لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
تتردد في الخطاب العام العربي تهمة جاهزة تُوجَّه لمن يثني على التقدّم العلمي والمؤسسي في الدول الغربية: «هذا منبهر بالغرب».
ورغم بساطة العبارة، إلا أنها تكشف عن سياق أعمق يرتبط بطريقة تعامل المجتمعات مع التغيير، ومع مفهوم التفوق الحضاري، ومع القدرة على الاعتراف بالاختلالات الذاتية دون حساسية مفرطة.
سوف نحاول على عجالة قراءة الظاهرة من زاويتين: زاوية تحليل اجتماعي-ثقافي، وزاوية فهم عقلاني لأسباب سوء الفهم.
أولًا: التمييز بين الإعجاب الموضوعي والانبهار غير النقدي
الخلط بين الإعجاب الحضاري والانبهار العاطفي يمثّل أحد أهم إشكالات النقاش العام.
فالمديح الموضوعي لمؤسسات علمية فعّالة، أو أنظمة قانونية قوية، أو منظومات بحثية متقدمة، لا يعني بالضرورة تبنّيًا كاملاً للنموذج الغربي ولا ذوبانًا في قيمه وثقافته.
الانبهار الحقيقي هو استسلامٌ غير نقدي.
أمّا الإعجاب التحليلي فهو قراءة عقلية لتجارب ناجحة، هدفها الاستفادة وليس التقليد.
وبالتالي، يصبح من الضروري علميًا ومهنيًا فصل الموقف النقدي عن الأحكام الانفعالية.
ثانيًا: الإشادة بالمنجز العلمي لا تُلزم بتبنّي كل القيم
تشير الدراسات في علم الاجتماع الثقافي إلى أن الحضارات الحديثة غالبًا ما تتقدم بفضل مؤسسات قوية لا بسبب التفوق القيمي المطلق.
التحليل الموضوعي لمسار النهضة الأوروبية – منذ القرن التاسع عشر – يُظهر أن التقدم كان نتيجة الجامعة الحديثة، البحث العلمي المنهجي، البيروقراطية المحايدة، وثقافة احترام الوقت والمؤسسات.
هذه عناصر قابلة للقياس والتقييم، ولا ترتبط بالضرورة بمسائل اختلافية مثل أنماط الحياة الشخصية أو الممارسات الاجتماعية التي قد لا تلقى قبولًا في مجتمعات أخرى.
وبذلك يصبح الفصل بين “ما هو مؤسسي” وما هو “ثقافي-أخلاقي” ضرورة، لا مجرد خيار منهجي.
ثالثًا: الاتهام بالانبهار.. آلية دفاعية تتجنب الأسئلة الصعبة
يستخدم بعض الأفراد اتهام «الانبهار بالغرب» كأداة لإغلاق النقاش بدل فتحه.
فعندما تُطرح مسألة التقدم العلمي أو جودة المؤسسات أو فعالية الأنظمة القانونية، يختار البعض التعلق بالهوية كوسيلة لإسكات المقارنة، بدل الانخراط في نقاش بحثي حول أسباب التباين.
هذه الآلية – بحسب علم النفس الاجتماعي – تمثل استجابة دفاعية تهدف إلى حماية صورة الجماعة، لا إلى تحليل الواقع.
والنتيجة:
يتراجع النقاش العقلاني لصالح خطاب عاطفي يمنع قراءة التجارب الناجحة بطريقة منهجية.
رابعًا: القيم التي تستحق الثناء ليست “غربية”، بل إنسانية
عناصر مثل:
كفاءة المؤسسات
الشفافية
احترام القانون
الجدية في العمل
دعم البحث العلمي
حماية الحقوق
تكافؤ الفرص
ليست ملكًا لأي حضارة بعينها.
إنها قيم كونية شهدت عليها حضارات مختلفة عبر التاريخ في لحظات ازدهارها العلمي.
وعليه، فإن الثناء على تلك القيم في التجربة الغربية المعاصرة ليس احتفاءً بالغرب، بل اعترافًا بنجاح قابل للتكرار في أي بيئة تتوفر فيها الشروط والإرادة.
خامسًا: النقد ليس خيانة للهوية، بل حماية لها
الاعتراف بتقدم الآخرين لا يعني انتقاصًا من الذات.
بل على العكس تمامًا:
يشير علم الأنثروبولوجيا المقارن إلى أن المجتمعات التي لا تخشى المقارنة هي الأكثر قدرة على التكيّف والتعلّم.
وفي المقابل، فإن الحساسية المفرطة تجاه التجارب الأجنبية غالبًا ما ترتبط بمجتمعات لم تحسم علاقتها مع سؤال النهوض، أو لم تحدد بعد موقعها في العالم المعاصر.
ومن ثم يصبح الاتهام بـ«الانبهار» حاجزًا نفسيًا يمنع المجتمع من تبنّي الإصلاحات الضرورية.
سادسًا: الموقف المتوازن هو أساس القراءة الأكاديمية
تتطلب المقاربة الأكاديمية لأي ظاهرة أن تُبنى على رؤية مركبة:
تقدير المنجز المؤسسي والعلمي والتقني في الدول المتقدمة
نقد الممارسات الأخلاقية أو الاجتماعية التي تتعارض مع منظومات قيمية أخرى وتقديم الأفضل كواقع.
تحليل الفجوة التنموية بين المجتمعات دون أحكام مسبقة
والبحث عن نموذج بديل يجمع بين الأصالة والكفاءة
هذه المقاربة لا تنتمي إلى خانة الانبهار ولا إلى موقع الرفض الأعمى، بل إلى منطق التقييم الموضوعي.
وختاما، اتهام “الانبهار بالغرب” أصبح جزءًا من خطاب يحاول تفسير الفجوة الحضارية بتبريرات ثقافية، لا بتحليل واقعي للأسباب البنيوية.
لكن القراءة الأكاديمية تكشف أن الإعجاب بالمنجز العلمي ليس تبعية، وأن نقد بعض الممارسات الغربية ليس قطيعة.
الحضارات تُقاس بمؤسساتها لا بشعاراتها، وبقدرتها على إنتاج المعرفة لا برفض الآخر.
والمجتمعات التي تنظر إلى التجارب الإنسانية بعيون مفتوحة هي وحدها القادرة على بناء نموذجها الخاص والقادرة على النهوض.
24.11.2025