لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
في تحليل التراث الفلسفي لعلماءنا الاجلاء ، في هذه المقارنة الفريدة بين ثلاثة عقول جبّارة (ابن سينا، ابن رشد، وأينشتاين ) يبرز ملمحٌ نادر في التفكير البشري وهو أن الخطأ في البرهان لا يعني بالضرورة خطأً في الحدس. بل لعلّ أعمق الأفكار تُكتشف أحيانًا من خلال استدلالات مغلوطة ولكنها مشحونة بالبصيرة. ابن سينا، في محاولته نفي الخلاء، ينطلق من مقدماتٍ ميتافيزيقية شديدة الاتساق مع نسق الفكر الأرسطي الذي كان سائداً في عصره، فـ الكم، والاتصال، و"الجوهر" ليست مفاهيم فيزيائية تجريبية بل كيانات عقلية يُقاس بها العالم قبل أن يُقاس فيه. ومع ذلك، يقع في مغالطة منطقية حين يجعل من الاتصال نتيجة ضرورية لعدم الانفصال، متجاهلاً إمكان وجود ثالث يَفلت من التصنيف الثنائي. أما ابن رشد، فإنه في سياق دفاعه عن الفلسفة ضمن شروط العقيدة، يرفض الجوهر الفرد لأنه لا يتوافق مع تصوره للهندسة والعدد كعلمين مستقلين، وهو تصوّر رغم دقته في سياقه لا يصمد أمام رؤية فيزياء الكم حيث يُعاد تعريف الفرد والمقدار بصورة تجعل من الهندسة العددية حقيقة تجريبية لا مجازاً. ثم يأتي أينشتاين، عقل الحداثة الذي لم يكن يأبى احتمال الخطأ بقدر ما كان يأبى القفز إلى اللامعقول. شكّه في التشابك الكمومي لم ينبع من رفض الظاهرة، بل من تمسّك صارم بالحدود المنطقية للنظرية النسبية، ليفاجأ لاحقًا بأن الكون قد يكون أغرب من أن يُفهم بلغة الحدس الكلاسيكي. ما يجمع بين هذه العقول الثلاثة هو أنّ كلًّا منهم كان على عتبة حقيقة كبيرة، لكنه تراجع منها لأن البرهان لم يطاوعه. والمفارقة أن ما رفضوه كان بدرجة ما صحيحًا. لكنهم أبقوا الباب مفتوحًا، لأن الفلسفة والعلم لا يتقدمان بالكمال، بل بأنصاف الصواب وأخطاء عظيمة. أجد هنا ضرورة تذكر "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً".. هي لا تأتي هنا لتُقلّل من قيمة الجهد البشري، بل لتذكّرنا أن أرقى ما نبلغه من المعرفة هو اعترافنا بأن الجهل ليس نقيض العلم، بل وقوده الخفي والدافع نحو العلم والبحث الدائم.