لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في ظل متابعتي المستمرة لمشهد التعليم العالي في اليمن في كل مناطقه، لا يسعني إلا أن أصف ما يحدث اليوم في نسب القبول الجامعي بأنه كارثة صامتة تتفاقم باستمرار، وتضع مستقبل التعليم والمجتمع برمّته أمام تحديات خطيرة.
فرغم أن النسبة العظمى من الطلاب في المرحلة الثانوية يحققون معدلات مرتفعة – لأسباب متعدّدة لسنا الآن في صدد تفصيلها – إلا أن المفارقة المؤلمة تكمن في أن المعدلات المتدنية التي تتراوح بين 50% إلى 60% باتت تتيح للطلاب الالتحاق بعدد كبير من التخصصات الجامعية، دون وجود ضوابط أكاديمية صارمة، أو معايير نوعية تحفظ للمؤسسات التعليمية جودتها ومكانتها.
وهنا تنكشف جذور الأزمة:
الجامعات الخاصة، التي باتت تقبل معدلات منخفضة في تخصصات نوعية وحساسة، أحيانًا بشروط أقل من تلك الموجودة في الجامعات الحكومية نفسها، بحثًا عن الربح لا الجودة.
العزوف المتزايد عن التعليم الجامعي في أوساط الشباب، خاصة من الذكور، بسبب الحرب والضائقة الاقتصادية، والاضطرار للانخراط في أعمال يدوية يومية لإعالة أسرهم.
فقدان الثقة المجتمعية في مخرجات التعليم الجامعي، حيث يشاهد الطالب نماذج خريجين أكفاء يعملون بلا رواتب، أو يمتهنون أعمالًا لا تمت لتخصصاتهم بصلة، في ظل الأوضاع الحالية.
الإحباط الجماعي الذي يعم الأوساط الطلابية والتعليمية، والذي يولد نظرة تشاؤمية تجاه التعليم كمسار للنجاة.
والأخطر من كل ذلك، أن تدني معايير القبول يؤدي تلقائيًا إلى تدني نوعية الداخلين للجامعات، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على مستوى المخرجات. وعندما تضعف المخرجات، فإننا أمام جيل كامل من الخريجين غير المؤهلين لتقديم خدمات مجتمعية في مجالات حيوية كالصحة، والتعليم، والهندسة، والإدارة. وهنا تبدأ الكارثة الحقيقية، التي لا يمكن تداركها لاحقًا بسهولة.
إن ما نحتاج إليه اليوم ليس مجرد مراجعة لنسب القبول، بل إعادة تعريف فلسفة القبول الجامعي بالكامل، وفق استراتيجية وطنية تُعلي من جودة التعليم على حساب الكم، وتربط بين التعليم وسوق العمل، وتعيد الاعتبار للطالب والمعلم، والمؤسسة التعليمية، والمجتمع ككل.
وفي هذا السياق، لا بد من التنبيه أن استمرار الوضع على ما هو عليه، سيؤدي إلى انهيار تام في ثقة المجتمع بالتعليم الجامعي، وإلى نزوح المزيد من العقول إمّا نحو الهجرة أو نحو العطالة، أو – وهو الأسوأ – نحو التطرف والجهل والتهميش.
فلنعِ حجم الخطر، ولنبدأ بإصلاح جذري قبل فوات الأوان.