لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في زمنٍ أصبحت فيه الشاشة الصغيرة نافذتنا الكبرى إلى العالم، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي من مجرد أدوات تقنية إلى كاشف دقيق للبنية النفسية والأخلاقية للمجتمع. ما تكشفه هذه الوسائل لا يقتصر على الأخبار أو الصور الشخصية، بل يتعداها ليكشف عن طبيعة العقول، ودرجة التسامح، ومدى احترام الآخر، بل وحتى قدرة الإنسان على الصدق أو التزييف. إنها مرآة لكنها مرآة لا تجامل، تُظهر القبح بقدر ما تعكس الجمال.
أولًا: التشخيص – ثلاثية الانحدار الأخلاقي
1. إنكار الاختلاف:
من أبرز ما كشفت عنه هذه الوسائط هو العجز العميق لدى قطاعات واسعة من الناس عن قبول الآخر المختلف. لا يُرى الخلاف على أنه إثراء، بل تهديد. وكل رأي مغاير يُستقبل غالبًا بصيغة: "أنت ضدي إذًا أنت عدوّي". وهكذا تذبل فضيلة الحوار، ليحلّ محلها الصراع.
2. ثقافة الكذب والتزييف:
لم يكن الكذب يومًا بهذه السهولة ولا بهذا الانتشار. من حسابات مزيفة تُروّج لأفكار أو أحداث لم تقع، إلى أفراد يصنعون صورًا لحيواتٍ لم يعيشوها. الكذب هنا ليس فقط أداة خداع، بل وسيلة وجود: "أنا أكذب إذًا أنا موجود". وقد أسهمت خوارزميات المنصات في تعزيز هذا التوجه، فكلما كان المحتوى أكثر صدمة أو مخالفة للواقع، زادت فرص انتشاره.
3. ذهنية الشتيمة:
في ظل غياب الرقابة الذاتية، وانتفاء المساءلة القانونية أو الاجتماعية، تحوّل السجال إلى حلبة سباب. لا فرق بين فكر وموقف، الكل يُرد عليه بلغة الانفعال والشتيمة. هذا التحوّل من منطق الحجة إلى منطق الإهانة يعكس فقرًا فكريًا، وضعفًا في المهارات التعبيرية، ونقصًا في أدوات النقد البنّاء.
ثانيًا: التحليل – لماذا وصلنا إلى هنا؟
الحرية بدون وعي:
الحرية الرقمية سابقة لوعي استخدامها، فصار التعبير متاحًا قبل أن نتعلّم كيف نُحاور، وكيف نختلف دون أن نتحوّل إلى خصوم.
غياب التربية الرقمية:
لم تواكب البيوت ولا المدارس تطور الوسائل الرقمية بتعليم يزرع القيم في الاستخدام، مثل احترام الرأي، وتحرّي الصدق، وضبط اللسان.
نموذج القدوة المقلوب:
حين يُصبح المؤثرون الذين يصرخون ويكذبون ويتنمّرون هم أصحاب الملايين من المتابعين، تُقلب المنظومة الأخلاقية رأسًا على عقب: ما كان يُعتبر نقصًا، صار يُسوّق كقيمة.
ثالثًا: العلاج – مقترحات للإنقاذ
1. تعليم الأخلاق الرقمية:
ينبغي دمج مفاهيم "المواطنة الرقمية" في مناهج التعليم، ليتعلم الأطفال مبكرًا كيف يتعاملون باحترام ومسؤولية وحذر مع هذه المساحات الرقمية.
2. استعادة النماذج الإيجابية:
المجتمع بحاجة لمن يقدّم خطابًا عاقلاً وجذابًا في آن، يُظهر أن الرقي لا يتناقض مع الجاذبية، وأن الاحترام لا يعني الضعف.
3. منصات مسؤولة:
ينبغي أن تتحمل الشركات الكبرى مسؤولية في الحد من نشر الكذب وخطاب الكراهية، عبر أدوات كشف التزييف، وتصفية المحتوى المؤذي، لا فقط ما لا يوافق سياساتها الربحية.
4. رقابة مجتمعية ناعمة:
لا نعني الرقابة القمعية، بل تلك التي تقوم على تشجيع الخطاب النظيف، ومقاطعة المسيء، ودعم حملات المحتوى الإيجابي بطرق سليمة.
خاتمة:
وسائل التواصل أصبحت واقعا لا فكاك منه، وهي ليست في ذاتها خيّرة أو شريرة، بل هي وعاء يُظهر ما يُسكب فيه. فإن كان ما فيها من "السائد" هو الكذب والشتيمة وإنكار الآخر، فإن السؤال لا يُطرح على التقنية، بل علينا نحن. لا بد من وقفة ضمير جماعية. فإما أن نترك هذه الوسائل تعبث بوعينا الجمعي، أو نعيد تشكيل استخدامها بما يليق بنا كبشر نحترم الكرامة والاختلاف، ونتوق إلى مستقبل أفضل.
إبراهيم الهجري