لا مستحيل مع الشغف بالمعرفة.. حتى الضوء ينحني حين نفهمه
هل الكون الذي نعيش فيه، بكل تعقيداته وبنياته الحية والميتة، كان يحمل في لحظة بدايته الأولى "بذرة" تحتوي على خطة نمو كاملة؟
كما تحمل بذرة الشجرة في داخلها الشيفرة الوراثية التي تُنتج ساقًا وأغصانًا وأوراقًا وثمارًا، فهل يمكن للانفجار العظيم أن يكون قد ضمّن الكون الأولي مخططًا كاملاً – وإن خفيًا – لتطوره اللاحق؟
ذلك هو السؤال الذي يربط الفيزياء الحديثة بالفلسفة القديمة، ويمتحن حدود العلم وجرأة التأمل.
وفقًا للفيزياء الكونية، بدأ الكون منذ نحو 13.8 مليار سنة من نقطة صغيرة شديدة الكثافة والحرارة تُعرف بـالمتفردة التي لا تخضع لقوانين الفيزياء المعروفة والذي بدأ منها الانفجار العظيم. في تلك اللحظة، كانت القوانين الأساسية للفيزياء (كالجاذبية، والكهرومغناطيسية، والتفاعلات النووية) قد نشأت أو كانت على وشك أن تتشكل. لكنها لم تكن "خطة" كما نفهم الكلمة.
ما الذي وُجد إذن في تلك "البذرة"؟
مجموعة بسيطة من القوانين الفيزيائية، تذبذبات كمومية دقيقة في طاقة الفراغ، لا دليل على احتوائها على تفاصيل مستقبلية دقيقة.
الكون الذي انبثق لم يحمل خريطة مجرّاته ولا تفاصيل تطوّر الحياة، بل قوانين تحدد ما هو ممكن وما هو مستحيل. أما "ما سيحدث فعليًا"، فتركته تلك القوانين لاحقًا لتفاعلات المادة والطاقة والاحتمال والضرورة.
من وجهة نظر أخرى، ليس كل ما نسميه "عشوائيًا" في الكون دليلًا على الفوضى أو الغياب، بل ربما على قصور إدراكنا.
"العشوائية مجرد اسم نطلقه على نظام لم نفهمه بعد."
في ميكانيكا الكم، حيث تسود الاحتمالات، تُقالبنا مفارقة:
الإلكترون لا "يملك" موقعًا محددًا بل يُوصف بدالة احتمالية.
نتائج القياس تبدو عشوائية تمامًا.
لكن هل هذه "عشوائية حقيقية"، أم مجرد غطاء لمستوى أعمق من النظام؟
آينشتاين كان يؤمن بأن هناك نظامًا خفيًا، ورفض قبول العشوائية كحقيقة نهائية.
لكن حتى اليوم، لم يستطع أحد دحض الطبيعة الاحتمالية الكامنة في الكم، كما تُؤيدها التجارب، ومع ذلك، يظل سؤالك قائمًا: هل تلك "العشوائية" هي فقط قصور في أدواتنا؟
في البيولوجيا، تبدو المسألة أكثر التباسًا:
الكائنات الحية نشأت نتيجة طفرات جينية عشوائية وانتقاء طبيعي غير عشوائي.
لا يوجد "تصميم مُسبق" للكائنات، ولا مخطط مكتوب في البذرة الأولى يقول: "سيظهر إنسان يومًا ما".
لكن.. هل يمكن أن تكون كل تلك المسارات "إمكانات" كامنة في القوانين منذ البداية؟
بمعنى آخر:
هل تطوّر الحياة كان حتميًا؟ أم مجرد صدفة سعيدة؟
البعض، كالفيلسوف البيولوجي ستيفن جاي غولد، يرى أن إعادة "شريط الحياة" لن يؤدي بالضرورة إلى الإنسان مرة أخرى. بينما آخرون، مثل سيمون كونواي موريس، يرون أن الحياة تميل للظهور في صور مشابهة دائمًا، مما قد يشير إلى وجود "قوى موجهة ضمنية" داخل القوانين.
الافتراض بوجود "مخطط ضمني" للكون يحمل في طياته تحديًا معرفيًا:
كيف نميّز بين غياب المخطط وغياب قدرتنا على اكتشافه؟
هل يمكن لفيزياء القرن 21 أن تميّز بين نظام فعلي ظاهر، ونظام أعمق خفي؟
هل مفهوم “الظهور” (emergence) يكفي لتفسير التعقيد، أم هو مجرد اسم جديد للغموض القديم؟
نجد أنفسنا بين رؤيتين:
الرؤية العلمية السائدة
الرؤية التأملية البديلة
القوانين تحكم الممكنات، ولا توجد خطة مسبقة.
ربما الخطة موجودة، لكن لا نراها بعد.
الكون بدأ ببساطة ونما نحو التعقيد بفعل التفاعل والزمن.
التعقيد كان "قابلاً للانبثاق" من البداية، وكأنه مشفَّر ضمنًا.
العشوائية حقيقية في مستويات معينة.
العشوائية قد تكون قناعًا للنظام الخفي.
قد يكون الكون مثل نوتة موسيقية لا نسمع منها إلا نغمًا واحدًا في كل مرة.
وقد يكون مثل شجرة لم نرها كلها دفعة واحدة، لكن بذرتها كانت تحمل إمكاناتِها.
ولعل "الزمن" هو الأداة الوحيدة التي تكشف لنا شيئًا فشيئًا ما كان مكنونًا منذ البداية.
فهل كان في قلب البذرة الكونية شفرة الحياة والمجرّات والأغاني؟
أم أن كل هذا مجرد لحن ارتجله الكون مع كل خطوة نحو الأمام؟
السؤال يظل مفتوحًا..
والتفكّر فيه، هو ما يجعلنا بشرًا.