لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
تمثل إعادة الإعمار الأكاديمي بعد النزاعات المسلحة إحدى القضايا الجوهرية التي تتطلب اهتمامًا استثنائيًا من الحكومات، والجهات المانحة، والمؤسسات الدولية. فبينما تُعاد بناء الطرق والمدارس، غالبًا ما تُهمل البنى الذهنية والمؤسسية للمعرفة، رغم دورها المحوري في إعادة تشكيل الدولة والمجتمع بعد الحرب. في هذا المقال، نحلل مفهوم "إعادة الإعمار الأكاديمي"، ونستعرض مرتكزاته، تحدياته، وأبرز النماذج الدولية، مع اقتراح خارطة طريق قابلة للتطبيق في السياق العربي.
في أعقاب الحروب، يكون المجتمع في أمسّ الحاجة إلى إعادة بناء ذاته معرفيًا وقيميًا، لا فقط عمرانيًا. وإذا كانت مشاريع الإعمار التقليدية تركز على الإسكان والبنى التحتية، فإن إعادة الإعمار الأكاديمي تضع الإنسان، والعقل، والمؤسسة العلمية في صلب عملية التعافي.
ففي غياب منظومة أكاديمية فاعلة، لن يكون هناك تعليم نوعي، ولا بحث علمي محفّز، ولا كادر بشري قادر على تولي مهام التنمية، وإدارة ما بعد الحرب.
يشير مصطلح إعادة الإعمار الأكاديمي إلى:
"مجموعة العمليات والإصلاحات الممنهجة التي تهدف إلى إعادة بناء النظام التعليمي العالي والبحثي في أعقاب النزاعات أو الكوارث، بحيث يُستعاد النشاط العلمي، وتُرمم البنى التحتية، وتُعاد هيكلة البرامج والمؤسسات لضمان الجودة والاستمرارية والابتكار."
ولا تقتصر هذه العملية على إصلاح الجامعات، بل تشمل:
إعادة تأهيل الكادر الأكاديمي والإداري.
تطوير البنية المؤسسية والقانونية للتعليم العالي.
إصلاح المناهج وتكييفها مع الواقع الجديد.
استعادة الثقة الاجتماعية في المؤسسات الأكاديمية.
إحياء الدور الوطني والدولي للجامعات في التنمية وبناء السلام.
تكتسب هذه العملية أهمية خاصة لعدة أسباب:
الخسائر الجسيمة في الرأسمال البشري والمعرفي (مقتل أو هجرة الأساتذة والباحثين).
تهدم البنى التحتية الأكاديمية: قاعات محاضرات، مختبرات، مكتبات.
انقطاع الأجيال عن التعليم والبحث لسنوات طويلة.
تسييس المؤسسات الأكاديمية أو تفريغها من محتواها العلمي.
فقدان الروح النقدية والدور التنويري للجامعة في مرحلة إعادة البناء.
ضعف التمويل وتنافس أولويات الإعمار.
غياب الإرادة السياسية لإصلاح النظام التعليمي من جذوره.
الاعتماد المفرط على المعونات دون استراتيجية وطنية.
الخلل في جودة التعليم العالي قبل الحرب واستمراره بعدها.
مخاطر هجرة الأدمغة وتثبيط الباحثين المحليين.
تأثيرات الانقسام المجتمعي والطائفي على استقلالية المؤسسات.
شهد العراق تدميرًا ممنهجًا للجامعات، واغتيالات طالت أكثر من 500 أستاذ جامعي، ما تسبب في "نزيف أكاديمي" ما زال مستمرًا. ورغم بعض الجهود لإعادة التأهيل، إلا أن غياب الرؤية الوطنية وتسييس المؤسسات أعاقا التقدم الحقيقي.
استثمرت الدولة بشكل استراتيجي في التعليم العالي، فأنشأت "جامعة رواندا" الموحدة، ودمجت البحث العلمي في مشاريع المصالحة الوطنية، ونجحت في تكوين جيل جديد من الباحثين.
أعادت بعض الجامعات العريقة كـ"الجامعة الأمريكية في بيروت" ترميم منشآتها بسرعة، لكنها واجهت صعوبات في ضمان الشفافية والاستقلال، نظرًا لاستمرار الانقسامات السياسية.
يتطلب تقييم دقيق للخسائر البشرية والمؤسسية، وتحليل شبكات المعرفة التي تم تدميرها أو تهجيرها.
تضم ممثلين عن الجامعات، والوزارات، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، وتتمتع بسلطات تنفيذية حقيقية.
من خلال برامج مثل Erasmus+، والبنك الدولي، ومؤسسة DAAD، ومراكز أبحاث الشتات.
يشمل التعليم الرقمي، والمقررات المفتوحة، والشراكات العابرة للحدود.
عبر برامج حوار مجتمعي، أبحاث تتناول العدالة الانتقالية، ومساقات في التربية على المواطنة.
إن إعادة الإعمار الأكاديمي ليست عملية ترميم تقني، بل مشروع حضاري يعيد بناء النخبة الفكرية للمجتمع. وبدونها، ستظل الدولة هشة معرفيًا، وتعاني من عجز مزمن في توليد الحلول لمشكلاتها.
ولذلك، يجب أن تُدرج هذه المهمة ضمن أولويات التعافي الوطني بعد كل نزاع، باعتبارها استثمارًا طويل الأمد في مستقبل الشعوب.
11.01.2025