لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في عصر يزداد فيه الانغلاق والتقوقع، يصبح السفر والاحتكاك بثقافات متنوعة ضرورة لا ترفًا. فالسفر لا يقتصر على رؤية أماكن جديدة أو تذوق أطعمة مختلفة، بل هو تجربة إنسانية عميقة تهزّ جذور "الأنا" وتعيد تشكيل تصوراتنا عن ذواتنا وعن الآخرين.
حين يسافر الإنسان ويعيش بين أناس من ثقافات وأديان وأعراق مغايرة لما اعتاده، تبدأ قناعاته الشخصية بالتزحزح.. ليس لأن تلك القناعات خاطئة بالضرورة، بل لأنها كانت غالبًا محاطة بجدران من الأنا العالية التي زرعتها البيئة المغلقة، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع.
كسر الأنا عبر التجربة الإنسانية
إن أبرز ما يقدمه السفر هو كسر حدة "الأنا" المتضخمة، أو ما يُعرف بالأيجو، والتي تتغذى على فكرة التفوق بسبب العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس أو حتى الطبقة الاجتماعية. ولكن بمجرد أن تبدأ بالعيش وسط "الآخرين"، وتتعرّف عن قرب على عاداتهم وقيمهم وإنجازاتهم وتفاصيلهم اليومية، تكتشف الحقيقة: أنت لست مميزًا لأنك تنتمي إلى مجموعة معينة، بل لأنك إنسان يبذل جهدًا، ويتعلّم، ويحترم الآخرين.
فكل يوم في الغربة، وأنت تتعامل مع أشخاص من خلفيات مختلفة، ترى أمثلة للتفوق والتميّز في كل الأعراق والديانات، وتبدأ القناعة تترسخ في داخلك: أن التميز لا يعرف لونًا ولا لغة ولا قومًا، بل يعرف الاجتهاد والموهبة والتربية والأخلاق.
الطفل المدلل.. صورة مصغرة عن المجتمعات المنغلقة
ولتقريب الصورة، يمكن تشبيه الأنا الجماعية بمجتمع الطفل المدلل.. الطفل الذي لا يختلط بغيره، والذي يظن دائمًا أنه الأذكى والأفضل، لأنه لم يُجبر على المقارنة أو على المشاركة. هذا الطفل عندما يُترك في ساحة عامة، أو روضة تختلط فيها الأعراق واللغات، يبدأ يدرك أنه ليس وحده في هذا العالم، وأن الآخرين يملكون ألعابًا وقدرات قد تفوق قدراته. ومع الوقت، يبدأ يتعلّم كيف يشارك، وكيف يحترم، وكيف يتواضع.
تمامًا كما أن الطفل ينمو حين يختلط بغيره، كذلك المجتمعات والأفراد ينضجون حين تتسع دوائر علاقاتهم وتنوعاتهم الثقافية. فكل علاقة مع المختلفين، سواء دينيًا أو ثقافيًا أو عرقيًا، هي خطوة نحو التواضع والتفهّم والتسامح.
التنوع لا يهدد الهوية بل يثريها
البعض يخشى السفر أو الاختلاط بالثقافات الأخرى ظنًا منه أن ذلك قد يؤدي إلى "ذوبان الهوية". لكن الحقيقة أن الهوية الصلبة، حين تُختبر في سياقات متنوعة، لا تذوب بل تزداد نضجًا ووعيًا. فالشخص الذي يعرف نفسه جيدًا، لا يخشى الاطلاع على تجارب الآخرين، بل يستفيد منها ويعيد تقييم تجربته الخاصة بعين أوسع.
خاتمة: الإنسان لا يُقاس بانتمائه، بل بفعله
في نهاية المطاف، السفر والمعايشة مع الآخر لا تجعل منك أقل شأنًا، بل أكثر إنسانية. كلما تعرفت على "الآخر" اكتشفت إنسانيتك المشتركة معه، وبدأت تدرك أن الانتماء الحقيقي ليس لجماعة مغلقة، بل لقيم العدل والاحترام والرحمة والعمل والفضيلة.
فلنكسر أوهام التفوق الزائف، ولنعترف أن العالم مليء بالمميزين.. لا لشيء إلا لأنهم قرروا أن يكونوا أفضل نسخة من أنفسهم، بصرف النظر عن أعراقهم أو أديانهم.