لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
لم تكن الكتابة يومًا اختراعًا عابرًا.. كانت محاولة الإنسان الأولى كي يخلّد صوته ورأيه ونظرته، ويضع ذاكرته في مكان لا تبلّه الأمطار ولا تبتلعه الرمال ولا تذروه الرياح. قبل آلاف السنين، حين لم يكن هناك ورق ولا جلد ولا حجر مصقول، كان الإنسان يترك على جدران الكهوف خربشات تشبه البوح. أصابع ملوّنة بالفحم والطين وأحيانا بالدم، ترسم حيوانًا فارًا أو صيادًا يلوّح برمحه؛ وكان ذلك أول كتاب يفتحه البشر دون أن يدروا أنهم بدأوا مغامرة ستعيد تشكيل مصيرهم.
أولى خطوات الوعي
مع تطور البشر، أصبحت الجدران لا تكفي. بدأوا ينحتون العلامات على الحجارة، ثم على العظام، وعلى ألواح الطين التي اشتهرت بها حضارات وادي الرافدين. كانت الكلمة تُضغط على الطين الرخو بقلم قصير، ثم تُترك لتجف تحت الشمس. وهكذا صار للذاكرة مادة، وللمعرفة شكل، وللحكاية مكان تعود إليه كلما هبّت العصور، لكنها كانت للأحداث المهمة عادة.
ورغم بدائية تلك الوسائل، فإنها حفظت أول قوانين الأرض، وأول اتفاقيات التجارة، وأول الأغاني التي همس بها القلب البشري. لكن تلك المواد كانت ثقيلة، مكلفة، تحتاج إلى مهارة ووقت، ولذلك بقيت الكتابة امتيازًا محصورًا في الكهنة والملوك والطبقات المستأثرة بالسلطة والمعرفة.
الجلود وسعف النخل
في مصر القديمة، حدثت الخطوة المفصلية: ابتكار البردي، وهو أول "ورق" بالمعنى الموسّع. صار بالإمكان ثني النص، حمله، تخزينه، بل ونسخه. أما في الجزيرة العربية ومناطق واسعة من العالم القديم، فكان الناس يكتبون على الجلود، وسعف النخل، والعظام المسطّحة.. كل ما يمكنه أن يمسك الكلمة دون أن يذبل بسرعة.
ومع ذلك بقي الكتاب نادرًا.. فنسخة واحدة كانت تستنزف شهورًا من عمل النساخ، وكل خطأ كان يعني تمزيق صفحة وإعادة كتابتها. ولذلك، كانت المعرفة محصورة في عائلات ملكية أو دينية ثرية، في مدارس مغلقة، وبيوت تعلّم لا يدخلها إلا أبناء القلّة.
كانت العبقرية ـ في الغالب ـ تذبل في العقول لأن حاملها لا يجد كتابًا يفتح له باب العلم، ولا يجد من ينسخ له حلمه.
الورق.. الخطوة التي غيّرت التاريخ بصمت
حين ظهر الورق في الصين، ثم انتقل إلى العالم الإسلامي عبر سمرقند وبغداد، ولادة جديدة حدثت للكتاب. أصبح أرخص، أسرع إنتاجًا، سهل الحمل، متعدد الأحجام. ورغم ذلك، بقيت النسخة الواحدة تحتاج إلى جهد ناسخ يجلس تحت ضوء خافت، يخطّ الكلمات كمن ينسج ثوبًا من الحرير.
لكن شيئًا كان يتغيّر.. المكتبات بدأت تتكاثر، وحلقات العلم اتسعت، والعقول التي كانت تنتظر فرصة للمعرفة بدأت تجد الطريق. صورة مرفقة لكتب مربوطة بسلاسل في مكتبة في ألمانيا حين كان الكتاب ثمينا يخشى عليه السرقة
المطبعة.. المعجزة التي حرّرت الذهن البشري
ثم جاءت اللحظة التي قسمت تاريخ المعرفة إلى قبل وبعد: المطبعة الألمانية.
كل ما كان نادرًا صار متاحًا، وكل ما كان حكرًا صار حقًا مشاعًا، وكل ما كان يُنسخ في أشهر صار يُنتج في ساعات.
انفتحت أوروبا على نهضتها لأن الكتاب خرج من قصور النخبة إلى أيدي الناس.
لقد تغيّر مصير البشرية لأن الكلمات لم تعد محبوسة في غرفة ناسخ، بل صارت تتدفق في الأسواق والمدارس والمنازل.
انتشار الكتاب لم يكن مجرد زيادة في عدد الأوراق المطبوعة.. كان تحريرًا للعقل.
عشرات الآلاف من العقول التي كانت ستعيش وتموت دون أن ترى كتابًا واحدًا، صارت تتعلم، تقرأ، تناقش، تبدع.
وبذلك وُلدت المخترعات الكبرى، والثورات العلمية، والاكتشافات التي نقلت الإنسان من العالم القديم إلى أعتاب الحداثة.
من وفرة الكتب إلى انفجار المعرفة
اليوم، لم يعد الكتاب ورقًا فقط؛ صار شاشة مضيئة، وصوتًا مسموعًا، وملفًا يخزّنه المرء في جيبه في جهاز بحجم رأس الأصبع يحوي ملايين الكتب.
ومع هذا الفيض الهائل، لم تعد المشكلة ندرة المعرفة، بل القدرة على تمييز المفيد منها من الضجيج.
لقد تشعّب العلم، وتكاثرت فروعه، وصار الكتاب في كل مكان، ينتظر قارئًا يعرف كيف يضعه في المكان الصحيح.
ولعل أعظم ما تبقى من رحلة الكتاب هو أنه منح العبقرية فرصة الظهور.
لم يعد الذكاء حبيس عائلة أو طبقة، ولا صار العلم ميراثًا اجتماعيًا.
اليوم، كل عقل يستطيع أن يقرأ هو عقل قادر أن يضيف شيئًا للبشرية.. بشرط أن يجد كتابًا صادقًا، ويمنحه الوقت، ويضعه في قلب التجربة.
وياله من عار وكسل أن تبقى جاهلا في هذا الزمان ، وجهل هذا الزمان لا يعني الأمية بل عدم معرفة كيف تميز ما تقرأه وكيف تفكر حتى لا يسهل خداعك ويتم التضحية بك بمعسول الكلام.
وعليه فإن رحلة الكتاب ليست سردًا تاريخيًا فقط؛ إنها قصة الإنسان وهو يحاول دائمًا أن يدوّن نفسه قبل أن يذوب في مجرى الزمن.
من جدران الكهوف إلى المطبعة إلى الكتب الرقمية.. كان الهدف واحدًا:
أن يبقى العقل حيًا، وأن تستمر الحكاية.
04.12.2025