لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
تثير بيئة الفضاء تساؤلات كثيرة لدى العامة، ولعل من أبرزها: لماذا يبدو أن رواد الفضاء يطفون في المحطة الدولية؟ ولماذا يشعرون بانعدام الوزن، رغم قربهم نسبيًا من الأرض؟ والأهم، كيف يؤثر ذلك على أجسامهم وصحتهم؟ في هذا المقال، نستعرض أسباب هذا الشعور وأهم التأثيرات الفسيولوجية المصاحبة له.
أولًا: لماذا يشعر رواد الفضاء بانعدام الجاذبية؟
من المعروف أن مقدار الجاذبية في المحطة الدولية يبلغ حوالي 90% من الجاذبية على سطح الأرض لكن السبب في شعور رواد الفضاء بانعدام الجاذبية داخل المحطة الدولية للفضاء (ISS) لا يعود إلى غياب الجاذبية الأرضية، بل إلى حالة تُعرف بـ السقوط الحر المستمر. تدور المحطة حول الأرض على ارتفاع يقارب 400 كيلومتر، بسرعة تقارب 28,000 كيلومتر في الساعة. هذه السرعة الكبيرة تجعل المحطة تسقط نحو الأرض باستمرار بفعل الجاذبية، لكنها بنفس الوقت تتحرك أفقياً بسرعة تجعلها تظل تدور حول الأرض بدلًا من الاصطدام بها.
كل ما في المحطة (بما في ذلك رواد الفضاء أنفسهم) يكون في حالة سقوط حر جماعي، ما يؤدي إلى الشعور بانعدام الوزن، لأن الأجسام جميعها تسقط بنفس المعدل ولا تمارس ضغطًا على بعضها البعض كما هو الحال على الأرض، (يمكنك فهمها بالتقريب مثل لو كان هناك جسم داخل مصعد وهو يسقط بدون احتكاك سقوطا حرا فسوف يطفو الجسم داخله وكأنه بدون جاذبية)
ثانيًا: تأثير انعدام الجاذبية على جسم الإنسان
العيش لفترات طويلة في بيئة خالية من الوزن يترك آثارًا عميقة على جسم الإنسان، وهو ما تتابعه وكالات الفضاء عن كثب من خلال برامج مراقبة صحية وتمارين رياضية صارمة.
1. ضمور العضلات:
نتيجة لغياب الحاجة إلى استخدام العضلات لدعم الجسم ضد الجاذبية، تبدأ العضلات في الضمور، لا سيما العضلات الكبرى في الساقين والظهر. ولهذا السبب، يلتزم رواد الفضاء ببرنامج يومي صارم من التمارين، يستخدمون فيه أجهزة مقاومة مخصصة لمحاكاة تأثير الوزن الأرضي.
2. فقدان الكثافة العظمية:
في غياب الضغط المستمر على العظام، تبدأ الكتلة العظمية بالتناقص تدريجيًا، وقد يخسر الرائد ما يصل إلى 1–2% من كثافة عظامه شهريًا. يتم الحد من هذه الخسارة من خلال التمارين وتناول مكملات غذائية كالكالسيوم وفيتامين D.
3. اضطرابات في الدورة الدموية:
في الفضاء، يتوزع الدم والسوائل بالتساوي، مما يؤدي إلى تورم الوجه، وانخفاض حجم الدم الكلي، وضمور تدريجي في عضلة القلب نتيجة انخفاض الجهد المطلوب لضخ الدم.
4. اختلال التوازن والدوخة:
الأذن الداخلية، المسؤولة عن حفظ التوازن، تفقد قدرتها على تفسير الإشارات الحركية بشكل صحيح، ما يؤدي إلى أعراض مثل الدوار والغثيان، خاصة في الأيام الأولى. تُعرف هذه الظاهرة بـ "متلازمة التكيف الفضائي".
5. تغيرات في الرؤية:
يعاني بعض رواد الفضاء من مشاكل بصرية مرتبطة بزيادة الضغط داخل الجمجمة بسبب تجمع السوائل في الرأس، فيما يُعرف بـ "متلازمة ضعف الرؤية وزيادة الضغط داخل الجمجمة" (VIIP).
ثالثًا: كيف يتعامل رواد الفضاء مع بيئة انعدام الوزن؟
العيش في المحطة الفضائية يتطلب تعديلات كبيرة في كل تفاصيل الحياة اليومية:
• النوم:
يُثبت رواد الفضاء أكياس نومهم على الجدران أو الأسطح الداخلية للمحطة كي لا يطفوا أثناء النوم. وغالبًا ما يربطون أنفسهم بأحزمة لتأمين الاستقرار.
• الطعام والشراب:
يتم تحضير الطعام بشكل خاص كي لا يتناثر، ويُستهلك باستخدام عبوات محكمة وأدوات مصممة خصيصًا. وتُشفط السوائل بأنابيب محكمة منعًا لانتشار القطرات في الهواء.
• النظافة الشخصية:
لا توجد حمامات تقليدية. تُستخدم مناديل مبللة وأجهزة شفط للفضلات، وتُصمم أنظمة النظافة لتمنع تطاير الماء أو المواد العضوية.
• أداء المهام:
في غياب الوزن، يصعب تثبيت الجسم، لذلك تُستخدم حبال وأشرطة لتثبيت القدمين أو الجسد أثناء استخدام الحواسيب أو صيانة الأجهزة. وعند الخروج إلى الفضاء الخارجي، يُربط الرواد بأشرطة أمان خاصة لتفادي الانجراف.
خاتمة:
الشعور بانعدام الوزن في المحطة الدولية ليس ناتجًا عن غياب الجاذبية، بل عن التوازن بين السرعة المدارية وقوة الجذب الأرضية. هذه البيئة الفريدة تؤثر بشدة على جسم الإنسان، وتتطلب إجراءات يومية دقيقة للحفاظ على الصحة البدنية والنفسية لرواد الفضاء.
إن فهم هذه الظواهر لا يساعدنا فقط على استكشاف الفضاء، بل يسهم أيضًا في تطوير حلول طبية ورياضية يمكن تطبيقها على الأرض، خاصة في مجالات مثل هشاشة العظام، أمراض القلب، وإعادة التأهيل الحركي.