لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
المخطوطة
في يوم رمادي، بدت القرية كأنها تسترجع ذكرياتها القديمة. كانت السماء منخفضة، كأنها تغطي بظل حزين رأس كل من سار في طرقاتها الترابية. في مقبرة القرية، جثا خالد على ركبتيه، يقرأ الفاتحة على قبر جدّه الفقيه يحيى، الذي عاش حياته يخشى أن يُفتن بالعلم كما يُفتن بالذهب. على باب المقبرة، نقش قديم يقول: "من قرأ ولم يعمل، ضلّ."
ورث خالد عن جدّه مفتاحًا صغيرًا من خشب السدر، ليس من الذهب ولا الحديد، بل من تلك المواد التي لا تُصنع، بل تُختار.
بعد أسبوع من وفاة الفقيه يحيى، بدأ خالد يتفقّد بيت جدّه القديم، الحجري ذو الطابقين، الذي ظل واقفًا في زاوية القرية كأنه ينتظر أحدًا ليعتذر له عن هذا النسيان الطويل.
البيت كان ساكنًا كالقبر، لا صدى فيه إلا لذكريات تتسكع في الزوايا مثل أرواح لا تعرف أنها ماتت. لم يبقَ فيه أحد بعد رحيل آخر ساكنيه: الفقيه، بعد موت أو اغتراب عائلته.
دخل خالد غرفة الجدّ، تلك الغرفة التي لم يكن مسموحًا لأحد بفتحها أثناء حياة الفقيه. رائحة المسك القديم امتزجت بالخشب البالي، والكتب المصفوفة على الجدران كأنها شهود صامتون على مناجاة عمرها عقود.
في طرف الغرفة، رأى بابًا صغيرًا قديمًا، تغيّر لونه من كثرة ما لامسته يد الفقيه.، تردّد خالد قبل أن يفتحه. أخيرًا، أمسك المفتاح الذي ورثه وأدخله في مكانه في الباب ، ودفع الباب، فصدر صرير أشبه بآهة كهلٍ يستيقظ من منامٍ طويل. وراح الغبار يصعد ببطء، كدعاء قديم.
في الداخل، وجد مكتبة لا تشبه أي مكتبة أخرى. كانت أقرب إلى ضريح، أو متحف لأرواح لم تُدفن. رفوف من خشب السدر مليئة ببقايا مخطوطات وكتب ، أوراق صفراء تشكو من الزمن، وروائح لا تنتمي لعالم الأحياء. على المنضدة، مخطوطة واحدة، موضوعة كأنها كانت تنتظر رجوعه منذ قرن. لا عنوان، فقط جملة كتبت بحبريبدو قديمًا: "هذه المخطوطة لم أكتبها كي تُقرأ، بل كي تُنقذ من سيقرؤها."
****
جلس خالد على الكرسي الخشبي الذي يصدر صوتا مع كل حركة، مقابل المنضدة الحجرية التي وُضعت عليها المخطوطة. بدا المكان كأنه يراقبه، أو ينتظره ليتخذ القرار. فتح خالد الصفحة الأولى، فوجد سطرًا واحدًا في وسط الصفحة الرمادية: "من أراد أن يَعرف، فعليه أولًا أن ينسى من أين جاء." أحس خالد بتيار بارد يمر في عموده الفقري، ليس خوفًا، بل انتباهًا حادًا.
قلّب الصفحة، فقرأ: "أنا الذي كَتب، لا أعلم ما كَتبت. الكلمات هبطت لا طوعًا ولا وحيًا. بل حاجة وملاذ." "من قرأ وهو ممتلئ، لن يفهم. ومن قرأ وهو جائع، قد يضيع." مرت نصف ساعة وهو يتنقل بين الصفحات، كل صفحة تفتح عليه نافذة، وتغلق خلفه بابًا. في الحاشية، قرأ هامشًا يقول: "الذي كتب هذه الكلمات، لم يكن بكامل عقله.. وهذا ما يجعلها صادقة تمامًا."
في المساء، زار خالد المسجد القديم في مقدمة القرية، المطلي بالنورة البيضاء فيبدو كحاج كهل في جبل عرفه. وجد الشيخ احمد جالسًا في ركنه المعتاد، يُصلح سبحة من خرز اليسر . جلس خالد بجانبه بصمت، ثم بدأ الحوار: "سمعت إنك دخلت غرفة الشيخ يحيى." أجاب خالد: "كنت أرتّب كتبه." ابتسم الشيخ: "الكتب لا تُرتّب يا ولدي، الكتب إمّا تُهمل أو تُفتح، وما بينهما فتنة."
نظر خالد إلى الأرض، ثم قال: "هل كنت تعرف؟" رفع الشيخ أحمد رأسه كأن السؤال أعاد له زمنًا نسيه، ثم قال: "كنت أعرف أنه لا ينام بعد الفجر.. وأنه يُحدّث كتبًا لا يُفترض أن تُحدَّث." ثم همس: "أتعلم، يا خالد؟ هناك كتبٌ خُلقت كي تُحرِّك فيك الريح.. لا كي تُرشدك. الكتب نوعان: كتب تُضيء، وكتب تُحرق. ومن لا يفرّق بين الدفء والاحتراق.. يحترق." ثم نهض الشيخ ليغادر، وقال له: "لا تدخل عميقًا في كتب الكبار وأنت ما زلت تسأل: من أنا؟"
****
عاد خالد إلى المكتبة، وجلس أمام المخطوطة طويلًا، وكأنه ينتظر أن تُبادر هي بالقراءة ثم قرأ فيها حتى كلت عيناه . في تلك الليلة، نام على الأرض، وترك المصباح موقدًا. لم يكن نومًا، بل انزلاقًا بطيئًا إلى مكان ليس فيه زمن ولا قرية ولا أسماء. رأى نفسه يمشي في ممر حجري ضيق، جدرانه من كتب مفتوحة، كل كتاب يُصدر همهمة خفيفة. في نهاية الممر، باب خشبي مكسو بخيوط من نور خافت. حين فتحه، وجد نفسه داخل غرفة مستديرة بلا زوايا، في وسطها رجل جالس القرفصاء، يرتدي عباءة رمادية، ولا ظل له.
قال الرجل بصوت يخرج من كل الجدران: "جئت لتسأل، أم جئت لتكتب؟" قال خالد: "لا أعرف." ضحك الرجل، ثم مد له صفحة: "إن لم تكتب نفسك، كُتبت لك." ثم اختفى ببطء، بعد أن قال: "كل من قرأ هذه المخطوطة، ظنّ أنه يقرأني.. ولم يفهم أنه يقرأ نفسه."
استفاق خالد مذعورًا، لكنه لم يشعر بالخوف. كان في صدره اضطراب يشبه بداية شفاء، أو بداية احتراق جديد. نظر إلى المخطوطة، فوجدها مفتوحة على صفحة لم يتركها هكذا. وفي منتصفها، كانت جملة لم يرها من قبل: "كنت معك في الحلم، لكنك لم ترَ بعد من أنا."
مع أول خيوط الفجر، دخل خالد غرفة الجد مجددًا. بدأ يُقلب في الصناديق الخشبية التي احتفظ بها الشيخ يحيى. وجد مخطوطة غير مكتملة، عليها ختم جده، لكن بتوقيع مختلف. في الهامش، كتب الشيخ يحيى: "هذه الكتابات لا تُقرأ على العامّة.. كاتبها رجلٌ غريب، يقولون إنه صوفي، وأنا أقول: عابر، لا يُصنّف."
ورقة تلو أخرى، بدأ خالد يتعرف على "الأسلوب". في ورقة متهالكة، وجد عبارة كتبت بلون باهت: "فلان بن فلان.. الذي نَسِي اسم نفسه، لئلا يتبعَه أحد." ثم قرأ: "لا أحد يصل إلى الحقيقة باسمي.. وإن سألوني من أكون، قلت: سؤالهم هو الجواب." في الزاوية، وجد دفترًا صغيرًا كتب عليه الشيخ يحيى: "ما لم أفهمه منه." في الصفحة الأولى: "سألته: لماذا لا تذكر اسمك؟ فقال: لأني لم أعد أصدّق أن لي اسمًا. حين تصل إلى الحافة.. تصير أنت فقط.. بلا تعريف."
أغلق خالد الصندوق، وكان في عينيه شيء من الانكسار، لكن في وجهه شيء يشبه الفهم لأول مرة.
لم تكن التغيرات كبيرة في ظاهرها. خالد لم يصرخ في الشوارع، ولم يخرج من المسجد مهرطقًا. لكنه لم يعد يشبه نفسه. أصبح يوقظ نفسه لصلاة الفجر قبل الأذان، يبتسم دون سبب، ويحدّق في الأشجار كأنها تتكلم. لم يعد يرد على من يسأله: "متى ناوي ترجع للمدينة؟" كان يكتفي بنظرة فيها أكثر من إجابة، وأقل من شرح.
في السوق، همس رجل لآخر: "عادك سمعت؟ خالد تغيّر." "يقولوا رجع يقرأ كتب الجد." "مش الكتب، المخطوطات." "وهذي أخطر.. فيها حاجات مش لكل الناس."
في ليلة الجمعة، تقدّم شيخ القرية إلى خالد، صافحه بحرارة ثم همس: "خالد، أنا أحبك، ولا أريد لأهلك يتعبوا معك." "أقصد، لا تغرق في شيء ما حد فهمه قبلنا." "جدك كان فقيه.. لكنه مات بعد ما سكت لزمن طويل." سكت خالد، ثم قال: "وسكوته.. كان نوع من البلاغ."
في المساء، طرق أحد الجيران الباب، يحمل طبقًا من العصيد المترع بالسمن البلدي. جلس قليلًا، ثم قال: "والدتي تقول إنك تتكلم مع نفسك بعض الليالي." "تقول، سمعتك تقول كلمات مش عربية، ولا قرآن." "هل أنت بخير؟" ابتسم خالد، ثم قال: "أنا بدأت أكون."
****
بدأ الناس يتهامسون، ويخافون عليه من نفسه. في مجلس القرية، جلس خالد يصافح الداخلين بلطف، بينما بدت العيون عليه لا كضيف، بل كموضع شك. تقدّم الحاج قاسم، أحد وجهاء القرية: "يا خالد، نحن نعرفك شاب عاقل، وحفيد الفقيه، وعندك علم، ما ننكرش." "لكن شغلك اللي الأيام هذه مش واضح، والعقال من حقهم يعرفوا."
نظر إليه خالد مبتسمًا، ولم يتكلّم. واصل الحاج قاسم: "نسمع أنك رجعت تفتح كتب منسية، وتقرأ كلام ما أحد فهمه غير اللي كتبه." "وإن كان اللي كتبه نفسه مش معروف، ولا عنده سند، ولا اسم." قال شيخ آخر: "وبعض الكلام اللي يُقال إنك تقوله.. في المسجد، في السوق.. ما هوش من كلام الفقهاء."
ردّ خالد أخيرًا: "ومن قال إن كل ما لا يُفهم.. ضلال؟" "أحيانًا يكون السكوت علمًا، والابتسامة فقهًا، والغريب.. شهيد فهمه الناس متأخرًا." قال الحاج قاسم: "يعني تنكر العلم اللي تعلّمناه؟" قال خالد: "لا أنكر شيئًا.. لكن أُضيف على العلم شيئًا آخر: أن لا أحد ينجو من طريقٍ لم يمشِه بنفسه." قال شاب آخر: "يعني أنت معك علم خاص؟" قال خالد: "لا، أنا فقط.. بدأت أبحث عن معنى، دون أن أطلب إذنًا من أحد."
في الزاوية، كان الشيخ أحمد يراقب، ولم يتدخل، لكنه حين نهض، تمتم بكلمات سمعها خالد وحده: "كل من سار إلى ربه، مرّ من مجلس اتهام."
بعد ليلة المواجهة، عاد خالد إلى مكتبة جدّه دون أن يشعل المصباح. جلس على الأرض أمام المخطوطة، يتأملها كأنها مرآة لا تنعكس فيها صورته، بل شيء أعمق. فتحها بتردد، فوجد صفحات جديدة، ورق لم يظهر من قبل، لا يحمل علامات الزمن كالبقية. في أعلى إحداها، عنوان بخط مائل: "عن الذين يُسألون عمّا لم يقولوه، في زمنٍ لا يُسمح فيه بالصمت."
قرأ خالد ببطء: "جاءني قومٌ يسألونني عن يقيني، فقلت لهم: لا أدري إن كنت مؤمنًا بما أقول، لكني مؤمنٌ بضرورة أن أبحث." "قالوا لي: لا تتكلّم، فقد تُؤذي الناس. فقلت لهم: وإن سكتّ، من يُنقذني من ضجيج أفكاري؟" "العارف لا يقاتل الناس.. لكنه لا يُطأطئ الرأس إلا لله." صفحة أخرى انقلبت وحدها، ببطء، كأن الريح تعرف دورها. فيها سطر وحيد: "خالد.. الآن فقط بدأت تكتبني."
أغلق خالد المخطوطة ببطء، ولأول مرة، لم يشعر أنه يقرؤها، بل شعر بأنها هي من تقرؤه.. وتنتظر ما سيصبح عليه.
****
في صباح يوم السبت، لم يخرج خالد إلى ساحة الجامع. لم يُسمع صوته، ولم تُفتح نوافذ بيت الجد. أمهات القرية بدأن يتحدثن عن ضوء في الليل من تحت باب المكتبة. مرّت ساعات، ولم يظهر خالد. ذهب الحاج قاسم مع اثنين من الرجال إلى بيت الجد، فلم يُجب أحد. الباب كان موصدًا بإحكام، ولم تعمل المفاتيح. اقترب الشيخ أحمد، وضع يده على الباب، ثم قال: "لا تكسروا شيئًا." قالوا: "لكن خالد؟" ردّ بهدوء: "لو أن خالد في خطر، لما صمتت المخطوطة." ثم سمعوا صوتًا خافتًا من الداخل: صوت ورق يُقلب، صوت حبر يُكتَب، وصوت دعاء لا يُعرف إن كان يُوجَّه إلى الله، أم إلى الإنسان الذي ضيّع نفسه.
في اليوم التالي، كان الباب مفتوحًا، لكن خالد لم يكن هناك. فقط، على الطاولة، ورقة جديدة مكتوبة بخط خالد: "أنا لم أذهب، بل وصلت."
بعد ثلاثة أيام، لم يعثر أحد على خالد، ولا على حقيبته، ولا حتى على أثر قدميه في الغرفة الترابية. كانت المخطوطة مغلقة، لكن كل من فتحها بعد ذلك لم يجد فيها شيئًا. لا سطر، لا حرف، لا أثر للورّاق، ولا حتى الصفحة التي كُتب فيها: "أنا لم أذهب، بل وصلت." كأن المخطوطة قرّرت أن تعود إلى صمتها، أو كأنها أخذت ما تحتاجه ونامت.
بعد أسبوع، جلس الشيخ أحمد في ساحة المسجد، يسلّم على الناس. مرّ به طفل صغير، في يده دفتر جديد. قال له الشيخ: "ماذا تكتب؟" قال الطفل: "ما أعرف. بس، كل يوم أكتب جملة، وأحس إن في أحد يقرأها قبل ما أكمّلها." ابتسم الشيخ وقال: "وهل تعرف من تقرأ له؟" هزّ الطفل رأسه وقال: "لا. بس أحسّه قريب." ثم ركض مبتعدًا، وهو يتمتم بجملة كأنها ليست من عمره: "اللي يكتبني.. مش أنا."
وفي تلك الليلة، رأى أحدهم ضوءًا خافتًا في مكتبة الجد. وحين اقترب، وجد الباب مفتوحًا على مصراعيه. لا شيء غريب في الداخل، عدا عن ورقة واحدة على الطاولة، لم يُعرف من كتبها، ولا كيف جاءت: "المعرفة ليست إجابة.. بل جرأة على السؤال."
ومات الحبر… وبدأ خالد.