لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
حين ترفع عينيك إلى السماء ليلًا قد تبدو لك كأنها قُبّة مرصّعة بالجواهر.. لكنّ الحقيقة أعمق بكثير. الفضاء ليس سطحًا تُثبَّت عليه نجوم براقة، بل محيط ثلاثي الأبعاد تمتد فيه النجوم في أعماق متفاوتة، وكل نقطة مضيئة هي رسالة ضوئية جاءت من زمنٍ ما. فهل نرى هذه النجوم في هذه اللحظة؟ أم أننا نرى ما كانت عليه في الماضي بنسبة تأخير لا مفرّ منها؟
لنمشِ خطوة خطوة وبهدوء ممتع، من غير معادلات مُرعبة ولا تعقيد زائد.
1) سرعة الضوء.. ولماذا تعني «النظر إلى الماضي»؟
الضوء أسرع شيء نعرفه في الكون، وسرعته في الخلاء مُثبّتة تعريفًا عند
299,792,458 مترًا في الثانية. وبما أن المتر نفسه مُعرّف بواسطة هذه السرعة،
لو حوّلنا ذلك إلى وحدات مألوفة:
في الثانية: ≈ 299,792 كيلومتر
في الدقيقة: ≈ 17,987,547 كيلومتر
في الساعة: ≈ 1,079,252,849 كيلومتر
في اليوم: ≈ 25,902,068,371 كيلومتر
في السنة (السنة اليوليانية القياسية): ≈ 9.46 تريليون كيلومتر
وهذه هي «السنة الضوئية».. ليست وحدة زمن، بل مسافة يقطعها الضوء خلال سنة.
الفكرة الحاسمة هنا بسيطة وذكية معًا: بما أن الضوء يحتاج وقتًا ليصلنا، فكل ما نراه في السماء هو الماضي. كلما كان الجِرم أبعد، طال تأخّر «الخبر» الذي يصلنا منه.
2) أمثلة سريعة.. كم هو «قِدَم» ما نراه؟
القمر: نراه كما كان قبل 1.3 ثانية فقط.
الشمس: ضوؤها يصلنا بعد 8 دقائق و20 ثانية تقريبًا. لو أطفأ أحدهم الشمس بمفتاح خفي فلن نلاحظ ذلك فورًا، بل بعد ثماني دقائق وثلث.
المشتري: بحسب بُعده المتغيّر، ضوؤه يصلنا في نحو 33 إلى 54 دقيقة.
أقرب نجم بعد الشمس (بروكسيما قنطورس): نراه كما كان قبل نحو 4.25 سنة.
مجرة أندروميدا: نراها كما كانت قبل نحو 2.5 مليون سنة. نعم، هذه صورة «شابة جدًا» لتلك الجارة البعيدة.
بهذا المعنى، السماء متحفٌ زمني مفتوح.. ندخله بالمجّان كل ليلة.
3) هل السماء قُبّة مرصّعة؟ الدليل أنها «عميقة»
لو كانت النجوم على قشرة واحدة مسطّحة لما تغيّر موضعها النسبي أبدًا. لكننا نقيس تغيّرًا طفيفًا اسمه المنظور النجمي (البارالاكس) عندما تدور الأرض حول الشمس، فنحسب منه المسافات القريبة مباشرة. مهمة غايا الأوروبية وسّعت هذا القياس إلى أكثر من مليار نجم وبنت خريطة ثلاثية الأبعاد مذهلة لمجرتنا. هذا دليل عملي على أن النجوم موزّعة في عمق الفضاء لا على سطح قبة.
وبعد البارالاكس تأتي «الشموع القياسية» مثل قيفاويات والمستعرات العظمى لقياس مسافات أبعد ضمن ما يسمى سلّم المسافات الكوني.
4) «خبرٌ قديم يصل اليوم».. مستعر 1987A مثالًا
في فبراير 1987 شاهد البشر أقرب مستعر أعظم في «العصر الحديث»، واسمه SN 1987A. لكنه انفجر في سحابة ماجلان الكبرى على بُعد نحو 168 ألف سنة ضوئية، ما يعني أننا رأينا الحدث متأخرين 168 ألف سنة عن موعده الحقيقي هناك.
5) ماذا عن مثال «1447 سنة» ورؤية أحداث الهجرة؟
لو كان هناك كوكب يبعد 1404 سنة ضوئية وينظر نحونا بتلسكوب «جبّار»، فهل يرى الأرض كما كانت قبل 1447 سنة هجرية؟
نعم من حيث المبدأ الزمني: سيرى الأرض كما كانت قبل نحو 1447 سنة قمرية. ولأن السنة الهجرية قمرية أقصر من الشمسية، فإن 1447 سنة هجرية ≈ 1404 سنة شمسية تقريبًا، أي قريب جدًا من سنة الهجرة 622 ميلادية بالنسبة لحاضرنا في 2025. الفارق سببه أن السنة الهجرية 354–355 يومًا وليست 365 يومًا.
لكن من حيث القدرة البصرية، فاسمح لي بالدعابة العلمية التالية: لكي تَرى تفاصيل بشرية على الأرض من مسافة ~1400 سنة ضوئية، ستحتاج فتحة منظار بحجم ملايين الكيلومترات بسبب حدّ الانحلال (Rayleigh). حتى أنظمة التداخل الضوئي الحديثة لا تقترب من هذا الخيال. بمعنى آخر.. لن ترى «أحداث المدينة» ولكن قد ترصد إشاراتٍ كوكبية عامة مثل تغيّر لون الغلاف الجوي أو انعكاس السحب لو توفّرت لك تقنية غير مسبوقة.
خلاصة المثال: الضوء يحمل الماضي فعلًا، لكن دقّة التفاصيل التي يمكن استخلاصها تحدّها فيزياء التبعثر والحيود وقيود الأجهزة.
6) هل نرى النجوم «الآن»؟ الإجابة العلمية الدقيقة
لا بالمعنى اليومي. نحن دائمًا نرى ماضيها بمقدار زمن رحلة الضوء إلينا. والأبعد من ذلك أن عبارة «الآن في الكون» إشكالية أصلًا. النسبية الخاصة لأينشتاين تقول إن «التزامن» ليس مطلقًا، وما هو «آنًا» عندك ليس كذلك لمراقب يتحرّك بسرعة مختلفة. لذا فالسؤال «ماذا يحدث الآن هناك؟» ليس له تعريفٌ صارم عام يشمل المجرات البعيدة.
7) لماذا تُشبه التلسكوبات «آلات زمن»؟
كلما نظرنا أبعد رأينا أقدم. تلسكوب هابل رأى مجرات تشكّلت بعد مئات الملايين من السنين من الانفجار العظيم، وتلسكوب جيمس ويب يدفع هذا الحدّ أبعد، ليرينا الكون كما كان في طفولته الأولى. هذا ليس سحرًا، بل نتيجة مباشرة لأن الضوء يأخذ وقتًا.. طويلًا جدًا.
وللمقارنة الكونية، عُمر الكون نحو 13.8 مليار سنة وفق قياسات WMAP وPlanck، لكن نطاق ما يمكننا رصده اليوم يمتد حتى نحو 46.5 مليار سنة ضوئية كـ«نصف قطر» للكون المرصود، لأن الفضاء نفسه تمدّد أثناء رحلة الضوء.
أسئلة تتكرر وإجاباتها المختصرة
هل يمكن أن يكون نجمٌ ما قد مات، ونحن ما زلنا نراه حيًّا؟
نعم، لو كان بعيدًا بما يكفي.. سنبقى نتلقّى ضوء «ماضيه» فترةً طويلة بعد تغيّره هناك. مثال SN 1987A يوضّح الفكرة على نطاق 168 ألف سنة.
هل السماء حقًا ثلاثية الأبعاد لا قبة؟
نعم. نقيس «عمق» النجوم بطرق متعددة، أولها المنظور النجمي الذي بنَت به غايا خريطة ثلاثية الأبعاد لأكثر من مليار نجم.
ما معنى «سنة ضوئية» مرة أخرى؟
هي نحو 9.46 تريليون كيلومتر، لا زمنًا.
كم يتأخر ضوء الشمس؟
حوالي 8 دقائق و20 ثانية في المتوسط.
أبعد ما نراه اليوم؟
نرى توهّج الخلفية الكونية الذي انطلق عندما كان عمر الكون نحو 380 ألف سنة فقط، وتُقدَّر المسافة «الراهنة» لمصدره اليوم بنحو 46 مليار سنة ضوئية بسبب تمدّد الفضاء.
9) زاوية لطيفة لعشّاق الأرقام
بناءً على قيمة c التعريفية، يقطع الضوء في الفراغ تقريبًا:
300 الف كم في الثانية
18 مليون كم في الدقيقة
1مليار كم في الساعة
26 مليار كم في اليوم
9 ونصف تريليون كم في السنة
من هنا جاء استعمال «السنة الضوئية» لتسهيل الكلام عن المسافات الفلكية بدلًا من أرقام مرعبة كثيرة الأصفار.
خاتمة..
إذًا، حين ننظر إلى النجوم لسنا نتفرّج على قبة مجوهرات، بل نقرأ أرشيفًا ضوئيًا لكونٍ شاسع. نرى الشمس متأخرة دقائق، والجيران من النجوم متأخّرين سنوات، والمجرات متأخرة ملايين وبلايين السنين. وكل ذلك لأن للضوء حدودًا زمنية لا يتجاوزها أحد. هذا ليس انتقاصًا من دهشة المشهد، بل زيادتها.. فنحن لا نرى فقط «أين» الأشياء، بل «متى» كانت أيضًا.
ولو شئت خلاصة في جملة واحدة: السماء ليلًا ليست لوحة ثابتة، بل تاريخٌ مضيءٌ يصلنا على مهل.