لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
سألني أحدهم – ببراءة لا تخلو من عناد – كيف تكون الأرض كروية وتدور، ومع ذلك لا تتناثر مياه البحار ولا تسقط البيوت ولا البشر؟
ولأن الجواب على هذا النوع من الأسئلة لا يُنال من العزلة ولا يُستخرج من كهوف الجهل، فإننا بحاجة إلى صنفين من الناس: إما من سافر في الأرض طولًا وعرضًا، وتأمل الظواهر بأم عينه، أو من قرأ وفهم، وتزوّد بمفاتيح العلم لا ببقايا الحكايات الشعبية.
لقد كان السفر، منذ القدم، معلمًا أولَ وموقظًا للفكر. وأنا شخصيًا، حين انتقلت إلى ألمانيا، لم أكن أبحث عن أدلة على كروية الأرض، لكنّها هي التي قفزت أمامي.
في اليمن، كانت الشمس تشرق وتغيب بتغيّر طفيف، والفصول تتمايل ببطء. أما هنا، فقد وجدتُ الشمس في الصيف تشرق قرابة الخامسة والنصف صباحًا وتغرب بعد العاشرة مساءً، وفي الشتاء لا تظهر إلا قرابة الثامنة صباحًا وتغيب قبل الخامسة عصرًا.
وكلما اتجهتَ شمالًا، تزداد الظاهرة غرابة: ففي أقاصي النرويج، الليل يمتد لستة أشهر لا تطلع فيه الشمس، ثم تعود فتُشرق لستة أشهر أخرى دون غروب!
ما تفسير هذا إن لم تكن الأرض كروية؟ أليس ذلك دليلًا كافيًا لمن لا يزال يشكّك؟
وإنْ عبرتَ إلى نصف الكرة الجنوبي في الصيف، ستجد الشتاء في أوج قسوته، ودرجات الحرارة دون الصفر. وإن زرتهم في شتائك، رأيت عندهم صيفًا لاهبًا.
فما الذي يفسّر هذا التناقض الزمني بين نصفي الأرض سوى ميلان محورها بزاوية 23.5 درجة؟ وما تفسير تعاقب الفصول إلا دوران الأرض حول الشمس مرة كل عام، ودورانها حول نفسها كل 24 ساعة، محدثة الليل والنهار؟
ثم نأتي إلى السؤال الأشهر: لماذا لا تسقط المياه ولا البشر من "الكرة" الأرضية؟
الجواب ليس سحرًا ولا ألغازًا. فقد فهمه العالِم اليمني الهمداني قبل أكثر من ألف عام، حين شبّه الأرض بحجر مغناطيسي يجذب إليه كل شيء. ولو تخيلنا كرة من المغناطيس تحيط بها برادة حديد، لرأينا كيف تتمسّك الأشياء بها دون أن تنزلق.
وهكذا تعمل قوة الجاذبية، التي فصّلها نيوتن ووسّعها أينشتاين، وجعلها العلماء أساسًا لتطبيقات العصر.
ولمن يظن أن الجبال من حوله يجب أن "تدور أمامه" طالما أن الأرض تدور، فذلك جهل مركّب. الأرض لا تدور مثل مروحة يُثبّت فيها جزء ويتحرك جزء، بل تدور ككتلة واحدة، بكل ما عليها: جبالها، ومياهها، وهوائها، وبشرها.
كمن يجلس في سيارة، ثم يتعجب: "لماذا لا أرى المقود يدور حولي؟!"
إن ما تراه يدور هو ما خارج السيارة. وكذلك النجوم في السماء، لا تدور هي فعلًا، بل نحن من يدور، فتتبدل مشاهدنا منها. وكل النجوم "تتحرك" في السماء ليلًا، ما عدا نجمًا واحدًا ثابتًا تقريبًا: النجم القطبي، فوق محور دوران الأرض.
فسبحان من قسم العقول والأفهام، وابتلى البعض بعجز عن إدراك أبسط الظواهر، ولو أخبرتهم عن طائرات تحلّق أو سفن تسير فوق السحاب، لرموك بالجنون، لا لأنك كاذب، بل لأنهم سجناء تصورٍ بدائي لم يغادر جزيرتهم الصغيرة.
فما أعظم الفرق بين من يرى بعينين، وعقل، وخيال، ومن لا يرى إلا من ثقب الباب!