لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في أواخر القرن التاسع عشر، بدت الفيزياء وكأنها اكتملت تقريبًا. قوانين نيوتن فسّرت الحركة والميكانيكا، وكهرباء ماكسويل ومغناطيسيته شرحت الضوء والإشعاع، والديناميكا الحرارية حددت اتجاه العمليات الطبيعية. كثير من العلماء آنذاك، مثل اللورد كلفن، صرّحوا بأن الفيزياء لم يبقَ فيها سوى "بعض الغيوم الصغيرة" تحتاج إلى حل.. لكن هذه "الغيوم" الصغيرة تحولت سريعًا إلى عواصف قلبت العلم رأسًا على عقب.
بداية القرن العشرين حملت ثورتين كاسحتين:
النسبية الخاصة والعامة (1905–1915) التي غيّرت جذريًا فهمنا للمكان والزمان والجاذبية.
ميكانيكا الكم (1900–1930) التي هزّت يقين الفيزياء الكلاسيكية، وكشفت عن عالم احتمالي يحكم الذرات والجسيمات.
خلال منتصف القرن العشرين وحتى الستينات، تكوّن النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات، وأُثبت وجود الجسيمات الأولية (إلكترونات، بوزونات، كواركات..). كما تم التوسع في الاستخدامات العملية: الطاقة النووية، الليزر، الإلكترونيات، والكشف عن البنية الدقيقة للمادة. هذه الفترة كانت العصر الذهبي للاكتشافات التي بنت التكنولوجيا الحديثة.
رغم اكتمال النموذج المعياري، بقيت ألغاز أساسية:
الجاذبية الكمومية: كيف ندمج النسبية العامة (المكان والزمان على نطاق واسع) مع ميكانيكا الكم (الجسيمات الصغيرة جدًا)؟
المادة المظلمة: كتلة الكون لا تفسَّر بالنجوم والمجرات المرئية.
الطاقة المظلمة: تمدد الكون يتسارع، ولا تفسير قاطع حتى الآن.
الثوابت الكونية: لماذا قيمتها كما هي؟ ولماذا يبدو الكون مضبوطًا بدقة تسمح بالحياة؟
هذه الأسئلة بقيت دون جواب، وصارت هي “غيوم” القرن الحادي والعشرين.
ما هي المبشرات حاليا؟
التجارب فائقة الحساسية: أجهزة قياس قادرة على اختبار الجاذبية عند المقاييس الصغيرة، والتقاط موجات الجاذبية، وتحليل أدق بيانات كونية.
التقنيات الحديثة: الذكاء الاصطناعي يساعد على تحليل بيانات ضخمة من مصادمات الجسيمات والتلسكوبات، وربما يكشف إشارات جديدة.
نظريات بديلة: مثل الجاذبية الكمية الحلقية (Loop Quantum Gravity)، أو سيناريوهات الـ Asymptotic Safety، أو نماذج الفضاء-الزمن المنبثق من المعلومات.
الكوسمولوجيا الدقيقة: الأقمار الصناعية والتلسكوبات تكشف تفاصيل مذهلة عن الخلفية الكونية والإشعاع البدائي للكون.
المجالات التي تحتاج إلى اكتشافات ثورية
التوحيد بين الجاذبية والكم: المفتاح لفهم أصول الكون والثقوب السوداء.
فهم الزمن: هل هو مجرد بُعد فيزيائي، أم خاصية منبثقة من العمليات الميكروية؟
سر المادة والطاقة المظلمتين: ربما جسيمات جديدة، وربما قوانين فيزيائية غير مكتشفة.
الفراغ الكوني: طاقة الفراغ تُقدَّر نظريًا بأضعاف لا تُحصى من قيمتها المشاهَدة، وهو لغز يُعرف بـ"كارثة الفراغ".
توقعي الاستشرافي
اليوم تبدو الفيزياء كما كانت عام 1899: مكتملة تقريبًا، لكن مع غيوم كثيفة في الأفق. التاريخ يُعلّمنا أن هذه "الغيوم" هي بذور ثورات علمية جديدة. هناك احتمال قوي أن العقدين القادمين سيشهدا كشفًا جوهريًا يعيد صياغة القوانين الأساسية، خصوصًا في:
اكتشاف جسيمات مرتبطة بالمادة أو الطاقة المظلمة.
أو صياغة ناجحة لنظرية الجاذبية الكمومية.
أو ثورة مفاهيمية في فهم الزمن والمكان ككيانات ناشئة وليست أساسية.
بعبارة أخرى، نحن نعيش ما قبل العاصفة.. والعلماء يتوقعون أن القادم سيكون لحظة تاريخية كتلك التي عاشها العالم مع ميلاد النسبية والكم قبل قرن.
العقول الكبيرة هذه مجالاتها وانشغالاتها ، فلتبحر في تلك الأمواج والظلمات لتهدي للبشرية جمعاء نورا تهتدي به في طريقها الدائم نحو المعرفة