لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في زمن لم تعد تُخاض فيه الحروب بالسيوف ولا تُحسم بالدبابات، بل تُدار في المختبرات ومراكز البحث ومؤتمرات السياسات، يصبح من البديهي أن نُعيد النظر في ترتيب أولوياتنا كدول ومجتمعات. فالعلم لم يعد ترفًا أكاديميًا أو هواية نخبوية.. بل صار ركيزة أساسية للبقاء ووسيلة استراتيجية لخوض معارك الاقتصاد والسياسة والأمن الثقافي.
حين اجتاحت جائحة كورونا العالم، لم تُنقذ الدول جيوشها ولا تحالفاتها الدبلوماسية.. بل أنقذها العلماء. من رسم خريطة الفيروس إلى تطوير اللقاحات في وقت قياسي، وقف العلم في الصفوف الأولى، مبرهنًا على أنه خط الدفاع الأول في مواجهة الكوارث.
ومن هنا بدأت تظهر مصطلحات مثل "دبلوماسية العلوم" و**"المشورة العلمية"** في السياسات العامة.. تعبيرات تعكس إدراكًا متزايدًا بأن العلم لم يعد حبيس المختبرات، بل أصبح أداة تأثير في القرار السياسي، ومفتاحًا لتقوية العلاقات الدولية أو حتى تعديل ميزان القوى.
العلم في ذاته ليس خيرًا ولا شرًا.. بل أداة. يمكن أن يُستخدم في تطوير العلاج وإنقاذ الأرواح، أو يُوظف لتطوير أسلحة بيولوجية واختراقات رقمية. وهنا تقع المسؤولية على كتفي العلماء وصُنّاع القرار معًا.. فليس كل ما يمكن فعله يجب فعله.
ليست الموارد الطبيعية ولا المواقع الجغرافية هي ما يصنع الأمم المتقدمة.. بل عقول أبنائها. من يملك العلماء يملك المستقبل، ومن يُعلي من شأن البحث والتعليم يخط لنفسه طريقًا مختلفًا.. مهما كانت موارده الأخرى محدودة.
انظر إلى دول صغيرة لا تملك ذهبًا ولا غازًا.. لكنها تمتلك جامعات متقدمة، ومراكز بحوث محترمة، وثقافة تقدّر الابتكار.. فدخلت ميادين الذكاء الاصطناعي، والفضاء، والطاقة النظيفة من أوسع أبوابها، متجاوزة دولًا تفوقها في الإمكانات الطبيعية أضعافًا.
قد يظن البعض أن الفن والثقافة مجالان منفصلان عن العلم.. لكن الواقع يقول غير ذلك. فالذكاء الاصطناعي يُستخدم اليوم في تأليف الموسيقى، وتحليل الأذواق الفنية، بل وحتى في كتابة السيناريوهات. كما أن إدارة المتاحف، وتصميم البرامج الثقافية، والتخطيط لمهرجانات الفنون باتت تقوم على تحليل البيانات والنماذج العلمية.
بكلمات أخرى: حتى الجمال يمكن أن يُدار بعقلانية، دون أن يفقد سحره.
لم يعد الصراع العالمي يُقاس بعدد الجنود ولا بنوع الأسلحة.. بل بعدد براءات الاختراع، وجودة التعليم، وسرعة الابتكار. إنها حرب عقول بكل ما تعنيه الكلمة. من يُدرّب عقوله، يُهيمن.. ومن يُهملها، يُقصى.
المفارقة المؤلمة أن بعض الدول لا تزال تنظر إلى العلماء بوصفهم موظفين، لا صُنّاع مستقبل. تُهمّشهم، وتُقيّد حركتهم، وتُضعف مؤسساتهم.. ثم تتساءل: لماذا لا نتقدّم؟
بينما دول أخرى بنت نهضتها على العلم، وقدّست البحث، وأنفقت بسخاء على التعليم.. فحصدت الهيمنة في التكنولوجيا والاقتصاد، وأصبحت مرجعية عالمية في أكثر من مجال.
العلم ضرورة وجودية لا رفاهية.. والعلماء ثروة وطنية لا يُقدّرها إلا من يعرف قيمتها. من يُدرك هذه الحقيقة، ينجو ويتقدّم.. ومن يتجاهلها، يبقى في ذيل الركب، مهما كان يملك من النفط أو الموقع أو التاريخ.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح بصوت عالٍ هو: هل سندخل معركة العقول حقًا.. أم سنظل خارجها نتفرج؟