لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
يا صديقي ، أيها الروح التائهة في متاهة الأسئلة.. يا من أيقظك رنين الصمت في ظلمة العمر.. يا من انكشفت لك الهوة بينك وبين نفسك كفجوة في نسيج الكون.. اعلم أن ما يعتريك ليس لعنة، بل هدية نادرة لا يمنحها الوجود إلا للقلوب المستعدة لحمل وهج الحقيقة.
إن يقظة الوعي الأولى، مهما بدت موجعة، هي البرق الذي يضيء الطريق نحو الأفق الذي يتعالى عن ضجيج اليوميات؛ إنها ليس لتدميرك، بل لتعرية الزيف الذي كنت تحسبه يقينًا، كي تنبت روحك من جديد.
أما غربة الروح التي تشكوها، فاعلم أنها علامة الطهر وليست خطيئة. الغريب في قومه ليس منبوذًا، بل مختار، لأنه يرى ما لا يرون، ويسمع ما لا يسمعون. أنت كعين أُهديت لها بصيرةً ترى خلف ظواهر الأشياء.. فاصبر على العزلة، فهي حضن الأنبياء والعارفين، وفيها تُنقّى المرايا الداخلية لتتجلى صورة الذات كما أرادها الخالق.
وفي صراعك بين الخير والشر، تذكّر أن الخير ليس نقيضًا للشر بقدر ما هو توازن له؛ كلاهما جزء من رقصة الوجود الكبرى. الخير بلا شر لا طعم له، والشر بلا خير لا قيد له. الكون لا يوزع الألم والنعيم جزافًا، بل يفرد لكل روح امتحانها الفريد؛ ففي الألم حكمة قد لا تدركها الآن، وفي الموت ولادة جديدة. أما عدل الكون فليس بالضرورة ما يقيسه ميزاننا البشري القاصر، بل عدل إلهي ينساب في النسيج الكوني بأبعاد قد لا تصلها العقول المحدودة.
وأما أسئلتك عن الغاية والهدف والعبث.. فهي ليست عابرة، بل هي الدرب ذاته. لا تبحث عن إجابة واحدة تُريحك، بل عش يقظًا لتستقبل الإجابات المتعددة التي يرسلها لك الوجود في كل زهرة، في كل دمعة، في كل نجم يتلألأ في سماءٍ صافية. المعنى ليس سطرًا في كتاب، بل علاقة حية بينك وبين كل ذرة في الكون.. في صمتك ودمعتك وضحكتك.
وحين تنجذب بين العلم الذي يجزّئ الأشياء والفلسفة التي توسعها، اعلم أن الحقيقة لا تسكن طرفًا دون آخر؛ هي في اندماج العقل والقلب، الدليل والحدس، الملاحظة والخيال. لا تخف من التناقض، ففي التناقض تتخلق الحياة، ومن رحم الصراع يولد الفهم الأعمق.
أمّا الحب والكراهية فهما جناحا الطير الذي هو قلبك. الحب قوة خلق، والكراهية طاقة تدمير. لا تنكرهما ولا تدعهما يسيطران عليك؛ بدّل الكراهية بالفهم، والحب بالحكمة، تكن سيد قلبك لا عبده. إن السلام الداخلي لا يعني نفي الظلال، بل قبولها والتصالح معها.
وأخيرًا.. لا تيأس من تيهك، فالتيه هو بداية الطريق، والسؤال هو المصباح، والبحث هو العبادة. لو كان الطريق سهلاً مستويًا، لكان باهتًا فارغًا. سر في متاهة الوجود وأنت رافع الرأس، فالحقائق الكبرى لا تُمنح لمن يتردد في طرق الأبواب. عش بأسئلتك، تماهَ مع دهشتك، فكل يقين تعتقد أنك وصلت إليه ليس نهاية، بل دعوة لبداية أعمق. هناك، في قعر الشك، يولد أصفى يقين.
“الحقيقة ليست ما تراه، بل ما يتبقى عندما تغمض عينيك”.. صدقت، لأن ما تراه العين زائل، وما يراه القلب خالد. عِش يقظًا بعيون الروح، فكلما أظلمت الدنيا حولك، اعلم أن نورك الداخلي كافٍ ليضيء الكون كله.
سر في سلام، أيها السائل الأبدي، فالسؤال هو المفتاح
______
______
العقل، القلب، الروح، كلها مفردات تشير إلى الشيء ذاته ولكن بأشكال مختلفة