لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في شتاء فيينا، كان الثلج ينساب ببطء فوق الأزقة القديمة، حين جلس شاب نحيل في مقهى يعجّ بالطلبة والمثقفين. قلبُه معلق بفكرة لم يستطع أحد قبله إحكام قبضته عليها: هل يمكن للجسيمات أن تكون أكثر من شيء واحد في اللحظة نفسها؟
كان ذاك الشاب هو إرفين شرودنغر.. رجلٌ سيغيّر لاحقًا فهم البشر للعالم من حولهم، ولكن ليس بقسوة العالم المتحفّز للانتصار، بل بعقل الفيلسوف الذي يطرح السؤال قبل أن يرفع صوته بالجواب.
1. البدايات: حين تصبح الفيزياء سؤالًا فلسفيًا
نشأ شرودنغر بين أبٍ مولع بالعلوم وأمٍ مثقفة، فوجد نفسه منذ صغره يتأرجح بين الرياضيات والفلسفة. كان يتأمل الضوء حين يمر عبر نافذة غرفته، ويتساءل:
هل الضوء شيء مادي، أم فكرة تتحرك؟
ذلك النوع من الأسئلة لم يكن مجرد فضول طفل، بل الشرارة الأولى لثورة فكرية ستولد لاحقًا.
في الجامعة، كان يشاهد صراع الأفكار بين أنصار النموذج الذري الكلاسيكي وروّاد الكم الناشئين. نهض هايزنبرغ بمبدأ اللايقين، ورفع بور راية «الإلكترون لا يُعرَف إلا حين نرصده». أما شرودنغر، فكان يرفض أن يُختزل الكون إلى ضربات احتمالات صماء.
كان يريد صورة مستمرة، ناعمة، أقرب إلى الموسيقى.. لا إلى القفزات المفاجئة.
2. شرودنغر يلتقي الموجة
ذات ليلة، بينما كان في رحلة إلى جبال الألب، قطع صمته صوت رياح باردة. مشى طويلًا حتى استقر في أحد الأكواخ الصغيرة. هناك، وسط العتمة المدلّاة من سقف الشتاء، خطرت له الفكرة التي غيّرت التاريخ.
تساءل:
ماذا لو كان الإلكترون ليس جسيمًا ينتقل من مكان لآخر، بل موجة تنتشر؟
كانت تلك الومضة بداية معادلة شرودنغر، المعادلة التي وصفت حركة الجسيمات على أنها دوال موجية تتطور عبر الزمن. لأول مرة، أصبح بالإمكان وصف الإلكترون ليس كمجرد نقطة تدور حول النواة، بل كموجة احتمالات ترسم الكون من جديد.
صار الشرودنغريون يرددون:
«لقد أهدانا شرودنغر لغة جديدة لنرى بها العالم غير المرئي.»
3. قطة شرودنغر: احتجاج رجل على سوء الفهم
بعد سنوات، حين بدأت أفكاره تُفهم على نحو خاطئ، قرر شرودنغر أن يفجّر مفارقة تهز التفكير السائد. جلس أمام مكتبه، وكتب تجربة ذهنية ستبقى أشهر من اسمه:
قطة داخل صندوق.. قد تكون حيّة وميتة معًا، حتى نفتح الصندوق.
كانت الفكرة استفزازًا فلسفيًا، لا تجربة يؤمن بها. أراد أن يقول:
«الكم غريب، لكن غموضه ليس تصريحًا للهراء، بل دعوة لفهمٍ أعمق.»
ومع ذلك، صارت المفارقة رمزًا لميكانيكا الكم، وبابًا لسلسلة نقاشات لا تنتهي حول طبيعة الواقع.
4. الرجل الذي سأل: ما هي الحياة؟
لم يكن شرودنغر حبيس الفيزياء وحدها. في الأربعينيات، بينما كان العالم ينهض من ركام الحرب، كتب كتابًا صغيرًا بعنوان What Is Life?. سأل فيه عن جوهر الحياة، وعن الآليات الدقيقة التي تحكم الوراثة.
كان هذا الكتاب دافعًا لواتسون وكريك لاحقًا في اكتشاف بنية DNA.
وهكذا، امتدت موجة شرودنغر من قلب الذرة إلى نواة الخلية.
5. الفيلسوف الذي أحبّ الموسيقى والشعر
بعيدًا عن المختبر، كان شرودنغر يميل إلى الشعر، ويقرأ للفلاسفة الهنود والألمان. كان يؤمن بوحدة الوجود بمعنى علمي: العالم في أساسه موجة واحدة تتشكل في صور لا حصر لها.
حين سئل في إحدى محاضراته:
"هل نحن موجات؟"
ابتسم وقال:
"إن كنتم تبحثون عن الحقيقة، فربما نحن أكثر قربًا من الموجة مما تظنون.."
6. النهاية الهادئة لرجل لم يتوقف عن السؤال
عاد في سنواته الأخيرة إلى فيينا، شاحبًا من المرض، لكن ذهنه ظل متقدًا. في إحدى الأمسيات، حدّق طويلًا في نافذة غرفته، وكأنه يرى الموجة التي طالما بحث عنها وهي تمرّ عبر الكون.
رحل شرودنغر عام 1961، لكنه ترك خلفه معادلة لا تزال تُدرَّس يوميًا في كل جامعة حول العالم، وتجربة ذهنية تهز عقول الفلاسفة، وفكرة بسيطة عميقة:
أن العلم ليس حسابات فقط، بل سؤالٌ جميل يدفع العالم إلى الأمام.
02.12.2025
ألمانيا