لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
كنت واقفًا في الساحة المظلمة التي أضاءها ضوء فضي غريب، حين انشقت السماء عن مركبة هائلة الحجم تشبه كوكبة نجمية. هبطت المركبة ببطء، ومع كل هبة ريح كانت الأرض من حولي تهتز وكأنها تتهيأ لاستقبال قدر عظيم. انفتح باب المركبة، وخرج كائن طويل القامة، مغطى بهالة زرقاء شفافة، عيناه تتلألأان كبلورتين.
ابتسم لي وقال بصوت بدا وكأنه صدى بين الكواكب:
الكائن الفضائي: «سلام عليك يا ابن الأرض.. جئنا نحمل رسالة من حضارة تعلمت بالطريقة الصعبة.»
استجمعت شجاعتي وسألته:
أنا: «ما الذي جعلكم تتقدمون بهذا الشكل المذهل بينما ما زلنا نحن نغرق في الفقر والجهل والصراعات؟»
تنهد الكائن وكأنه يستعيد ذكريات مريرة:
الكائن الفضائي: «في زمن بعيد، كنا مثلكم تمامًا.. نضع الأكثر ولاءً للحاكم في المناصب المهمة، ونقصي الكفاءات، ونسند الأمن للأكثر بطشًا، والسياسة للأكثر مراوغة، والدين للأكثر تزويرًا. قدسنا الحكام الظلمة وعبدناهم، فكان جزاؤنا الفقر، التشرذم، الأمراض والحروب التي لا تنتهي. حتى اقتنعنا نحن حكومةً وشعبًا – والأهم مجتمعنا بكافة أطيافه– أن هذا الطريق لن يورثنا إلا الخراب.»
أنا (مندهشًا): «وكيف استطعتم تغيير كل شيء؟»
الكائن الفضائي: «بدأنا بحوارات ومؤتمرات صادقة جريئة.. بحثنا في جذور تخلفنا دون تجميل أو مواربة. ثم خرجنا بقناعة راسخة: المسؤولية يجب أن تُسند للكفاءات فقط. جعلنا الثروة العامة مقدسة، فمن ينهب المال العام يحاكم ويصادر كل ما جمعه، ويُصبح عارًا يلاحقه. في السياسة وضعنا الملفات بين أيدي خبراء متمكنين، لا يبحثون عن مجد شخصي بل عن شراكات متوازنة مع العالم، بحيث يروننا شركاء حقيقيين لا خصومًا.. فصارت العلاقات الدولية قائمة على الندية والاحترام.»
أنا (متحمسًا): «وماذا عن الاقتصاد؟»
الكائن الفضائي: «في الاقتصاد عهدنا به لمن تعلموا في أرقى الجامعات، ولديهم خبرة في الأسواق العالمية، فأداروا مواردنا بحكمة ونزاهة. تحسنت أحوال الناس بسرعة مذهلة.. امتلأت حساباتهم البنكية، فعاشوا برضا، قلت القلاقل، زاد التنافس في الإبداع والعمل. صار المواطن يرى الدولة كشركة نجاحها يعني رخاءه.»
أنا (بذهول): «والتعليم؟»
الكائن الفضائي: «سلّمنا التعليم لأفضل علمائنا، استثمرنا ثروات ضخمة لبناء جامعات ومراكز أبحاث ومدارس بمواصفات عالمية، ربطنا التعليم بالصناعة والاقتصاد في علاقة تكاملية، فكانت النتيجة أن منتجاتنا أصبحت في كل بيت على الأرض: أجهزتنا المنزلية، سياراتنا، طائراتنا.. صار العالم كله يعرف اسم بلادنا ويخشاه ويحترمه.»
أنا: «كيف تعاملتم مع علاقتكم بالدول الأخرى؟»
الكائن الفضائي (بابتسامة واثقة): «جعلناها قائمة على مصالح متبادلة.. لا خضوع ولا عداء، بل توازن يخشى كل طرف فيه زوال المنافع المشتركة. صار العالم يرى فينا قوة مستقلة لا تُبتز ولا تبتز. عندما نعم الناس بالرخاء، قلت رغبتهم في التخريب، وزادت إنتاجيتهم، وتفانى الجميع في العمل لأن نجاح الدولة صار يعني رفاهيتهم.»
أنا (بتنهيدة): «كم أتمنى أن نصل لهذا الوعي قبل فوات الأوان..»
الكائن الفضائي (وقد وضع يده الشفافة على كتفي): «البداية قرار.. والخطوة الأولى هي أن تصدقوا أنفسكم في البحث عن الحقيقة.»
وهكذا صحوت من حلمي قبل الفجر، ما زالت كلماته تتردد في أذني كجرس من المستقبل: «ابدأوا بمراجعة أنفسكم.. فالإصلاح لا ينزل من السماء.»