لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
ابراهيم الهجري
يُعد مفهوم "الآن" من أكثر المفاهيم بداهة في حياتنا اليومية، ومع ذلك، فهو من أعقد الإشكالات عند تحليله علميًا وفلسفيًا.
فيما يبدو للوهلة الأولى أن "الآن" لحظة واقعية نعيشها ونشترك فيها ككائنات بشرية، إلا أن الفيزياء الحديثة والفلسفة المعاصرة تقدّمان قراءة مختلفة تمامًا، تقوض فكرة "الآن" كحقيقة موضوعية.
هذا المقال يستعرض التفسيرات الفيزيائية والفلسفية لمفهوم "الآن"، ويحلل حدوده ودلالاته عبر النظريات الكونية المعاصرة ونماذج الزمن في الفكر البشري.
1. "الآن" في الميكانيكا الكلاسيكية: الزمن المطلق
في إطار الميكانيكا النيوتنية، كان الزمن يُفهم بوصفه كيانًا مطلقًا يجري بثبات في كل أنحاء الكون، مستقلًا عن أي مراقب. كان من الطبيعي آنذاك افتراض وجود "الآن" كحقيقة كونية واحدة يشترك فيها الجميع.
غير أن هذا التصور بدأ بالتفكك مع بداية القرن العشرين.
2. النسبية الخاصة ونهاية "الآن" المطلق
مع نشر أينشتاين نظريته في النسبية الخاصة عام 1905، تبيّن أن الزمن ليس مطلقًا، بل نسبي يعتمد على الإطار المرجعي للمراقب وسرعته. أحد أبرز نتائج النظرية هو مبدأ نسبية التزامن، والذي يبين أن حدثين متزامنين في إطار مرجعي معين قد لا يكونان كذلك في إطار آخر.
وبالتالي، فإن "الآن" ليس لحظة واحدة يتفق عليها جميع المراقبين، بل لحظة تختلف باختلاف الموضع والحركة.
3. النسبية العامة والزمكان: الكون الكتلي
مع تطور النظرية إلى النسبية العامة، أصبح الزمان والمكان يشكلان نسيجًا واحدًا يُعرف باسم الزمكان. في هذا النموذج، يتخذ الكون شكلًا رباعي الأبعاد، حيث يُنظر إلى الزمن كامتداد مشابه للمكان.
ومن هذا المنطلق، ظهرت فرضية "الكون الكتلي" (Block Universe)، والتي تعتبر أن الماضي والحاضر والمستقبل موجودة جميعًا، وأن "الآن" ما هو إلا مقطع ثلاثي الأبعاد نتحرك عبره إدراكيًا وليس فيزيائيًا.
4. ميكانيكا الكم والزمن غير المحدد
تقدم ميكانيكا الكم تصورًا أكثر تعقيدًا للزمن، حيث لا يكون الزمن دائمًا متصلاً، بل يظهر في سياقات غير حتمية واحتمالية. ورغم ذلك، لا توجد في معادلاتها الفيزيائية لحظة متميزة تُدعى "الآن"، بل يُعامل الزمن كمعلمة متغيرة، بدون تمييز لمكانة خاصة للحظة الراهنة.
5. الأطروحات الفلسفية حول "الآن"
في الفلسفة، تتباين وجهات النظر حول طبيعة "الآن" والزمن عمومًا. ويمكن تصنيفها ضمن ثلاث أطروحات كبرى:
الحاضرية (Presentism): فقط الحاضر موجود، بينما الماضي فُني والمستقبل لم يُوجد بعد.
الأبدية (Eternalism): الماضي والحاضر والمستقبل جميعها موجودة؛ وهي أطروحة تتناغم مع نموذج "الكون الكتلي".
نظرية الكتلة النامية (Growing Block): الماضي والحاضر موجودان، لكن المستقبل لم يتكوَّن بعد.
هذه الأطروحات تعكس التباين بين التجربة الواعية البشرية للزمن، والواقع الفيزيائي كما تصفه المعادلات والنماذج الرياضية.
6. علم الأعصاب و"الآن" كوظيفة إدراكية
تشير دراسات علم الأعصاب إلى أن الإحساس بـ"الآن" لا يعكس لحظة موضوعية فيزيائية، بل هو ناتج عن معالجة عصبية داخل الدماغ، يتم فيها دمج المدخلات الحسية في نافذة زمنية تمتد لبضع ثوانٍ.
بعبارة أخرى، "الآن" ليس لحظة دقيقة، بل تركيب إدراكي يسمح لنا بفهم وتسلسل الأحداث، دون أن يكون له وجود فيزيائي مستقل.
7. "الآن" بالنسبة لمراقب على الأرض
رغم أن مفهوم "الآن" يُستخدم عمليًا في السياقات اليومية، إلا أن الدقة العلمية تتطلب التنبه إلى نسبيته. فمثلاً، ما يُعد "الآن" في الأرض بالنسبة لموقع في مجرة بعيدة يبعد آلاف السنين الضوئية، قد يختلف بشكل كبير تبعًا لاختلاف الأطر المرجعية.
خاتمة: هل "الآن" مجرد وهم؟
من وجهة نظر الفيزياء الحديثة، لا يوجد شيء يُسمى "الآن" كوني، ولا نجد له أي ظهور خاص في معادلات النسبية أو الكم.
أما الفلسفة، فبينما تعترف بوجود "الآن" كتجربة واعية، فإنها لا تجزم بوجوده كحقيقة موضوعية.
وبالتالي، يمكن القول إن "الآن" هو مفهوم نسبي وإدراكي أكثر مما هو فيزيائي:
"الآن" هو لحظة نعيشها، لكنها لا تُكتب في قوانين الكون.
أسئلة مفتوحة للتأمل والتفكير:
هل يمكن صياغة نموذج فيزيائي يعيد تعريف "الآن" بشكل موضوعي؟
كيف تؤثر نظرتنا للزمن على مفاهيم مثل الحرية والإرادة والوعي؟
هل يمكن أن تحمل نظريات المستقبل (مثل نظرية الأوتار أو الجاذبية الكمومية) توصيفًا جديدًا للزمن يضع "الآن" في موقع مختلف؟