لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في عصرٍ يفيض بالمعلومات، أصبح الجهل ليس غيابًا للمعرفة فحسب، بل قد يكون منتجًا مقصودًا، يُصنع ويُروّج له لأغراض سياسية، اقتصادية، أو ثقافية. هذا هو جوهر علم الجهل أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ Agnotology، وهو حقل معرفي جديد يبحث في كيفية صناعة الجهل وتوظيفه كأداة سلطة وتحكُّم.
ما هو علم الجهل؟
صاغ المصطلح لأول مرة المؤرخ الأمريكي روبرت بروكتور (Robert Proctor)، أستاذ تاريخ العلوم في جامعة ستانفورد، في تسعينيات القرن العشرين. وقد ركّز بروكتور على كيف أن صناعات مثل التبغ كانت تُموّل أبحاثًا زائفة لتشويش الحقائق حول ضرر التدخين، مُنتجة بذلك نوعًا من "الجهل المتعمّد".
فعلم الجهل هو دراسة الطرق التي يُنتَج بها الجهل أو يُزرع في وعي الناس، سواء من خلال إخفاء المعلومات، تشويشها، أو ضخ كمٍّ هائل من المعلومات المُضلّلة التي تربك المُتلقي وتمنعه من التمييز بين الحقيقة والزيف.
جذور المفهوم:
رغم أن المصطلح حديث نسبيًا، إلا أن الفكرة ليست جديدة. فقد أشار الفيلسوف فرانسيس بيكون في القرن السابع عشر إلى أن "الجهل قد يكون مقصودًا" حين قال إن الإنسان يتجنّب الحقائق التي تزعجه، وتُفضل بعض السلطات ترك الناس في ظلام فكري.
وفي القرن العشرين، ناقش المفكر نعوم تشومسكي آليات "تصنيع القبول" في الإعلام، وهي آليات تقترب كثيرًا من مفاهيم علم الجهل.
كيف يُنتج الجهل؟ ما هي الأدوات والأساليب؟
1. الإغراق بالمعلومات (Information Overload):
تقوم بعض الجهات بطرح كمٍّ هائل من المعلومات المتضاربة والمربكة، مما يجعل الناس غير قادرين على التمييز بين الحقيقي والمزيف.
2. إخفاء أو تأخير المعلومات:
تلجأ حكومات أو شركات إلى حجب التقارير أو تأخير إصدار البيانات العلمية التي قد تُدينها.
3. تمويل أبحاث زائفة أو منحازة:
كما فعلت شركات التبغ أو بعض لوبيات النفط في دعم أبحاث تقلل من خطورة منتجاتها أو أثرها في تغيّر المناخ.
4. التحكم في وسائل الإعلام والتعليم:
تُعدّ السيطرة على المناهج الدراسية ووسائل الإعلام من أبرز الأدوات لإنتاج جهل منظم يمتد لأجيال.
أمثلة واقعية من العالم
• صناعة التبغ في الولايات المتحدة:
يُعد هذا المثال من أوائل وأشهر حالات "إنتاج الجهل". فخلال عقود من الزمن، قامت بعض شركات التبغ الكبرى بتمويل أبحاث علمية مشكوك في نزاهتها، تهدف إلى التشكيك في العلاقة بين التدخين وأمراض السرطان. وقد استُخدمت هذه الأبحاث كذريعة لتأخير فرض قوانين تنظيمية، رغم تراكم الأدلة العلمية.
• التغير المناخي وإنكار العلم:
قامت بعض شركات النفط الكبرى بدعم حملات إعلامية وعلمية للتشكيك في خطورة التغير المناخي. في إحدى الدراسات التي نشرتها مجلة Science (2017)، ثبت أن الشركة كانت على علم منذ السبعينيات بآثار انبعاثات الكربون، لكنها اختارت تمويل إنكار علمي لتأخير السياسات البيئية.
• حرب العراق وأسلحة الدمار الشامل:
في عام 2003، رُوّجت معلومات استخباراتية مضللة تفيد بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل. هذه "المعلومة المصنّعة" – التي ثبت لاحقًا أنها غير صحيحة – كانت أساسًا للتدخل العسكري الأمريكي البريطاني، واعتُبرت مثالًا على توظيف الجهل الجماهيري لتبرير قرارات سياسية مصيرية.
• إنكار لقاحات التوحد:
في بريطانيا، تسبّب مقال نُشر عام 1998 في مجلة The Lancet – وادعى وجود صلة بين لقاح الحصبة والتوحد – في موجة خوف جماهيري. رغم أن المقال سُحب لاحقًا وثبت تزييف بياناته، إلا أن تأثيره ما زال قائمًا، ويُعد مثالًا على مدى استدامة الجهل المصنوع في الوعي العام.
أمثلة واقعية من العالم العربي
• التضليل في القضايا الصحية:
خلال جائحة كوفيد-19، انتشرت في بعض الدول العربية حملات مشبوهة ضد اللقاحات، بدعم ضمني من أطراف إعلامية وغيرها. وكان الهدف في بعض الأحيان ليس الجهل بحد ذاته، بل تحويل انتباه الناس عن فشل السياسات الصحية.
• تسويق الجهل في السياسة:
في بعض البلدان، يُغذّى الجهل السياسي عمداً عبر تغييب النقاشات الفكرية وتكريس الخطاب الشعبوي، بحيث يُصبح الرأي العام أسيراً للعواطف وليس الحقائق.
• التعليم كأداة للجهل المنظّم:
أحيانا، يتم إفراغ المناهج من أي محتوى نقدي أو تفكيري، بحيث ينشأ جيل غير قادر على التساؤل، وهو أحد الأهداف غير المعلنة لسياسات تعليمية سطحية.
لماذا ينتشر الجهل في عصر المعرفة؟
كلما ازداد تدفّق المعلومات، زادت الحاجة إلى منظومات فرز معرفية. من دون هذه المنظومات (مثل التعليم النقدي، الإعلام الحر، ومراكز الأبحاث المستقلة)، تصبح المعلومات مجرد ضجيج لا يقود إلى وعي، بل يُنتج جهلاً مركبًا أكثر خطورة من الجهل البسيط.
خطورته على المجتمع:
الجهل المصنوع لا يؤثر فقط في فكر الناس أو استهلاكهم، بل يضرب عمق القيم الإنسانية . فهو يُضعف المساءلة، ويُفرغ الخطاب العام من مضمونه، ويجعل الحقيقة مسألة "رأي شخصي" بدلًا من كونها نتاج تحقيق موضوعي.
كيف نتصدى له؟
تعليم التفكير النقدي منذ المراحل الأولى.
دعم الإعلام المستقل ومكافحة التضليل الرقمي.
الشفافية الحكومية وإتاحة البيانات للجمهور.
نشر ثقافة "التحقق من المعلومة" بدلاً من التسليم العاطفي بها.
وختاما، في زمن يُقال فيه إن "المعرفة قوة"، فإن الجهل المصنوع هو أيضًا شكل من أشكال القوة. لكن الفرق هو أن المعرفة تُحرّر، بينما الجهل يُقيّد. إن فهم علم الجهل هو خطوة أولى لفك قيود وعينا، وإعادة امتلاك حقّنا كبشر في الفهم والاختيار.