لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
تمهيد
ليس من السهل الخوض في المقارنات الحضارية دون أن يقع الباحث في فخ التعميم أو إصدار الأحكام المسبقة. غير أن السؤال عن مصير الفلسفة في الحضارة الإسلامية، ولماذا لم تؤدِّ إلى تحرير المجتمعات من الخرافة والوهم كما فعلت في الغرب، يظل سؤالًا مشروعًا يستحق التأمل والتحليل الهادئ. كيف أمكن للغرب أن يتجاوز سلطة الكنيسة ويؤسس لعقلانية علمانية حداثية، بينما ظلت المجتمعات الإسلامية رهينة أنماط التفكير الغيبي واللامعقول، رغم احتضانها لفلاسفة عظام وتأملات عقلية رفيعة منذ القرن الثاني الهجري؟
سنعرض في هذا المقال تحليلًا مقارنًا متزنًا لجذور هذا التباين، بالعودة إلى السياقات التاريخية والدينية والسياسية لكلا الحضارتين، ونختم بتأملات في المشاريع الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي التي حاولت تجديد العقل الفلسفي وتحديث العلاقة بين الدين والعقل.
أولًا: السياق اليوناني ونشأة العقل النقدي
الفلسفة في اليونان الكلاسيكية لم تكن وليدة فراغ، بل كانت نتيجة تحوّلات حضارية عميقة: الانتقال من الأسطورة (الميثوس) إلى العقل (اللوغوس)، وتنامي الروح المدنية في مدن-دول مثل أثينا. تميّزت التجربة اليونانية بإعلاء مكانة الإنسان، وطرح أسئلة عن الكون والوجود والأخلاق لا تخضع لمرجعية دينية ثابتة.
لقد أسّس سقراط، من خلال أسلوبه التهكمي والسؤال الفاحص، ما يشبه "الشك المنهجي"، داعيًا الناس للتفكر بأنفسهم لا تقليد الموروث. وتطوّرت هذه النزعة مع أفلاطون في تصويره لعالم المثل، ومع أرسطو في ربط العقل بالتجريب والملاحظة.
ولأن الفلسفة كانت تفاعلية ومنفتحة على المدارس المختلفة، فقد ولّدت مع الوقت إرثًا عقلانيًا شكّك في الخرافات والأساطير، وخصوصًا عندما انتقلت إلى المجال الروماني ومن ثم إلى الفضاء المسيحي الوسيط، حيث بدأت تنمو في رحم صراع مرير مع الكنيسة.
ثانيًا: الغرب المسيحي.. من القمع إلى التحرر
في أوروبا، لم تُولد الفلسفة من حضن الدين، بل اصطدمت به. الكنيسة في القرون الوسطى هيمنت على الفكر، وحرّمت التأمل الفلسفي الذي قد يشكك في سلطة النصوص أو يؤسس لمعايير أخلاقية خارج سلطتها. لكن مع القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ونتيجة لترجمة الفلسفة الإسلامية والأرسطية إلى اللاتينية، عادت الفلسفة للغرب، وتحديدًا من خلال "توما الأكويني" الذي حاول التوفيق بين العقل والإيمان.
مع مرور الوقت، بدأت الفلسفة تفكك سلطة الكنيسة عبر مفكرين أمثال ديكارت (الذي أسس اليقين على الشك)، وكانط (الذي أرسى حدود العقل والدين)، وسبينوزا (الذي فكّك النصوص الدينية تأويليًا)، وفولتير وروسو (الذين أسسوا لروح التنوير).
وهكذا، وُلدت الحداثة الغربية من رحم الصراع بين العقل والإكليروس، ومعها نشأ تصور جديد للإنسان كمصدر للمعرفة، لا النصوص فقط.
ثالثًا: الفلسفة في الحضارة الإسلامية: صعود مبكر وانحدار لاحق
بدأ التفكير الفلسفي في العالم الإسلامي في وقت مبكر، بترجمات التراث اليوناني على يد الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. هؤلاء الفلاسفة سعوا إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، وليس إلى القطيعة. فقد رأوا أن الوحي لا يتعارض مع العقل، بل يدعوه للتأمل.
ابن رشد، على وجه الخصوص، قدّم دفاعًا عقلانيًا شديد الأهمية عن الفلسفة، معتبرًا إياها واجبًا دينيًا لمن يستطيع التعمق، كما في كتابه فصل المقال. غير أن هذا المشروع الفلسفي لم ينجح في بناء تيار اجتماعي متين، وظلّ نخبوياً، محصورًا بين العلماء.
ثم جاء الإمام الغزالي في لحظة مفصلية، إذ انتقد الفلاسفة نقدًا صارمًا في كتابه تهافت الفلاسفة، متهماً إياهم بالكفر في بعض المسائل، ومُعليًا من شأن الكشف الصوفي على العقل البرهاني. وعلى الرغم من أن ابن رشد ردّ عليه في تهافت التهافت، إلا أن الغلبة في الوجدان الديني والثقافي كانت لصالح الغزالي.
نتج عن ذلك خفوت المسار الفلسفي العقلاني، وصعود الفكر الغنوصي والفقهي والتصوفي، حيث أصبح الوحي هو مصدر الحقيقة الوحيد، والعقل مجرد خادم. تراجعت الفلسفة، وساد مناخ فكري يعادي التأمل النقدي.
رابعًا: العوامل البنيوية للفشل
هناك عدة عوامل بنيوية ساهمت في فشل المشروع الفلسفي الإسلامي في إحداث تحوّل اجتماعي جذري:
عدم استقلال الفلسفة عن الدين: بخلاف الغرب، لم تستطع الفلسفة في الحضارة الإسلامية الانفصال عن الإطار الديني، بل سعت دومًا للتوفيق معه. وعندما اختلفت معه، نُبذت.
غياب الصراع التاريخي مع "كنيسة إسلامية": لم تكن هناك مؤسسة دينية مهيمنة كما في الغرب يمكن للفلاسفة أن يصطدموا بها ويتجاوزوها. بل كان الفقهاء والعلماء منتشرون في المجتمع، ويتحدثون بلسان الدين، مما صعّب الثورة عليهم.
السلطة السياسية المتغيرة: لم تدعم الفلسفة بوصفها مشروعًا لتحرير العقول. على العكس، في كثير من الأحيان، استخدمت الدين كأداة للضبط، ما جعل التيارات الصوفية والفقهية أكثر استقرارًا وانتشارًا من الفكر النقدي.
ضعف الطبقة البرجوازية: في الغرب، ساهم صعود البرجوازية في دعم العقلانية والتجريب والعلم. أما في المجتمعات الإسلامية، فلم تنشأ هذه الطبقة بالزخم نفسه.
تحوّل الفلسفة إلى علم كلام: في مراحل لاحقة، تم "أسلمة" الفلسفة في شكل علم الكلام، الذي كثيرًا ما أصبح دفاعيًا، لا عقلانيًا، يبرر العقائد بدلًا من مساءلتها.
خامسًا: المشاريع الفكرية الحديثة.. محاولات متعثرة للإحياء
في العصر الحديث، برزت محاولات متعددة لإحياء العقل الفلسفي في الإسلام:
محمد أركون دعا إلى "نقد العقل الإسلامي"، مستفيدًا من مناهج الألسنية والتفكيك، لكنه اصطدم بمعوقات لغوية وثقافية، حيث ظل بعيدًا عن القارئ العربي العادي.
حسن حنفي حاول تأسيس "يسار إسلامي"، يعيد تأويل النصوص الدينية لصالح العدالة الاجتماعية والعقلنة، لكنه وُوجه بنقد مزدوج من المحافظين والماركسيين على حد سواء.
محمد عابد الجابري قدّم مشروعه في "نقد العقل العربي"، مُصنّفًا الفكر الإسلامي إلى ثلاث بنيات (البيان، العرفان، البرهان)، ودعا إلى العودة لابن رشد كنموذج للعقلانية. مشروعه شكّل خطوة منهجية مهمة، لكنه ظل أكاديميًا ولم يتحوّل إلى حركة اجتماعية.
ورغم أهمية هذه المشاريع، فإنها ظلت محصورة في النخبة، واصطدمت بمجتمعات مشبعة بالتراث النقلي والتدين التقليدي، وغياب الحريات السياسية التي تضمن حرية النقاش الفلسفي.
خاتمة: من يحتاج إلى الفلسفة اليوم؟
الفرق الجوهري بين التجربتين يكمن في أن الفلسفة الغربية كانت ــ في لحظة ما ــ سلاحًا تحرريًا في يد الشعوب ضد السلطة الدينية والسياسية. أما الفلسفة الإسلامية، فكانت مشروعًا نخبويًا، ظلّ أسيرًا للتوفيق، ولم يمتلك الجرأة الكافية لتفكيك البنية الدينية الاجتماعية.
لكن الواقع ليس قدرًا. ثمة بوادر نهضة فلسفية جديدة في العالم العربي والإسلامي، تستلهم من التراث وتنتقده، تنفتح على الغرب دون التماهي معه، وتسعى لصياغة "عقلانية محلية" تتجاوز الصدام بين العقل والإيمان. فهل سنشهد يومًا مجتمعًا مسلمًا تحرّره الفلسفة من الخرافة كما حررت الغرب؟ أم أن الحواجز البنيوية أعمق من أن تُزال بالعقل وحده؟
هذا ما تبقى للمستقبل أن يجيب عنه.
مراجع مختارة للاستزادة:
محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي.
محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية.
حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة.
عبد الرحمن بدوي، تاريخ الفلسفة الإسلامية.
فؤاد زكريا، التفكير العلمي.
جورج طرابيشي، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث.