لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في كل لحظة تصلك فيها هذه الكلمات، تدور داخل جمجمتك عمليات كهربية وكيميائية أعقد من أي شبكة حاسوبية اخترعها الإنسان.
تفكّر، تتذكّر، تشعر، تتخيّل، وربما تتساءل:
من أين تنبع الأفكار؟ وأين تُخزَّن الذكريات؟ ولماذا نؤمن ونُحب ونبتكر ونحلم؟
ما بين طيات هذا النسيج الرمادي، يتجلّى أعظم لغز في الوجود: الدماغ البشري—آلة التفكير والشعور، بوابة الوعي، والمصدر الأوحد لكل ما أنتجه الإنسان من رياضيات وفنون وأساطير وفلسفات.
لكن ماذا لو بدأنا، لأول مرة، نرى هذا الدماغ كما لم نره من قبل؟
ماذا لو كشف العلم خرائط دقيقة لمتاهته الداخلية، مكشوفة بوضوح الخلية والمشبك؟
في هذا المقال، ننطلق في رحلة تجمع بين العلم العصبي والتأمل الفلسفي، نبحث فيها كيف يعمل الدماغ، كيف يُنتج الوعي، وكيف أن أحدث اكتشاف من Google ربما يكون المفتاح لتفكيك أعقد أسرارنا... نحن أنفسنا.
1. تكوين الدماغ البشري..أعقد مادة في الكون
الدماغ البشري، الذي لا يتجاوز وزنه 1.4 كيلوغرامًا، يُعد أعقد بنية معروفة في هذا الكون. يتكون من نحو 86 مليار خلية عصبية (نيورون)، ترتبط فيما بينها عبر تريليونات من المشابك العصبية (Synapses)، والتي تمثل نقاط التقاء تمرر الإشارات الكهربائية والكيميائية.
كل خلية عصبية يمكن أن تشكّل آلاف الاتصالات مع غيرها، مما ينتج عنه شبكة ديناميكية هائلة قادرة على المعالجة والتكيف والتعلّم.
2. كيف يُفكّر الدماغ؟
التفكير ليس عملية خطية، بل تفاعلية. يبدأ بإشارات كهربائية تنتقل بين الخلايا العصبية، مدفوعةً بتغيرات في الجهد الغشائي لكل خلية. تمر هذه الإشارات عبر شبكة المشابك التي تتغير باستمرار في قوتها وعددها حسب الخبرة والتجربة، وهي ما يُعرف بـ اللدونة العصبية (Neuroplasticity).
التفكير الواعي ينبثق غالبًا من تفاعل بين القشرة المخية الحديثة (neocortex)—خصوصًا الفصوص الجبهية والجدارية—ومراكز أعمق مثل اللوزة (amygdala) والحُصين (hippocampus).
3. الذاكرة: كيف يخزن الدماغ المعلومات؟
الذاكرة في الدماغ ليست مجرد خزنة، بل شبكة موزعة. هناك أنواع مختلفة منها:
الذاكرة الصريحة: تخزين الحقائق والتجارب (مثل تذكّر اسم صديق).
الذاكرة الضمنية: كمهارات ركوب الدراجة أو العزف على آلة موسيقية.
الذاكرة قصيرة الأمد تُعالج في الفص الجبهي، بينما الذاكرة طويلة الأمد تُعزّز عبر الحُصين.
كل استرجاع للمعلومة يُعدّ إعادة بناء لا استدعاء مباشر، ولهذا تخضع الذاكرة دومًا للتحوير والتشويه.
4. الوعي والمشاعر: بين المادة والتجربة
الوعي هو أكثر الظواهر مراوغة. نعي أنفسنا، ونشعر، ونقرّر، لكن العلم لا يزال عاجزًا عن تحديد موضع الوعي بدقة. تشير بعض النماذج إلى أن الوعي ينبثق من تزامن النشاط العصبي بين مناطق دماغية متعددة، خصوصًا في القشرة المخية الجبهية.
أما المشاعر، فمصدرها الجهاز الحوفي (limbic system)، وتتضمن تفاعلات معقدة بين اللوزة والحُصين والمهاد. المشاعر ليست بدائية، بل تؤثر مباشرة على صنع القرار والتعلّم وحتى التفكير الفلسفي.
5. الدماغ والتخيّل والفيزياء والرياضيات والفلسفة
التخيّل يستخدم نفس الشبكات العصبية المسؤولة عن الإدراك، لكنه يعيد تركيب الصور ذهنياً.
الفيزباء والرياضيات تنشط الفص الجداري العلوي والفص الجبهي، في حين أن الفلسفة تتطلب تكاملاً بين المعالجة المنطقية (القشرة الجبهية) والتأمل الذاتي (شبكة الوضع الافتراضي Default Mode Network).
الأيديولوجيات البشرية تنشأ من مزيج من الخبرات العصبية، والارتباطات الثقافية، والانحيازات المعرفية التي يطوّرها الدماغ لحفظ الطاقة والتموضع الاجتماعي.
كل ما أنتجه البشر من فنون، لغات، أنظمة سياسية، وأساطير، هو إفراز لهذه الشبكة العصبية المتفاعلة على مدى آلاف السنين.
6. هل الروح نابعة من الدماغ؟
تشير دراسات التصوير العصبي إلى أن التجارب الدينية والروحية تنشط مناطق معينة من الدماغ، منها الفص الجبهي المتوسط، والفص الجداري الخلفي، واللوزة الدماغية. أحد أشهر النماذج يُعرف بـ "God Spot"، ويفترض أن الإحساس بوجود كيان خارجي يتوسط الوعي الشخصي نابع من آليات عصبية قابلة للقياس.
وللأمانة الدراسات الأحدث تُشير إلى أن "التجربة الدينية" ليست محصورة في مكان واحد، بل هي نتيجة لتفاعل شبكي بين عدة مناطق دماغية، خصوصًا تلك المرتبطة بـ:: المشاعر، الانتباه، إدراك الذات، اللغة والمعنى، لهذا، يتحدث العلماء حاليًا عن "شبكة الوعي الديني" (Religious or Spiritual Neural Network) بدلًا من "God Spot".
لكن هل يعني هذا أن الإيمان مجرد وظيفة دماغية؟ ليس بالضرورة. بل قد يكون الدماغ هو الأداة التي يُستقبل بها النداء الديني، لا مصدره.
7. أحدث الاكتشافات: Google تدخل أعماق الدماغ
في مايو 2024، كشفت Google Research بالتعاون مع مختبر Lichtman بجامعة هارفارد عن أدق خريطة للدماغ البشري على الإطلاق.
قاموا بمسح ملليمتر مكعب واحد فقط (رأس دبوس) من نسيج دماغ بشري باستخدام المجهر الإلكتروني، ثم تحليل البيانات باستخدام الذكاء الاصطناعي.
النتائج كانت مبهرة:
57,000 خلية عصبية
150 مليون مشبك عصبي
أكثر من 1.4 بيتابايت من البيانات
أصبحت متاحة للعالم عبر الإنترنت
هذه البيانات ليست مجرد رقم، بل تمثل نافذة غير مسبوقة لفهم البنية الدقيقة التي ينبثق منها الفكر والذاكرة والمشاعر.. بل وربما الوعي ذاته.
8. الخاتمة: الدماغ.. حيث يلتقي العلم بالفلسفة
إن قدرة الدماغ على تصوّر المفاهيم المجردة، وابتكار أدوات لفهم ذاته، والتأمل في وجوده، هو ما يجعله أعظم أداة حصل عليها البشر.
كل قصيدة، كل معادلة، كل صلاة، كل حرب، كل حضارة ليست إلا تذبذبًا كهربائيًا داخل مادة رمادية.
ومع ذلك، نحن نشعر، نحلم، نأمل، ونكتب ونقرأ هذا المقال الآن.
هل الدماغ مجرد آلة؟
أم أن في طيّاته ومضات من شيء يتجاوز المادة؟
ربما تكشف لنا الخريطة القادمة ما إن كان الوعي وهمًا متقنًا.. أم إشعاعًا من جوهر أعمق.