الشيوعية. والإسلام. وجدتى

لم تقرأ جدتي القرآن ولا كارل ماركس ولا أي كتاب‏..‏ مع ذلك كانت تحكم بالعدل في أي نزاع يحدث بين الرجال في عائلتها أو قريتها‏

إنه تقليد موروث في الريف المصري منذ عصر إزيس إلهة الحكمة ومعات إلهة العد

الإحساس بالعدالة.. صفة إنسانية طبيعية.. كالاحساس بالحب والحرية والكرامة والمساواة.. لكن لعبة الأحزاب والحكم تفسد الاحساس بالعدالة لدي أغلب المشتغلين بالسياسة.. ولم تعد العدالة تعني المساواة الحقيقية بين الناس( بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطبقة).. بل أصبحت العدالة هي التوازن بين القوي الحزبية المتنافسة علي الحكم.. المتمرسة علي الموازنات لتحقيق التوافق بينها وتوزيع المقاعد والمناصب حسب قوة كل منها وليس حسب العدالة.. وحزب النور السلفي( يري وجه المرأة عورة) ونشأ( ضد القانون) من أقلية قليلة بعد يناير1102 ـ يحظي بوزن سياسي في لعبة التوازن( داخل لجنة الدستور).. أكبر من نصف المجتمع.. أربعون مليون امرأة وأكثر.

أغلبية الشعب المصري خارج الأحزاب بحكم القانون الذي يمنع نصف المجتمع( النساء) من تشكيل حزبهن.. ويفرض شروطا مادية وسياسية متعسفة لا يقدر عليها العمال والفلاحون والأجراء بحكم فقرهم وجهلهم بألاعيب السياسة.. وقد نشأت أنابين طبقتين.. طبقة أبي من الفلاحين الفقراء ـ وطبقة أمي من البهوات في القاهرة والأعيان أصحاب الأرض في الريف.. لم يكن للفلاحين الفقراء دور في السياسة.. إلا أن يحشدهم الباشا أو البيه صاحب العزبة كي يصوتوا له في الانتخابات.. وينجح الباشا أو البيه بعد أن يقدم للفلاحين وعودا( كاذبة) بتحقيق مطالبهم.. ويدور النقاش في البرلمان حول أبسط حقوق الفلاحين حينئذ.. فيعترض النواب البشوات صائحين: هذه بلشفية.. هذه شيوعية.. وفي بيتنا كان الصراع يدور بين عائلتي أبي وأمي أشبه بالصراع في مجلس النواب. تقف عائلة أمي مع البشوات والبهوات والملك فاروق يؤيدونه.. لأن الله معه في كل خطواته.. وتقف عائلة أبي ضد الملك والحكومة علي رأسهم جدتي التي تقول: لا يمكن ربنا يكون مع الظالم.. يرمقها الرجال في استعلاء.. ذوو البدل الأنيفة( والبايب بين شفاههم الندية).. كيف تشارك الفلاحة العجوز في النقاش السياسي؟.. لكنها لا تأبه بهم وتواصل دفاعها عن العدالة البسيطة البديهية.. وإن قال لها أحدهم إنها لم تقرأ القرآن ترد جدتي: ربنا هو العدل عرفوه بالعقل وليس بالكتاب.. وأصبحت جدتي الفلاحة شيوعية ملحدة مثل ابنها( أبي) في نظر رجال السياسة من عائلة أمي.. رغم أن أبي لم يكن شيوعيا ولا علاقة له بأي حزب.. لكن تهمة الشيوعية والإلحاد.. كانت تلصق بأي شخص ينطق كلمة فقر أو طبقة كادحة.. هذه كلمات تؤدي إلي السجن.. ما بال نظام طبقي أبوي.. قائم علي الاستبداد الذكوري المطلق في الدولة والأسرة؟.

إنها الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين.. والصراع دائر بين الشيوعية والاسلام في عالم منقسم إلي كتلة شرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي.. وكتلة غربية رأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.. أما المستعمرات في إفريقيا وآسيا( ومنها مصر تحت الاحتلال البريطاني).. فكانت تابعة للقوي الاستعمارية. تم اختزال الاسلام( في نظر القوي الرأسمالية).. إلي أداة لضرب الشيوعية.. وتم اختزال الشيوعية( في المستعمرات بالعالم الثالث) إلي دعوة للإلحاد.. وتم ضرب أي حركة شعبية مصرية تدعو للعدالة والتحرر الوطني حتي جمال عبدالناصر تم اتهامه بالشيوعية بواسطة القوي الخارجية والطبقة العليا في الداخل.. وتم تشجيع الاخوان المسلمين والاسلام السياسي( داخليا وخارجيا).. للقضاء علي الحركات الوطنية المصرية وجمال عبدالناصر حاولوا اغتياله جسديا وسياسيا.. حتي هزيمته في حرب7691 ـ ثم موته بعد ثلاث سنوات.. ليأتي الرئيس المؤمن( السادات)الذي شجع جماعات الاسلام السياسي( مع قوي الاستعمار) بضرب القوي الوطنية للتحرر والاستقلال تحت اسم مكافحة الشيوعية.. وجدت نفسي في سبتمبر1891 داخل زنزانة السجن بتهمة الشيوعية.. رغم أنني لم أدخل في حياتي أي حزب.. وأنفر بطبيعتي من ألاعيب السياسة مثل جدتي الفلاحة التي كانت تلخص السياسة في كلمة واحدة بوليتيكا.. تضحك وهي تضرب ابن عمها( شيخ الجامع) علي ظهره قائلة بلاش بوليتيكا يا خويا. كانت جدتي( وكل القرية).. تري السياسة ألعابا بهلوانية( بوليتيكة) قائمة علي الخداع والمكر.. وأن الحكومة تقهر الفلاحين لأنها تعمل مع الملك والإنجليز والبشوات والبهوات في البرلمان.. كانت جدتي وأهل قريتها يتمردون ضد العمدة.. تلوح في وجهه بيدها الكبيرة المشققة.. وتقول: فين العدل يا عمدة؟.. يلوح بالمصحف في وجهها يتهمها بالجهل لأنها لم تقرأ القرآن ولا تعرف شيئا عن العدل وترد عليه جدتي بعبارتها المأثورة:ربنا هو العدل عرفوه بالعقل يا عمدة.

لو دخلت جدتي لجنة الخمسين.. ربما كانت أكثر وعيا بأهمية النص في الدستور علي العدل والمساواة الحقيقية بين الناس وليس التوازن بين القوي السياسية والأحزاب ومنها حزب النور الذي يري وجه جدتي عورة.