمشكلة، بل كـ"جزء من العادات". لكن العادة إذا أفسدت العقل والجسد والمال، فهي ليست عادة.. بل عبودية.
هل تعلم أن منظمة الصحة العالمية درست القات لست سنوات؟ وخلصت إلى أن فيه مادتين مخدرتين هما الكاثين والكاثينون، وهما من المنشطات النفسية التي تؤثر على الجهاز العصبي المركزي. وتشير الأبحاث إلى أن مفعوله شبيه بمادة الأمفيتامين، أي أحد أخطر أنواع المنشطات المستخدمة في المخدرات.
دراسة يمنية استمرت 13 عامًا، أجراها أطباء متخصصون، كشفت أن من بين 83 ألف مريض نفسي، كان 98% منهم متعاطي قات! هذه ليست أرقامًا عابرة، بل ناقوس خطر.
كيف يستقيم أن نصف مجتمع يُعاني من القلق والوساوس والانفصام والسلوك العدواني.. ثم نتساءل عن السبب ونحن نمضغ القات في كل جلسة؟
أشجار القات لا تُروى بالماء وحده، بل بـأطنان من المبيدات والأسمدة المسرطِنة، التي تدخل الجسد عبر المضغ اليومي، وتسبب أمراضًا عضوية خطيرة، من فشل كلوي إلى سرطانات الفم والمعدة والكبد، يُصاب بها مئات الآلاف من اليمنيين سنويًا.
يظن البعض أن القات "ينفع اقتصادياً"، لكن دعونا نحسب:
مليارات من العملة الصعبة تُصرف على استيراد المبيدات، والأسمدة، والمضخات.
ملايين الساعات تُهدر في زراعته، وحراسته، وتسويقه، وبيعه، ثم "قضاء الوقت" في مضغه.
موارد المياه الشحيحة تُستنزف يوميًا من أجل زراعة القات بدلًا من محاصيل مفيدة.
والأدهى أن كثيرًا من الناس يرتشون أو يتحايلون للحصول على ثمن القات، بينما تحرم العائلة من شراء كتاب لطفل أو دواء لمريض.
المخدرات تنقسم إلى:
المفترات، المنبهات، المنشطات، المسكرات.
والقات، في تصنيفه العلمي، ينتمي إلى المنشطات التي تؤدي إلى الهلوسة، وتضخيم الأوهام، وزيادة السلوك العدواني، وتدمير التوازن النفسي.
ولهذا السبب، فإن معظم دول العالم تحظر قيادة السيارة تحت تأثيره، وتعامله كما تُعامل بقية المخدرات.
هل سألنا أنفسنا:
لماذا أصبحت المناسبات الاجتماعية لا تكتمل إلا بجلسة قات؟
هل يعقل أن لا نستطيع الجلوس دون أن نُخدّر أنفسنا؟
شعوب العالم تجتمع، تفرح، تحزن، تُنجز، وتُنتج.. دون أن تلوك فمها ورقًا مخدرًا!
الإدمان ليس في المادة فقط، بل في العادة والتكرار والقبول الجماعي. وهذه هي الكارثة الأخطر: أن يتحول الخلل إلى "طبيعة".
لا يحتاج أحدٌ لإحصائيات ليدرك أثر القات في تدمير العلاقات الأسرية، وفي إبعاد الآباء عن أبنائهم، وفي إشعال الخلافات الزوجية، وفي تفريغ البيت من الراحة والسكينة. فما فائدة جلسة قات تُسلب فيها البركة من الوقت، والرزق، والحياة؟
ليست القضية دينية ولا سياسية ولا مناطقية.. إنها قضية وعي.
القات ليس قدَرًا مكتوبًا، بل عادة مكتسبة.
والعادة يمكن كسرها، مثلما كسرت شعوب كثيرة حولنا عاداتها الضارة.
لا أحد يطلب منّا أن نُغيّر كل شيء دفعة واحدة، لكن دعونا نبدأ بـ:
أسبوع بدون قات.
مناسبة عائلية دون قات.
حساب كم أنفقنا عليه هذا الشهر.
جلسة صادقة مع أنفسنا: ماذا أفادنا القات؟
ليس من الحكمة أن نرث عادةً ثم نورثها لأبنائنا دون سؤال.
وليس من الشجاعة أن نُكابر، بل أن نُراجع.
القات لم يعد مجرد نبتة.. بل قيد على العقل، والاقتصاد، والعلاقات، وحتى المستقبل.
اليمن يستحق أن يُزهر بالقمح، لا بالقات.. وأن يُثمر بالعلم، لا بالهذيان.
فلنُطلق سراح اليمن من هذا الأسر.. ولنُطلق عقولنا معه.