لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في خضم المعارك السياسية والصراعات الداخلية التي تشهدها كثير من دولنا العربية، يبرز سؤال جوهري لا بد من التوقف عنده: هل يمكن لجماعة أو حزب أو طائفة أن تخدم أعداء الوطن من حيث لا تدري؟ وهل هناك سلوكيات قد تبدو "داخلية" أو "محلية" في ظاهرها، لكنها في حقيقتها تؤدي إلى نتائج تصب في مصلحة من يتربصون بالدولة من الخارج؟
الجواب للأسف هو: نعم. فالتاريخ مليء بالأمثلة التي تؤكد أن أخطر ما يواجهه الوطن ليس دائمًا العدو الخارجي، بل الشروخ التي تنشأ من داخله، والتي تضعف تماسكه وقدرته على المواجهة.
أولى الخدمات المجانية: إضعاف الدولة الوطنية
حين تضعف الدولة الوطنية، تفتح الأبواب على مصاريعها أمام التدخلات الخارجية. فغياب الثقة بمؤسسات الدولة، وتراجع دورها في إدارة النزاعات، وتآكل هيبتها في الشارع، كل ذلك يشكل البيئة الخصبة لنمو البدائل الطائفية أو المناطقية أو الحزبية، والتي تُستغل بسهولة من قبل أطراف خارجية تبحث عن موطئ قدم.
ومما يؤسف له أن كثيرًا من الحركات أو الأحزاب – دون وعي – تساهم في إضعاف الدولة من خلال ممارساتها، كأن تروّج لخطاب الإقصاء أو الفوقية، أو أن تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة لا لإصلاحها، بل لاحتكارها.
التعليم والعلماء.. البنية التحتية التي تُهدر
من أشد مظاهر إضعاف الدولة أيضًا – والتي تُهمل كثيرًا في الخطاب العام – هو تهميش العلم والتعليم. إن محاربة العلماء المتميزين، وتجاهل الأكاديميين، وعدم الاهتمام بالمعلمين والمخترعين والمبدعين، يمثل استنزافًا حقيقيًا لأهم مورد تملكه أي أمة: العقل البشري.
فعندما يُترك العالم دون راتب يكفيه، أو يُحرم من بيئة بحثية مناسبة، أو يُحاصر إداريًا وروتينيًا حتى يُكسر، فإننا فعليًا نطرد العقول من أوطانها، ونمنح الآخرين تفوقًا مجانيًا.
إن الدولة التي لا تستثمر في التعليم، ولا تُكرم العلماء، ولا تُعطي للبحث العلمي أولوية، هي دولة عاجزة عن بناء مستقبلها، وبالتالي ستظل دائمًا في موقع الدفاع، لا المبادرة. والكارثة أن هذا الإهمال غالبًا ما يكون نتيجة للجهل أو الحسد أو غياب الرؤية، لكنه يؤدي إلى نتيجة واحدة: إضعاف الدولة وتراجعها في سباق الأمم.
الاقتصاد الوطني.. ضحية أخرى
لا يمكن لأي دولة أن تحافظ على سيادتها أو تصمد أمام الأزمات إذا كان اقتصادها هشًا. وللأسف، هناك ممارسات تضعف الاقتصاد دون أن يلتفت أصحابها لخطورتها؛ كفرض الجبايات المبالغ فيها على القطاع الخاص، أو السياسات العشوائية التي تدفع برؤوس الأموال إلى الهروب، أو حتى الفساد الذي يُهدر الموارد ويغلق الأبواب أمام الكفاءات والمبادرات.
النتيجة؟ اقتصاد مشلول، وطن عاجز عن الاكتفاء الذاتي، وبيئة طاردة للاستثمار، مما يجعل الدولة رهينة للمعونات أو التبعية الاقتصادية.
تمزيق النسيج الاجتماعي.. الطريق نحو الانهيار
حين تسود السياسات الجهوية أو المناطقية، ويتحول الولاء من الوطن إلى العشيرة أو الطائفة أو الحزب، فإننا نؤسس لانقسام خطير في المجتمع. وعندما يشعر جزء من المواطنين أنهم مستبعدون أو محتقرون، تتعمق مشاعر الغضب والكراهية، وتصبح الدولة ميدانًا لصراعات الهوية لا لمشروع وطني جامع.
هذا الانقسام الداخلي، وإن كان يبدو صراعًا محليًا، إلا أنه يخدم الأعداء الذين يتقنون الاستثمار في الشقاق، ويدعمون دائمًا من "يُضعف الداخل ليُسهّل السيطرة من الخارج".
الفساد.. سرطان الدولة
يُعد الفساد المالي والإداري من أبرز عوامل إضعاف الدولة؛ فهو لا يهدر الموارد فقط، بل يهدر الثقة. إذ يشعر المواطن أن الدولة ليست له، بل لعصبة من المنتفعين. ومع تآكل هذه الثقة، تتراجع مشاعر الانتماء، ويضعف الالتفاف الشعبي حول مؤسسات الدولة، وهو ما ينعكس سلبًا على قدرة الدولة في مواجهة الأزمات، أو التصدي لأي تهديد خارجي.
هل من حلول؟
لكي لا نستمر – عن غير قصد – في خدمة أعدائنا، لا بد من مراجعة شاملة لسلوكياتنا ومواقفنا:
تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، فوق الطائفة والمذهب والمنطقة.
تبني خطاب وحدوي غير إقصائي، يرحب بالاختلاف وينبذ التفرقة.
إصلاح منظومة الحكم والإدارة لمحاربة الفساد وإعلاء الكفاءة.
حماية الاقتصاد الوطني عبر تشجيع الإنتاج، وتسهيل الاستثمار، ومحاربة الاحتكار والجباية المفرطة.
إعادة الاعتبار للتعليم والعلماء، عبر تمويل الأبحاث، وتحسين معيشة المعلمين، وتكريم المبدعين.
إشراك المجتمع في صنع القرار، لأن الدولة القوية تبنى بالتوافق لا بالاستفراد.
في الختام
ليست كل خدمة للخصم نابعة من الخيانة أو التنسيق، بل إن أكثر ما يخدم أعداء الأوطان هو الجهل والأنانية وغياب الوعي الوطني. علينا أن ندرك أن تمزيق الدولة من الداخل لا يقل خطورة عن غزوها من الخارج.. وأن السلوكيات التي تضعفنا قد تكون في ظاهرها اجتهادات سياسية، لكنها في حقيقتها qنابل موقوتة تُضعف الدولة وتخدم خصومها.