من حصاد الأيام ٧

أقوال ومأثورات وقصص

إعداد ووضع وترجمة

محمود عباس مسعود






وفي الخاطر أمنيات...

امنحني قلباً في اتساعه مكان لكثيرين

وفي حجراته خزانة للأشياء الصغيرة..

وامنحني أفقاً رحباً يستوعب وجهة نظر الآخر

إنما دون التسرع في قبولها قبل التمحيص..

وامنحني همة عالية لا تشجع على الإتكال

ولا تحجم عن تقديم المساعدة...

وامنحني ذوقاً باذخاً للتمتع بالجمال دون إسراف

وقناعة لتقدير نِعم الحياة مهما بدت عادية ومتواضعة...

وامنحني حكمة لفهم المعنى الأعمق للحياة

وروحاً مرحة للتمتع بمباهجها...

وامنحني هامة لا تأنف من الإنحناء

ولا تحجم عن النظر إلى أعلى

لمعاينة أهل الرقي والارتقاء...


RE 1-22


-------------

..وتمر الأيام فأبحث عنك بين سفوح الذكريات ووهاد الحنين لأعانقك بالروح مستعيداً شعوراً لا يوصف لدخولك عمقاً في كياني.

ولكم سمعت نبرات صوتك تعيد تشكيل ذاتها لتتحول إلى إيقاع عذب ولحن أثير ومؤثـّر تلذ لي نغماته الصامتة السارية في حجرات القلب.

إن محراب الصداقة الذي يخيم عليه جناح الصمت قد احتفظت به نظيفاً مرتباً وأضفيت عليه حلة من وهج الأشواق .. وهو بانتظار ذلك الطيف اللطيف وكأنني به يهمس:

"في طيّب القلب قد وجدتُ سماتي"

ولكَ المحبة وعليك السلام يا صديقي

RE-1-22

-----------

عندما استجيبت ابتهالات شاعرة:

ابتهلتُ من أجل الثراء فحققتُ النجاح

وتحول كل ما لمسته إلى ذهب

لكن للأسف تملكني التعب

إذ كانت همومي أعظم من سلامي.

وابتهلتُ من أجل المجد والتألق

فسمعت إسمي يشدو به الصغار

ويتردد على ألسنة الكبار

لكن آلاماً كثيرة ومريرة

رافقت الشهرة

ولم أذق طعم السعادة.

وابتهلتُ من أجل الحب

فتحققت أمانيَّ

واجتاحت شعلته اللاقمة

قلبي وجسمي وعقلي

لكنها لم تخلّف وراءها سوى الندوب.

أخيراً ابتهلت من أجل طمأنينة النفس

فشع نور عظيم على نفسي المظلمة

وغمرني سلام كبير

وشعرت بقوة عظيمة

فتمنيت لو كان ذلك الابتهال

ابتهالي الأول.

Answered Prayers

Ella W. Wilcox

----------

في مكان ما

يسكن الجمال

بكل طهر ونقاء

إذ أبصرتُ وردة تتفتح عند منبلج الفجر

وشاهدت الدهشة ترتسم في عينيّ طفل.

في مكان ما يقطن الحب

بجرأة واستبسال

إذ رأيت امرأة تمسك بيد الموت عند الوضع

ثم تمضي إلى عالم الأرواح

دون هلع أو جزع.

في مكان ما ستتواصل الحياة

ما وراء زرقة البحر والسماء

لأنني شاهدت الحجاب

يرق ويشف وينفرج

ليسطع من خلاله وجه الله.

Nellie Miller

-------------

مزارات

أصدقائي الأعزاء، لمحت بين سطور هذه القصيدة جمالاً ومنطقاً ولمست في معانيها عمقاً فرغبت بترجمتها كقطعة أدبية، آمل أن تنال إعجابكم.

محمود

هناك نفوس في منتهى الروعة والرقة

تحيط بالمزارات والأماكن المقدسة

حيث تتهجد القلوب بحرارة وإخلاص

فتجلب تلك النفوس معها تأثيرَها العذب والراقي.

فإن أكثرتَ من الابتهال الصادق في حجرتك

ستوافيك عما قريب تلك الملائكة المرسلة

لتستأنس ببيتك وتساكنك

فتزدهر أنشطتك وتثمر أعمالك خيراً.

إنني أعرف حجرة متواضعة وبسيطة الأثاث

يغمرها حضورٌ رصين ومشعشع

حيث تنسى القلوب المثقلة بالكآبة أحزانها والهموم

كما لو كان أصحابها في معبد بهي ساطع الأنوار.

تلك النفوس السماوية الجميلة والمباركة

تحيا فقط في أجواء من الإبتهال والدعاء

فاجعل من نفسك مزاراً مقدساً ومتوهجاً

وستسارع إليك تلك النفوس

وتحتشد في مزارك.

Shrines

E. W. Wilcox

RE 1-22

------------

مساكن الحب:

في أريج الورود وعبق الزهور

وفي العيون الموحية بالثقة والطمأنينة

وعلى صفحات الكتب القيّمة

وفي النفوس التي نرتاح لها

وفي صفير الريح بين الكثبان

وجواهر الأصيل بديعة الألوان

وأشعة القمر الفضية الكريستالية

وفي ذرات الأجسام

وروائع خلوة الروح

ونفوس الأطفال النقية

والأقدام الساعية للخير

وفي قلوب الأصدقاء

مساكن للحب.

East-West Magazine

RE 2-22

----------

تأملات ما قبل الفجر...

من قلب العتمة ينبجس النور

ومن سماء الأمل ينهمر غيث الخير

ومن أمام سطوع الحقيقة تفر أشباح الوهم

وعلى سلّم الطموح المبرر يكون الصعود

وفوق المناكب القوية تُحمل الواجبات

وبالطاقة المتجددة تـُشحن الهمم

وبالإيمان الراسخ تتزعزع الشكوك

وبكبح الجماح تُستشرف آفاق الذات

وبمياه المحبة الصادقة تغتسل القلوب.

RE 1-22

----------

قصيدة للشاعر والفيلسوف الصوفي الأرميني غريغوري نارك من القرن العاشر الميلادي حيث يقول:

ليس سجودي له بسبب هباته وعطاياه

ولكن لأنني أعتبره الحياة نفسها

ونفـَس الحياة

الذي لا يمكن التحرك أو السير

أو السجود بدونه..

وليس ما يجذبني إليه هو رباط الرجاء

بل وشائج الحب..

ولا أتنهد بدافع الرغبة للتنعم

بل بفعل الشوق والحنين إليه

لأنه مصدر كل نعمة ونعيم وتمتع.

Gregory of Narek

RE-1-20

------------

حكاية السلحفاة والنور

في هذا الصباح، أسعد الله صباحكم ومساءكم، قرأت هذه القصة الطريفة وذات الدلالات فترجمتها ببعض التصرف آمل أن تنال إعجابكم أصدقائي.

ذات مرة اخترع طبيب أعصاب جهازاً صغيراً يشبه السلحفاة. الجهاز يتحرك ويتنقل على ثلاث عجلات بالاستعانة بخلية كهروضوئية في الرأس، تستجيب للضوء.

هذا الجهاز-السلحفاة يسرح ويمرح، تجذبه ألوان براقة متنوعة، وعندما يستنفد طاقته يعود إلى كوخه الصغير الذي يحتوي على بطارية تشحنه من جديد بالطاقة. وما لم يصب بالإعياء جراء فراغ شحنته لا يقترب من الكوخ مصدر الطاقة لأنه ينفر من النور الساطع المنبعث منه.

أيها الإنسان كم من الأحقاب بزغتَ من كوخ النور الكوني مشحوناً بالطاقة الكونية والسطوع الباهر ثم أدرت ظهرك للنور ورحت تتلهى وتتسلى بأضواء المباهج الصغيرة البراقة!

ألم يحن الوقت كي تألف النور الكوني وتغمر نفسك به دون الحاجة إلى بريق آخر يزغلل العيون لفترة وجيزة ثم يخبو ويتلاشى كما لو لم يكن؟!

Self-Realization Magazine

RE 1-22

---------------

اللقاء

للصوفي الألماني يوهانس تولر من القرن الرابع عشر الميلادي


في تلك الخلوة الهادئة...

هو في بَرّية العزلة المغلفة بالسكون

وهو في أعماق القلب..

أقرب من قرب أي شيء لذاته

لكنه محتجب عن كل الحواس.

إنه يفوق كل شيء ظاهر

ويفوق الفكر أيضاً

ومع ذلك يمكن العثور عليه

حيث يواري الإنسان ذاته

في مطاوي قلبه.

في تلك الخلوة الهادئة

حيث لا يُنطق بكلمة واحدة

ولا وجود لكائن أو صورة أو خيال

وحيث يتحول نور النهار إلى ظلمة

بفعل سطوعه الباهر

هناك.. يمكن لقاؤه.

Tauler

RE 2-22

---------------

شكسبير وصديقه:

But if the while I think on thee, dear friend

All losses are restor'd and sorrows end

في السوناتة 30 لشكسبير نقرأ ما معناه:

"ولكن عندما أفكر بك يا صديقي، تـُعوض كل الخسارات وتنتهي الأحزان."

هذه الكلمات توحي بأن شكسبير عانى من خسارات وكانت في حياته أحزان، كما كان عنده صديق يحبه ويقدره ويثق به ويشكو له همه ويستمد منه طاقة إيجابية تطغى على الخسارات والأحزان معاً.

وقد خطر لي أن أترجم كلماته شعراً ببعض التصرف، فتصورته يقول:

يا صديقي، كلما جلتَ بأفكاري اعتراني الارتياحْ

وتعوضتُ خساراتي وذقتُ الإنشراحْ

-------------

صبوتُ إلى عذب المشاربِ صادياً

وأمعنتُ بحثاً عن صفيّ المناهلِ

فما خابَ ظني والجداولُ ثرّةٌ

من الكوثر الأسنى كتسكابِ هاطلِ

وأيقنتُ أن للظِماءِ منابعاً

بها سلسبيلٌ مستدامٌ لسائلِ

RE 2-22

-------------

في يقظة الفجر..

قمتُ باستعدال مسار الطاقة

وبعثتُ بأمواج..

واستلهمتُ بعض خوطر..

من بينها:

يا صديقي...

الحبُ يبصِرُ من بعيدْ

ويسمعُ نبضَ الوريد

وجمالُ روحِك يبعثُ

في نفسيَ حِساً فريد

ومرورُكَ في خاطري

كنسمة الأمل الوليد

كبسمة الطفل السعيد

----------

بيت لأبي العلاء أعجبني:

{تثاءبَ عمروٌ إذا تثاءبَ خالدٌ .. بعدوى فما أعدتنيَ الثوباءُ}

في هذا البيت يصرّح رهين المحبسين بأنه غير مقلد، حتى في هذه العادة اللاشعورية المُعدية التي يصعب مقاومتها. صحيح أنه لم يرَ الناس يتثاءبون، ولكنه كان رهيف السمع، متنبهاً لما يدور حوله، ومدركاً لطبيعة ومصدر الأصوات مهما كانت خفيضة.

وإن كانت " الأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا" بالنسبة لبشار بن برد، فلا بد أن الأذن أيضاً كانت تقوم مقام العين بالنسبة لشاعر المعرة الذي اختط لنفسه نهجاً فريداً وحاول اعتماد الأصالة في أقواله وأشعاره حتى في قافية اللزوميات التي لا بد أنها كانت شاقة بالنسبة له، ومع ذلك أنجز بقريحته الثاقبة وبديهته الحاضرة ما أراده على نحو مذهل نظراً لتبحره في اللغة العربية التي كان مَكنزاً لها ومفتاحاً لأسرارها.

لم يشأ أبو العلاء أن يقلّد غيره سواء بالتثاؤب أو غير ذلك، ربما لأنه كان يعتبر التقليد تقييداً وهو القائل:

وإِني وإِن كـنـتُ الْأَخـيـرَ زمـانُـهُ .. لَآَت بـمـا لم تَسْتـطـعـهُ الأوَائـلُ

وهو الذي حرّم على نفسه أكل الدبس لأن أحدهم سأله ذات مرة عما إذا كان قد أكل دبساً إذ رأى أثراً للدبس على صدر أبي العلاء، فأجاب أبو العلاء بالإيجاب وتلمّس على الفور صدره، قائلاً:

"قاتل الله الشره" وعلى ذمة الراوي لم يذق الدبس ثانية بعدها.

-----------

Life’s great opportunities often open on the road of daily duties

"غالباً ما تفتح فرص الحياة العظيمة أبوابها على درب الواجبات اليومية"

-المؤلف مجهول

هذا القول يذكرنا بهذا البيت للشاعر القروي:

ونمتُ على ريش النعام فلم أجدْ ... فراشاً وثيراً مثل إتمام واجبي.

يبدو أن تلك الفرص الثمينة متصلة اتصالاً وثيقاً وعضوياً بإنجاز الواجبات. فأداء الواجب هو بحد ذاته فرصة للنفاذ إلى مجالات أرحب على المستويين الفردي والإجتماعي..

وهو أيضاً مفتاح لكنوز مستقرة في قرارة الذات.

إنها كنوز الطمأنينة والأفكار الجميلة والمحبة ذات الأبعاد والأعماق..

فما أروع السير على دروب الواجب وملاقاة ملائكة الفرص الذهبية المشعة بأنوار الخير والنمو والفهم السليم.

RE 1-22

-----------

أرني الدرب...

أرني الدرب الذي يفضي إلى الحياة الحقيقية.

لا أكترث للعواصف التي قد تهاجمني بعنف

إذ سأستمد قوة الكفاح

وأعلم أن همتي لن تخذلني

وأنني سأنتصر في النزاع:

أرني الدرب.

أرني الدرب إلى مستوىً أعلى

حيث سيكون الجسد خادم الروح

لا يهمني إن طغت أمواج المد والجزر على حياتي

ما دمت أبلغ مقصدي في نهاية المطاف:

أرني الدرب.

أرني الدرب ودعني أتسلق بجرأة

إلى ما فوق التحسر على كنوز زهيدة

وإلى ما فوق الأحزان التي يشفيها الزمن...

أرني الدرب.

أرني الدرب إلى ذلك السلام التام

الذي يبزغ من الشعور الداخلي بالحق

حيث يتوقف الصراع مع الجسد

وحيث تشرق النفس بنور الله

ومهما كانت الرحلة عسيرة وشاقة:

أرني يا رب الدرب.

SHOW ME THE WAY

Ella W. Wilcox

---------

صلاة الغابة

أنا الدفء في موقدك في ليالي الشتاء الباردة

والظل الأنيس الذي يحجب عنك شمس الصيف

وفاكهتي جرعات منعشة تطفئ ظمأك أثناء ترحالك

أنا الدعامة التي تسند بيتك

وأنا سطح مائدتك

والسرير الذي تستلقي عليه

والأخشاب التي تصنع منها قاربك

أنا مقبض معولك

وباب بيتك

وخشب مهدك

أنا خبز اللطافة وزهرة الجمال

فيا من تمر من هنا

استمع لصلاتي

ولا تؤذني..

Prayer of the Wood

RE 1-22

--------------

من الأرشيف: ألحان بريئة

للشاعر وليم بليك

وأنا أتمشى في البرية وسط الوديان

وأعزف على شبابتي لحناً طروباً

رأيت طفلاً يتهادى على سحابة

فقال لي ضاحكاً:

"اعزف لحناً عن خروف"

فعزفت والبهجة تملأ قلبي.

فقال: "أيا عازف! اعزفها من جديد"

عزفتها له فاستمع إليها باكياً.

ثم قال:

"أترك شبابتك السعيدة

وانشد أغانيكَ المفعمة بالفرح"

فرحت أغني ما كنت أعزفه

في حين كان يبكي فرحاً لسماعها.

ثم قال:

"يا عازف الشبابة

أجلس ودوّن في كتاب

شيئاً يقرؤه الجميع."

ثم توارى عن عينيّ

فاقتطفت قصبة جوفاء

وصنعت منها قلماً ريفياً بسيطاً

ولوّنت الماء الصافي القراح

ودوّنت أناشيدي السعيدة

لعلها تدخل البهجة

إلى قلب كل من يسمعها من الأطفال.

Reeds of Innocence

William Blake

Re 1-22

---------

هنا وهناك..

في الأفق القريب البعيد..

أفق القلب المضيء والخيال الحي

حيث تصعد نفثات الوجدان

لتمازج سحاب الشوق في عناق الأرواح

وحيث تتوامض نجوم الأنس

في فضاء النفوس العزيزة

وتفيض الخواطر بأرق وأعمق المشاعر

وتسرح الأماني العِذاب في مروج المحبة الخضراء

وتسري نوازع الحنين في حنايا الأمل المستعذب

يطيب اللقاء.. ويحلو السمر

يا صديقي!

---------

"الحب كالقيثارة التي تعطي أسرارها لليد التي تحسن ملامسة أوتارها"

ورد هذا القول ضمن طائفة من الأقوال عن الحب كنت قد ترجمتها عن موسوعة الأفكار وأود أن أقف معه بمعيتكم أصدقائي.

القيثارة يمكن للجميع تقريباً رؤيتها وملامستها وتحريك أوتارها وإحداث بعض الأصوات جراء معالجة تلك الأوتار، لكن قلائل هم الذين يستطيعون جعل تلك الآلة الموسيقية تـُصدر أنغاماً عذبة وشجية تمس شغاف القلب وتجعل الفكر شفافاً والشعور في منتهى الرقة كما لو أنها تنقل المستمع إلى مستوى أثيري لا نشاز فيه ولا فوضى ولا حدة ولا صليل أو صهيل..

وهكذا الحب الأصيل.. لا يمكن أن يعرب عن ذاته إلا بتوافر الظروف التي تتيح له إظهار روائعه ما فوق الحسية وأسراره المقدسة وقواه غير المحدودة.

ذلك الحب تناسبه أجواء الحرية النقية التي لا يمكن أن تصعد إليها أدخنة الأنانية الكثيفة وأبخرة حب التملك الموبوءة.

فما أروع ذلك الحب وما أقربه إلى القلب!

--------

مثل سويسري أعجبني:

The poor lack much, but the greedy more

الفقراء يعوزهم الكثير والجشعون يعوزهم أكثر.

قد يكون هؤلاء الجشعون فقراء أو أغنياء. فإن كانوا فقراء سيظلون هكذا حتى لو حصلوا على ما يسد حاجتهم ويزيد قليلاً أو كثيراً، وإن كانوا أغنياء فهم أفقر من الفقراء لأن لا شيء سيشبع نفوسهم اللاهثة وراء الثراء بدلاً من الإكتفاء بما لديهم ولجم النفس عن التهافت على متاع الدنيا وحطامها الذي لا ديمومة له.

وهنا تحضرني أبيات للشاعر إدوارد داير من القرن السادس عشر، وهذه هي ترجمتها:

يملكُ البعضُ كثيراً

ويتوقُ للمزيد

وما لديَّ قليلٌ

إنما لا أستزيد

أولئكَ معدمون

مع أنهم أثرياء

أما أنا فغنيٌ

حتى من غير ثراء.

RE 2-22

----------

قصيدة النجاح

البعض ينسب هذه القصيدة للفيلسوف رالف والدو أمرسون والبعض يعزوها للمسز بَسي أندرسون ستانلي. وقد ورد في الموسوعة العالمية أن مسابقة أقيمت في عام 1904 للإجابة بمائة كلمة أو أقل عن السؤال (ما هو النجاح؟) فقدمت المسز ستانلي إجابتها وربحت الجائزة الأولى، وها أنا أترجمها مع بعض التصرف لتوضيح المقصود، دون الإبتعاد عن جوهر النص،

الناجح هو من عاش حياة طيبة وضحك في أغلب الأحيان وأحب كثيراً..

وهو من حظي باحترام العقلاء ومحبة الأطفال الصغار..

وهو من عرف قدر نفسه وأنجز عمله..

وهو من ترك العالم أفضل مما وجده

سواء باستنبات سلالة أفضل من النبات

أو بتأليف قصيدة رائعة، أو بإنقاذ حياة..

وهو من لم يقصّر في إبداء تقديره للأرض والإشادة بمحاسنها..

وهو الذي بحث عن الأفضل في الآخرين وأعطى أفضل ما لديه..

وهو من كانت حياته مبعث إلهام وذكراه بركة وتيمّن.

بَسي أندرسون ستانلي

RE 1-22

------------

لا تقنطي إن القنوطَ غمامةٌ

تخفي ضياءَ الشمسِ خلفَ حجابِ

وتفاءلي ففي الحياةِ منافذٌ

وبها عطاءُ المانح الوهّابِ

وبها دروبٌ لا تُسَدُ كثيرةٌ

وبها عزاءٌ عن أسىً ومصابِ

واستبشري خيراً يوافيكِ المَددْ:

فضلٌ من الرحمنِ دونَ حسابِ

RE 1-22

------------

إن الحياةَ يا صديقي قصيرةٌ

والعمرُ يمضي كالسحاب المارق ِ

لكننا بالحبِ نحيا دائماً

ونرى الوجودَ في عيون الخافق ِ

فالحبُ أقوى من فناءٍ زائلٍ

والقلبُ يبصرُ دون أدنى عائق ِ

---------------

لن يذهب أدنى مجهود أدراج الرياح

فكل مويجة يدفعها المحيط إلى الشاطئ

تساعد في حركة المد والجزر

وكل قطرة مطر تنهمر

تساهم في تفتيح برعم وردي

وكل سعيٍ مبذول [لراحة ورفاهية الآخرين]

يخفف من معاناة الإنسانية.

الشاعر الأسكتلندي تشارلز ماكاي

December, 2015


----------------

في الذاتِ نبعٌ لا يغيضْ

وبالعجائبِ يفيضْ

لكنهُ مستترٌ

في منتهى عمقٍ خفيضْ

لا يُدركُ منهُ سوى

رشح ٍ ضئيلٍ أو نضيضْ

والكشفُ عنهُ لازمٌ

لينبجسْ من الحضيضْ

فماؤه مشعشعٌ

كجوهرٍ لهُ وميضْ

ورشفهُ فيه انتعاشٌ

للمعافى والمريضْ.

RE-1-22

----------

"هناك أفكار فذة تحتوي على خلاصة مجلد بكامله

وعبارات منتقاة تجسّد روعة عمل أدبي كبير."

هذه الكلمات هي للأديب الفرنسي جوزيف جوبير (1754-1824).

الكلمات توحي بأن جوبير كان مهتماً بالأدب النوعي وأنه كان ذا ذائقة راقية لا ترتضي عن الأدب الرفيع بديلاً.

قد يكون قرأ الكثير من المجلدات، فغربل ما قرأه ونفـَذ من الكلام إلى الأفكار، ووضع ما وقعت عليه عيناه على مشرحة التقييم، وقام بفرز المعاني حسب استحقاقاتها ليستنتج أخيراً أن ما عثر عليه من شذرات أدبية أصيلة كان قليلاً.

وبالرغم من ذلك فقد عوّض ذلك القليل عن الكم الهائل من الكلمات التي تجشم قراءتها كالباحث عن الجواهر وسط أكوام التراب.

وكأنه يقول إن بعض عبارات أصيلة مشرقة ترجح كفتها إزاء مجلد أو مجلدات قد تحتوي على الكثير من الحشو.. وإن النوعية لا الكمية هي معيار الإختبار.

RE 1-22

--------------

الكلام اللطيف يرقّق المشاعر ويجبر الخواطر ويولّد الثقة..

والتفكير الهادئ الرزين يُحدث في النفس عمقاً واتساعا..

والعطاء المدفوع بطيبة قلب يستجلب المحبة.

لاوتسي

RE 1-22

---------------

قد حباني اللهُ صحباً طيبين

أصدقاءً مخلصينَ صادقين

فلهم مني التحية العاطرة

ومودّة عبرَ أمواج الحنين

------------

بوابات

------

كثيرة هي البوابات التي يتوجه الناس إليها، يقرعونها، يعالجونها، ويعبرون من خلالها.

هناك بوابات دخل منها الموثوقون وأوصوا بالعبور من خلالها لأنها تفضي إلى مساحات آمنة وفضاءات مأمونة..

وهناك بوابات يؤكد البعض أنهم دخلوا منها وكانت تجربتهم ممتعة وموفقة، ومع ذلك يتعين التفكير ملياً قبل ولوجها لعدم توافر التطمينات الكافية بأنها لا تؤدي إلى أكمات وراءها ما وراءها..

وهناك بوابات يقصدها كثيرون ويتدافعون بالمناكب لعبورها على أمل أنها تقود إلى سعادة جاهزة معلّبة ونعيم مذخور موفور لا يحتاج تذوقه سوى للتصور والتمني..

هذه البوابات وغيرها هي كناية عن مداخل واتجاهات وتوجهات الفكر الذي هو بحد ذاته البوابة الرئيسية التي تتشعب منها بوابات لا حصر لها.. من خير وشر.. ومحبة وكراهية.. ونور وظلام.. وإيثار واستئثار.. وإنصاف وإجحاف.. والقائمة تطول.

دامت بوابات الخير مشرعة على مصراعيها

2-22

-------------

إنني من المؤمنين بأن الكلمات تختزن في ذاتها نبضاً حياً إن هي أفلحت في نقل مشاعر حية ونابضة مثلما تحتفظ بنفس أحاسيس أصحابها وأفكارهم إلى ما شاء الله.

كل واحد يرغب في الإتيان بجديد حتى ولو غنّى بمفرده أغنية بسيطة وتفنن في تنغيم مقاطعها وتقطيع كلماتها حسبما تجود قريحته. وقد يجد في كلماته نشوة يهتز لها فيعيد الكرة ويكرر الإبداع.

عنّ لي أن أكتب هذا الموضوع فوضعت العنوان وشرعت بالكتابة ولكن كيف تنتشي الكلمات؟

الكلمات... أتصورها رياحين منتشية في الحقول تنفح ضوعاً تتفتح له القلوب وتستعذبه الأذواق.

وأبصرها سحراً يسري رقراقاً في السواقي.. وأحسّها أمانيَ عذبة تحكي للقلب أحلى الحكايات.. وأتنسمها عطر ياسمين يبسم بسمة الحب والرضى لشذى الروابي.. وأسمعها ألحاناً تشجي وتواسي وتلهب وتُطرب في سكون الدجى.

وألمحها ألقاً وروعةً على الجباه الزهراء.. وأقرؤها أملاً حلواً في النفوس المستبشرة بغد أفضل. وأتلذذ بمرأى حسنها يبهر الناظرين.. وأتبينها فورة نشاط في العزائم الناهضة.. وأستشف همسها الرخيم في القلوب المتلاقية على الود الأكيد.

وأرمقها شعاعاً سنياً في الفضاء اللامتناهي. وأتتبع مسيرتها في مواكب الخالدين. وأسترق السمع لها في نجواها للأثير الحي.. وألحظها في لواحظ الجمال ودموع الفجر المتناثرة على الأوراق.. وأشعر بها تواقة في هيكل الشوق الصامت العميق.. وأعاينها ذكرياتٍ تحرك الأشجان وتوقظ الحنين.. وأتأملها شلالاتِ مَحبة نقية منحدرة من مرتفعات الروح إلى القلوب العطشى لإكسير الحياة.

فما أروع الكلمات تنقل أفكاراً متناغمة وتترجم فناً أصيلاً وخيالاً وثاباً وإبداعاً خلاّقاً لكل من يحب الكلام المنتشي بعظمة الوجود.

---------

الفردوس الضائع

----------------

هناك إشارات في النصوص الكتابية والمخيال الشعبي والملاحم الشعرية إلى فردوس كان ذات حياة في المتناول ثم ضاع مخلفاً فراغاً لا يملؤه شيء سواه، إذ لا يمكن التعويض عن فردوس إلا باستعادته.

نبصر لمحات من ذلك الفردوس في الأطفال الذين تشرق ابتساماتهم النقية وتتوامض عيونهم الصافية ببريق غريب كأنه منبثق من عالم آخر تختلف موازينه ونظمه ومفاهيمه وقيمه عن نظيراتها الوضعية المألوفة على هذه الأرض.

والذين تحدثوا عن ذلك الفردوس لا بد أنهم اختبروا – وليس بالضرورة تصوروا وحسب – حالات من ذلك النعيم فأذهلتهم روعتها وطغت حقيقتها على عقولهم النفاذة، وربما الجبارة، فكتبوا عنها رمزاً وإيحاءً، نثراً وشعراَ، ومنهم من عاشها بسكينة وهدوء فتحسسها البعض متضوعة من كيانهم، طيبة زكية كأنفاس الورد.

نغمات إبداعية قد تحرك فينا مشاعر دفينة فتبعدنا ولو للحظات عن اهتزازات هذا العالم فنشعر كأننا لامسنا خيطاً من ذلك البُعد الجميل.

وقد نلمح بعض انعكاسات له هنا وهناك فتترك أثراً عميقاً ومحبباً في نفوسنا.

ذلك الفردوس الضائع..

ربما كان سلاماً يملأ النفس

أو فرحاً من مصدر مجهول.. يبهج الخاطر

أو طمأنينة بعيدة الغور تفعم الصدر

أو شعاعاً خفياً يخترق ظلمة الهموم

أو كل هذه وتلك .. وأكثر.

November, 2015

RE 4-22

------------

حديث الدفاتر

أيتها الدفاتر الزاخرة بالخواطر والأحاسيس والرؤى

لقد شهدتِ حقبة من عمري واكتنزتِ في سطورك

مزيجاً من عصارة الفكر وبلسم الوجدان

وانسكبتْ حروفك حارة من ينبوع القلب

وربما ضمّت صفحاتك بلهفة

قطراتٍ امتزجت بالمداد وجففتها الأيام.

لقد سهرتُ معكِ الليالي الطوال

وأودعتُ في طياتك الرقيقة صوراً وأحداثاً وذكريات

ورصعتُ متونك بانسكابات عفوية

مستوحاة من فصاحة الصمت وبلاغة الأشواق..

لقد كنتِ دائمة القرب في عالم الإغتراب

وتجسّدَ في صدرك الرحب الحنون

محمود

----------------

الفرص الضائعة تشبه جواهرَ ودرراً نفيسة موضوعة في صندوق من الندامة، مفتاحه بيد الماضي الذي لا يمكن تغييره.

قول سديد يصور الفرصَ المهدورة أروع تصوير بهذه التشابيه البليغة.

القول ينطوي على ضرورة التنبّه للفرص الذهبية التي يقال بأنها تقرع الباب مرة واحدة ولا تعود ثانية إن لم يُفتح لها ويتم الإحتفاء بها، وفي هذا الصدد يقول الراجز:

"واغتنم الفرصة َ إن الفرصة ْ .. تصير إن لم تغتنمها غصّةْ

الفرص الذهبية هي فرص مشروعة ومتاحة لكل من لديه المؤهلات.

وإلى ذلك فهي لا تنازع أحداً على نصيب

ولا تحرم أحداً من حق

ولا تخضع لاعتبارات استئثارية مجحفة.

-----------

"يتضاعف الفرح بمشاركته .. ويتضاءل الحزن بمقاسمته"

قول سويدي

RE 1-22

قول ينطوي على مبدأ التضامن الإجتماعي والإهتمام بالآخر في السراء والضراء.

الفرح هنا يشبه الجمرة التي تزداد توهجاً في الموقد مع باقي الجمر، والحزن يشبه الحِمل الثقيل الذي يخف وزنه كلما تطوع الآخرون للمشاركة في رفعه.

قول يحض على التكاتف والتكافل لأن المجتمعات تنمو وتزدهر بالتعضيد والمؤازرة وتتمزق بالضغائن والتناحر.

فتحية إلى كل شعب يؤمن بالمبادئ الإنسانية ويبني كيانه ويؤسس ثقافته على المفاهيم السليمة التي لا ينهض مجتمع سوي بدونها.

---------------

أيتها النجمة النائية - الدانية!

إنكِ لأبعد من حدود الكون

وأقرب من الإحساس والأنفاس

فما أروع تألقك في الإحتجاب

وما أسطع بريقك في الظهور المباغت!

وميضك المتغامز من مسافات ضوئية

يصل منه إلى الروح شعاع

يروي عنكِ حكايات باهرة

تملأ النفس روعة ودهشة!

أيتها النجمة الناطقة الصامتة!

ما أفصح سكونك

وما أعذب الأنغام

التي يصوغها ألقك!

فمع كل وشوشة نشوة

ومع كل دقة على باب القلب بشرى!

بديعة أنتِ أيتها النجمة

البعيدة القريبة

الأثيرة الحبيبة

وستكونين أكثر روعة

عند اللقاء!

-------------

قرأت ليلة أمس القصة التالية فأعجبتني وها أنا أترجمها هنا ببعض الإيجاز:

عندما بلغت بنت أحد الملوك سن الزواج وضع والدها الملك شرطاً يتعين على كل من يتقدم لطلب يدها تحقيقه.

وكان الشرط يتمثل في قيام كل خطيب محتمل بسرقة شيء ما دون أن يعرف أحد بذلك.

في اليوم المقرر توافد الخُطاب من كل حدب وصوب وجلبوا معهم منهوباتهم على اختلافها ويحدو كل واحد منهم الأمل بتحقيق المرام لوفائه بالشرط.

بعد ذلك حضر شاب صفر اليدين وقال للملك:

"يا صاحب الجلالة، ما طلبته أمر مستحيل تحقيقه. إذ لو سرقتُ شيئاً ولم يعلم أحد في العالم بفعلتي لكنني مع ذلك سأعلم أنا بها وهذا ما لا أستطيعه."

سُر الملك بقول الشاب أيما سرور وقال له:

"أنت الذي تليق بابنتي، فقد حققت الشرط وتستحق أن تكون صهري ووريثي"

RE 1-22

------------

وطفقت تقول:

أيتها الحياة..

لقد اجتليت كنهك في صفحة الجمال

وسمعت صوتك في أعماق النفس وصمت الغابات

وعاينت شموخك في القمم والقامات السامقة

واستجليت ملامحك في عظمة التواضع

وشربت صفاءك من ينبوع الوفاء

ولمست سخاءك في أريحية العطاء

واستدفأت بوهج فهمك اللامحدود

وابتردت بمياه حبك العجيب

وانطلقت على جناح الفكر

إلى ما وراء الأبعاد

فأدركت أنكِ دائمة الحضور والتنوع والإبداع

وأن حدودك عند خط اللانهاية.

-------------

ماذا عساها أن تكون؟

قد تكون أمنية تبحث عن تحقيق

أو رجاء يلتمس شفاعة

أو حاجة ملحة على جناح اللهفة

أو قرعات متسارعة على باب مغلق

أو سفينة تمخر عباب الشكوك والهواجس

أو سكة تحرث حقول المجهول

أو ثقة تتخطى حدود اللامعقول

أو دعاء ليس بينه وبين الله حجاب..


ومهما تكن...

سمع الله الدعاء وحقق الرجاء.

RE 2-22

------------

أيجوز أن أرى دموع الآخرين

دون أن أشعر بالحزن أيضاً؟

وهل يمكن أن أحس بما يعانونه من أسى

دون أن أحاول تخفيفه؟

هل لي القدرة على رؤية دمعة منهمرة

دون مشاركة صاحبها الشعور؟

أبمقدور الأب سماع بكاء ابنه

دون أن يتعاطف معه؟

أتستطيع الأم سماع أنين طفلها

والإحساس بما يراوده من خوف

دون أن تتأثر؟

لا.. لا.. هذا غير مستطاع!

أبداً.. أبدا.. هذا مستحيل!

فلا تفكروا أن الله بغافل

عن تنهيدة واحدة نتنهدها

ولا تظنوا أننا تذرف دمعة واحدة

دون أن يراها بارئنا.

فالله يمنحنا الإبتهاج

لعلنا بذلك نتخلص من شقائنا

ويلازمنا بمراحمه وتحنانه

حتى يتلاشى بؤسنا

وتتبدد أحزاننا

ترجمة بتصرف

------------

قال البهتان: لا تتهموني بالكذب فأنا والصدق صنوان.

وقال الظلم: كيف أكون مستبداً وأنا والإنصاف توأمان؟

وقال الفساد: من لا يعرفني فأنا رائد الصلاح وقائد مسيرة الإصلاح.

وقالت الأنانية: لا مكان للأثرة في حياتي المكرسة أصلاً للإيثار.

وقالت القيم الشوهاء: هنا منابع المُثل العليا.

وقال الطمع: القناعة نهجي والرضا مطمحي.

وقال السطو على الحقوق: من يتهمني بعدم الأمانة يظلمني.

وقال حب التسلط: محبتي للناس تقتضيني وضعهم تحت المجهر حتى أبقى على معرفة وثيقة بشؤونهم التي تهمني.

فانبرت شرارة من الحقيقة بالقول: بالبعد عن جادة الصواب تخف وتختل الموازين وتنقلب المعايير .. رأساً على عقب.

-----------



"إن وقعتَ سبع مرات، انهض للمرة الثامنة."

مثل ياباني

هذا المثل يحض على المثابرة والتعامل بثبات وإصرار مع تحديات الحياة.

قد تكون الدروب وعرة وشائكة، والظروف معاكسة، والفرص غير مواتية، لكن ذلك لا يعني النكوص أو عدم تفعيل الطاقات الهاجعة التي تتحدى الصعاب وتحقق إنجازات كثيرة.

في هذا القول تشجيع حتى لأكثر الناس إخفاقاً وتقاعساً؛ فالعبرة ليست بالسقوط بل بعدم النهوض.

دروب الحياة لا تخلو من حفر ومطبات، إنما السائرون بهمة ونشاط على تلك الدروب لا يعيقهم عائق ولا يثنيهم تثبيط عن مواصلة السير حتى الشوط الأخير.

حقاً أن من سار على الدرب وصل.

RE 2-22

----------------

"الكلمة الطيبة أحلى من الكعكة الشهية."

مثل أوكراني

مثلٌ مستوحىً من الموروث الأوكراني الشعبي الذي تأثر به ناسك الشخروب ميخائيل نعيمة، حيث عاش بضع سنوات في أوكرانيا في مطلع القرن العشرين وكتب بإسهاب وإعجاب عن الشعب الأوكراني الطيب.

واضح أن الأوكرانيين يحبون الكعك أو "الكيك" ويتفننون في صنعه مثلما يبرعون في أعمال الرسم على البيض.. ذلك الرسم الذي اقترن باسمهم إذ بالكاد يبزهم شعب في أعمال الزخرفة والمنمنمات تلك.

هم يحبون الكعك ومع ذلك يعتبرون أن الكلمة الطيبة أطيب من ذلك الكعك، لأن لذة الكعك تدوم بدوام مضغه، أما الكلمة الطيبة فتترك أثراً دائماً في النفس وتوقظ ذكراها مشاعر ودية نحو ناطقها.

وسواء كانت الكلمة الطيبة منطوقة أو مكتوبة، فإنها تمتلك قوة على بناء علاقات حميمة وهدم الحواجز وبناء الجسور وتعزيز الألفة والمودة بين الناس.

أما الكلمة غير الطيبة فلها أيضاً آثار ومفاعيل يعرفها الجميع.

----------

"من يحمل كتاباً كمن يحمل حديقة في جيبه"

مثل صيني

هذا المثل يعطينا لمحة عن الثقافة الصينية ومدى محبة الصينيين للقراءة التي توسع آفاقهم وللحدائق التي تلهمهم زهورُها ورياحينها الأفكار الجميلة والمشاعر الرقيقة، وهذه تنعكس بصفة خاصة في أشعارهم وموسيقاهم.

ومن سياق المثل يمكننا التخمين بأن الكتاب المقصود يحتوي على مواد غنية ومفيدة، فالصينيون معروفون بحبهم للفلسفة والحكمة والتراث الثقافي الذي يلهم سلوكهم اليومي ويثري تجاربهم الحياتية.

وبما أن وسائل تثقيفية أخرى أصبحت الآن تنافس الكتاب التقليدي، فأظن أن المؤمنين بالمثل الذي أوردناه يمكنهم، بالإضافة إلى الكتاب، استخدام الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة المحوسبة للبحث عن المعلومة المفيدة والحكمة العريقة والأشعار الملهمة والأفكار الجميلة والمآثر النبيلة، ومن يفعل ذلك لا بد أن يضيف إلى حياته حديقة ناضرة ومتأرجة بأطيب العطور.

-----------

"لا تخفِ الحقيقة عن طبيبك ومحاميك."

مثل فرنسي

أرى أن هذا المثل يحتمل أكثر من معنى. فالمعنى الظاهري واضح، إذ يهيب بالشخص أن يُطلع طبيبه على ما يحس به من آلام، أو أن يضع الحقيقة كاملة أمام محاميه الذي سيتولى الدفاع عنه.

أما المعنى الآخر فيتمثل بحسب تصوري في التعامل بصدق وإخلاص مع الذين نأمل في أن يَسْدوا لنا خدمة أو يقدموا لنا عوناً، أو يسعفونا في التخلص من موقف حرج.

والحالة هذه يجب أن نفتح قلوبنا لهم دون تحفظ، لا سيما إن كان أولئك الأشخاص الذين نتعشم فيهم الخير موضع ثقة وفوق الشبهات.

وفي معرض الحديث عن الطبيب والمحامي، تحضرني القصة التالية:

ذات مرة كان الرئيس ابراهام لينكن - عندما كان يمارس مهنة المحاماة - يرافع في قضية لصالح أحد موكليه الذي تبين أثناء الجلسة أنه كان قد أخفى عنه (أي عن لينكون) وقائع تنطوي على غش واحتيال، فما كان من لينكون أن أعلن أمام القاضي وهيئة المحلفين بأنه لم يكن على علم بتلك التفاصيل التي أخفاها عنه موكله، ولو علم بها من البداية لما رضي بأن يتولى قضية غير محترمة لا ينبغي الدفاع عنها، وخرج غاضباً من المحكمة ومنهياً علاقته على الفور مع موكله.

-----------

"عندما تأكل الثمرة فكر بالشخص الذي غرس الشجرة."

مثل فيتنامي

قول ينمّ عن قلب طيب وفكر راقٍ وخلق رفيع.

وكأن من أطلق هذا القول أراده أن يكون درساً للأجيال ومذكّراً بأهمية الإعتراف بفضل كل من عمل عملاً مثمراً واستفاد منه الآخرون.

هذا القول في تقديري لا ينطبق على من غرس شجرة وحسب، بل على كثيرين ممن فتتوا الصخور ومهدوا الدروب وبنوا البيوت والمؤسسات التعليمية والمستشفيات وصنعوا وسائل النقل وابتكروا أساليب التواصل وكل ما من شأنه أن يؤسس لثقافة التعاون البنّاء والخدمة المتبادلة واحترام الآخر وصيانة الحقوق وجعل الحياة أخف وطأة وأكثر جدارة بالعيش.

فسلمت كل الأيادي التي تجوهرت بالأعمال النافعة وتركت آثاراً تستحق الإكبار والإعتبار من الصغار والكبار.

--------------

"إن كانت البصيرة متحررة من الأوهام فلن تكون الأفعال مشوبة بالأخطاء."

مثل من التيبت

قد يكون هذا المثل موغلاً في القدم، يعود إلى حقبة اعتمد فيها الناس على الفطرة السليمة في تعاملهم مع بعضهم ومع الحياة لتلافي أخطاء فردية ومجتمعية قد يؤدي بعضها إلى تبعات أليمة وعواقب وخيمة.

الأوهام موجودة في كل بلد وفي كل شعب وفي كل مجموعة، وقلائل هم المتحررون منها.

وذوو البصائر المتنورة والضمائر العصية على الزيغان يصلحون لأن يكونوا رعاة أمناء على الرعية كونهم يعرفون المطبات والمسالك المأمونة ولهم القدرة على الإبحار بالسفينة إلى بر الأمان.

قراءة متواضعة لقول من سقف العالم.

---------------

"فرس النهر يواريه الظلام"

من أمثال الزولو

غالباً ما تستند الأمثال إلى تجارب ذاتية، وتصاغ بأسلوب بسيط بحيث يفهمها الناس فيرددونها ويستحضرونها إلى أن تترسخ في الوعي الجمعي وتنتقل من جيل إلى آخر.

صاحب هذا المثل ربما مر بتجربة رهيبة وأراد أن يفيد منها الآخرين. أتصوره يحاول في ليل دامس الإنتقال من ضفة أحد الأنهار إلى الضفة الأخرى في القارة السمراء، فلم يجد بداً من خوض النهر وقطعه سباحة، وقد يكون اعترضه فرس نهر مفترس فنجا من أنيابه بأعجوبة وجسد تجربته في هذا المثل الوجيز.

الظلام في المَثل يشير إلى الإندفاع غير محسوب العواقب، وفرس النهر هو كناية عن المخاطر المحدقة التي يتعين التنبه لها والتعامل معها بحنكة وروية.

وهذا يذكرنا بالقول المأثور:

قدّر لرجلكَ قبل الخطو موضعها"

أو لنقل:

"أيها السبّاحُ إحذرْ .. مما تخفيه المياه"

-----------

"الحياة قصيرة"

أثناء قيامي بتمرين المشي اليومي هذا الصباح رأيت ملصقاً على سيارة مركونة أمام أحد المنازل وعليه العبارة التالية: Life Is Short أي الحياة قصيرة، فتأملت هذه الكلمات وتبادر إلى ذهني ما يلي:

• الحياة قصيرة.. والوقت ثمين، فلا بد من الإستفادة من الفترة الزمنية المتاحة والإفادة قدر الإمكان.

• الحياة قصيرة.. فلتكن الطموحات معقولة وليكن التركيز على الأمور الجوهرية دون السطحية.

• الحياة قصيرة.. وهناك دروس كبيرة وملحة يتعين تعلمها.

• الحياة قصيرة.. ولها ضوابط ومحددات، والذي خلق الإنسان ووهبه الحياة والعقل والإرادة والضمير يتوقع منه أن يعمل ما بوسعه لإضافة شيء جديد ومفيد لأمنا الأرض.

• الحياة قصيرة.. والتصرفات المنافية للنواميس الأدبية تزيد من قصرها.

• الحياة قصيرة.. لكنها تخضع لنظام دقيق يستحيل تجاوزه وتجاوز التبعات أيضاً.

• الحياة قصيرة.. والأبدية طويلة وكفيلة ببلسمة الجراح وإعطاء كل ذي حق حقه.

أجل.. الحياة قصيرة.. طالت أعماركم أصدقائي.

تلك كانت قراءتي المتواضعة لتلك العبارة البسيطة.

-------------

"الكل ينظر إلى غيره وما من أحد ينظر إلى نفسه"

مثل نرويجي

هذا القول يعطينا فكرة عن شعب عملي تشدد ثقافته على أهمية انشغال الناس بشؤونهم الخاصة وعدم التدخل فيما لا يعنيهم، بدلاً من انهماكهم في مراقبة الآخرين وتقييمهم وربما نخلهم وغربلتهم ومعرفة كل شيء عنهم، حتى ولو كانت تلك المعرفة لا تخدم سوى فضول عابر.

الإنسان بطبيعته محب للإستطلاع، ولو وظف ذلك الدافع الفطري في استكشاف إمكاناته الهاجعة وتفعيل قدراته الكامنة لاستفاد أكثر بما لا يقاس من صرف وقته وطاقاته على أمور لا تجدي نفعاً، إلا إذا كانت مراقبته للآخرين هي لدراسة أسلوب حياتهم والإستفادة من خبراتهم.

عندما ينصبّ اهتمام الفرد على تطوير ذاته سيستفيد ويفيد المجتمع الذي يعيش فيه. وإن كان كل أفراد المجتمع يعملون بهذا المبدأ فلا بد أن يكون المجتمع مبتكراً ومنتجاً على كل صعيد.

September, 2015

-----------

"من يصدّق القيل والقال يفتقر للإنضباط الذاتي"

مثل فلبيني

القيل والقال ظاهرة تعرفها كل المجتمعات تقريباً، ولعلها نمت وترسخت في أزمنة كانت فيها الكلمة المنطوقة والمسموعة مصدراً رئيسياً للأخبار.

وفي غياب الشهود يستفرد ناقل وربما صانع الخبر بالحديث، وإن لم يكن ممن يتوخون الدقة فقد يسمح لنفسه بالتنميق والتزويق والتمليح والتبهير ليأتي النبأ مطابقاً للتصور الذاتي.

وقد يشتط به الخيال فينسج ما طاب له من حبكات وحكايات قد لا تخلو من صواب.. وقد لا يكون فيها للصواب نصيب.

أما خطر هذه الظاهرة فيكمن في الرغبة في التشهير بالآخرين دون وجهة حق ودون امتلاك الجرأة للإفصاح عن الدوافع الخفية من وراء شائعات مغرضة وأقاويل لا تقوم على حقائق.

وهكذا يحث القول الإنسان على الإنضباط الذاتي وعدم التسرع في التصديق وفي الحكم قبل تمحيص الأقوال والتأكد من الحقيقة، وإلا فقد يظلم غيره.. ويظلم نفسه أيضاً.

وهنا يحضرني القول المأثور:

" إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه؛ فلعله قد فقئت عيناه"

------------

ثورو وميسون الإعرابية

We need the tonic of wildness

نحتاج لدواء البرّية المنعش

هذه الكلمات هي للعالم الطبيعي وفيلسوف المعرفة الذوقية هنري ديفيد ثورو الذي اعتمد تجربته الذاتية أساساً لأقواله وحُكمه وحكمته واستنتاجاته.

ففي أربعينيات القرن التاسع عشر قرر أن يعتزل المدينة والمدنية لسنتين في الغابة، ليس هرباً من الواقع بل رغبة في أن يختبر الطبيعة عن كثب ويدون ملاحظاته في مذكرات جمعها فيما بعد في كتاب بعنوان (وولدن أو الحياة في الغابة) جسّد فيه نظراته وفلسفته التجريبية.

كان ثورو محبا للطبيعة إن لم يكن متوحدا معها، بحيث أنه وصف أدق تفاصيلها بكيفية مدهشة، وقد رغب من خلوته تلك في وولدن أن يثبت لنفسه وللآخرين أن الإنسان باستطاعته أن يكسب ما يكفي للقيام بأوده، وأن يعيش في الطبيعة ويمتلك متسعا من الوقت للتفكير والتأمل بأسرار الحياة وعظمة الكون.

البيت أو بالأحرى الكوخ الذي عاش فيه على غدير وولدن بناه كله بيديه دون أية مساعدة من أحد، وعاش فيه عيشة بسيطة، يقوم ببعض الأعمال المتفرقة بين الفينة والأخرى ويمضي وقته في التجول وملاحظة الحيوانات والحشرات والطيور وتدوين مشاهداته ومطالعة الكتب بعدة لغات، إذ كان يجيد عددا منها.

كتاب وولدن أو الحياة في الغابة هو برهان قاطع على دقة ملاحظة هذا الفيلسوف الذي لم تغب عنه أدق تفاصيل الطبيعة، والذي يطالع الكتاب بنصه الأصلي تعتريه الدهشة لقدرة عقل مؤلفه على الاستيعاب اللامحدود والنفاذ إلى قلب الطبيعة وقراءة أسرارها بسهولة ودقة متناهية!

لقد وجد في البرّية مصدراً لإنعاش الجسم والفكر وتجديد القوى واستلهام نماذج الحياة الأولية، فاستفاد وأفاد وأصبح كتابه من الخوالد الكلاسيكية التي يتذوقها محبو الإبداع والمبدعين.

ولعل الإعرابية ميسون بنت بحدل زوجة معاوية كانت أيضاً بحاجة لذلك الدواء عندما نظمت قصيدتها التي تقول فيها:

لَبَيْتٌ تخفقُ الأرواحُ فيهِ

أحَبُّ اليَّ من قَصْرٍ مُنيفِ

وأَكْلُ كسيرةٍ من كسر بيتي

أَحَبُّ اليَّ من أَكْل الرّغيفِ

وأصواتُ الرياح بكلِّ فجِّ

أَحَبُّ اليَّ من ضَربِ الدّفوفِ

-------------

تزق وتزقزق

على بعد بضعة أمتار من مكتبي تجتمع العصافير لتلتقط ما أرش لها من حبوب كل صباح، فتبتهج جمعاً وتزقزق فرحاً وبعضها يزق صغاره التي يصعب تمييزها عن الكبار باستثناء رفات استعطافية بالأجنحة مفادها بلغة العصافير "أطعميني يا ماما!"

أحياناً توقظني العصافير مع الفجر بصداح تذكيري بأن الأصدقاء المجنحين قد حضروا.

أخرج إلى حديقة المنزل ومعي علف الصباح فأراها جاثمة بالعشرات على أغصان الشجر وخطوط الكيبل والكهرباء تنظر وتنتظر.

أنثر لها توليفة قوامها حبوب الدَخن أو البشنة وكسرات الذرة الصفراء وبذور دوار الشمس وأفسح لها المجال كي تأخذ نصيبها من الحَب المنثور فلا تهجم على الفور وكأنها بذلك تراعي آداب المآدب.

بعدها بقليل ينطلق إحداها إلى البساط أو السماط السندسي متبوعاً بباقي الجوقة فيستغرق الكل في الأكل بانسجام تام، دون تدافع أو مزاحمة.

وإذ تلحظ بعض الطيور الأخرى، مثل اليمام والزرازير وأبي زريق وأبي الحن، أثراً لوليمة تتوافد بدورها لتلتقط ما تيسر لها وتغتسل بعدها في مسابح الطيور المتموضعة وسط الحشائش والزهور.

-------------

Poetry fettered, fetters the human race

الشِعرُ إن تقيدَّ .. يقيّدُ جنسَ البشرْ

هذا القول هو للشاعر وليم بليك (1757-1827) وفيه احتفاءٌ بوثبات الخيال وخطرات الشعور.

في هذا القول يقرن الشاعر الشعرَ بالحرية التي هي مطلب أساسي وحق طبيعي للبشرية جمعاء.

وفي قوله هذا دفاع ضمني عن حرية التعبير التي يعشقها الشعراء في المقام الأول لما يستشعرونه في دواخلهم من عوالم لا حدود لها وفضاءات ذات امتدادات نحو اللانهاية.

هو يريد أن يكون الشعر كلمة حرة ومسؤولة..

تترجم أفكاراً جديدة..

تشير إلى أبعادٍ خفية..

تدل على دروب غير مطروقة..

تلامس القلوب..

تثير الخيال البكر..

تنير الأذهان..

وتروي حكايات أصيلة ومشوقة.

يريد الشعر قوة جاذبة إلى أعلى

تحرر الفكر من أثقال نوعية

وتطلق شهباً ساطعة في سماء النفس

وتقولها بفم الكون الملآن:

" الشِعرُ إن تقيدَّ .. يقيّدُ جنسَ البشرْ"

---------------

Be calm in arguing; for fierceness makes

Error a fault, and truth discourtesy.

"التزم الهدوء عند الجدال، لأن الضراوة تجعل الزلة نقيصة والحقيقة فظاظة."

هذا القول هو للخطيب والشاعر الماورائي جورج هيربرت (1593-1633) وينطوي على نصيحة يعتد بها.

فالجدال الذي لا يأخذ رأي الآخر في الاعتبار ويهدف إلى إثبات وجهة نظر صاحبه بشتى الأساليب والطرق هو هجوم لفظي قد يتطور إلى قذائع كالقذائف وربما تحول إلى اشتباك بالأيدي وانتهى نهاية حامضة.

لا بد أن الشاعر اختبر أو حضر جدالات من هذا النوع واستنتج أن الهدوء هو الطريقة الأنجع والأسلم للتعامل مع هذا النوع من "التواصل" الذي غالباً ما يفضي إلى تقطيع وتشنيع.

إن جدلاً من هذا النوع هو تصيّد لأوجه النقص ومبالغة في إظهار العيوب.

أما الحقيقة التي يريد أن يثبتها المهاجم فتتحول في يده إلى مطرقة يهوي بها على رأس الآخر في محاولة عاتية لإقناعه برأيه الذي لا يرى سواه ولا يقتنع بغيره.

وقديماً قيل: "ما هكذا يا سعد تورد الإبل!"

---------------

"مُنهك كطائر الحسون في قفص"

Wearied as a finch in a cage

- المؤلف مجهول

الحسون طائر رشيق أنيق، بديع الألوان وعذب الألحان.

خلق ليحيا حراً طليقاً، يتنقل حيثما وكيفما شاء في الفضاء الرحب الذي يناسب طبعه وطبيعته.

ومع ذلك يطيب للبعض اصطياده ووضعه في قفص للتمتع بمنظره الجميل وربما بأغانيه الشجية التي يطلقها من صدره الصغير ويعبر فيها عما يعتمل في نفسه.

القفص نقيض الحرية، ووجود الحسون داخله يعني فقدانه للحرية التي هي أثمن ما في الوجود.

وهكذا الفكر الحر لا تناسبه الأقفاص والقوالب حتى ولو كانت من ذهب. فهو لا يحب القيود على اختلافها ويطيب له ارتياد آفاق جديدة وبعيدة.. وهذا من حقه.

ومن المفارقة أن الفكر حتى في أشد البيئات قمعاً وتقييدا، بمقدوره أن يبقى مع ذلك حراً، يفكر مثلما يريد، وهذا بحد ذاته تحدٍ صامت لأية قوة تسعى للحجر على الأفكار.

فيا أيها الفكر الذي لا تناسبك الأقفاص

انطلق في فضاءات لامتناهية

وارتد آفاقاً لا تخضع للضيق والتضييق

واقتنص من سياحاتك رؤىً وإبداعات

فالحياة لا تناسبها الأقفاص

وفي حرية الفكر الخلاص.

August, 2015

----------------



"القلب كالشجرة التي تمنح بلسمها الشافي لجراح الإنسان.. فقط بعد أن يجرحها الحديد."


هذا القول هو للكاتب الفرنسي شاتوبريان (1768-1848) وفيه عصارة تجربة تتقطر من كل حرف وشعور فياض.


تشبيه بليغ ينمّ عن تأمل عميق لفكر ثاقب وشعور صادق لخوالج مرهفة.


فالعصارة البلسمية لا تخرج من مكانها ومكمنها إلا بعد أن تشق أداة حادة الجذع أو الفرع الذي تسري في أنسجته.


وبالمثل فإن القلوب الحساسة التي تجرحها كلمات قاطعة أو ترضها تجارب صادمة غالباً ما تتفاعل بقوة مع ذاتها بحيث يؤدي ذلك التفاعل إلى اعتصارها واستخراج إكسير حيوي منها، مكوناته الصبر الجميل والمواساة الصادقة والفهم العميق.

------------

إن وجهي

وشكلي

وإيماءاتي

وصوتي

قد تكون انعكاسات

لسلالة تنتمي إلى الماضي البعيد

ولكن ما أعرفه ويبهج خاطري

هو أنني جزء لا يتجزأ

من علة الوجود.

إنني روح

والروح إن وُظفت ملكاتها

على النحو الصحيح

تفي وتكفي لتحرير العالم

من أغلاله والقيود.

Ella W. Wilcox

----------

"حتى أضعف الناس بيننا لديه موهبة يتفرد بها دون سواه، وإن تم استخدامها على النحو الصحيح ستكون – بالرغم من ضآلتها – هِبة دائمة للبشرية جمعاء."

هذا القول هو للناقد الأدبي جون رسكن (1819-1900) وفيه احتفاء بما تنطوي عليه النفس الإنسانية من مواهب وقدرات.

الموهبة التي أشار إليها الأديب قد تكون بذرة خير تحمل في داخلها وعوداً وإمكانات قد لا تخطر على بال.

هذه البذرة ربما يصعب تمييزها لصغر حجمها لكن القوى التي في داخلها جبارة وإن تم توجيهها في مسارات صحيحة فإنها لا بد أن تحدث فارقاً .. ربما على مستوى العالم.

تلك البذرة قد تكون فكرة مستوحاة من مستويات رفيعة لا وجود فيها للشر والأنانية والإستئثار، فتعمل كالخميرة الصالحة أو كالمغناطيس الجاذب إذ تستقطب أفكاراً مماثلة فتتعزز قوى الخير وتكثر البذور الطيبة في أرض الله الطيبة.

-----------

"ما من صخرة شديدة الصلابة بحيث لا يخترقها الموج ولو بعد ألف عام"

هذا القول هو للشاعر ألفرد لورد تنيسون ويرمز إلى العزيمة القوية والتصميم الراسخ في مواجهة وتفتيت صخور الصعاب التي تبدو عصية على النفاذ.

إن ما يعترض سبيل الإنسان من تحديات في مسيرته الحياتية لا يقل أحياناً عن الصخور عناداً وصلابة بحيث تبدو زحزحة واختراق تلك الصخور المنظورة وغير المنظورة أمراً عصي المنال.

لكن الإنسان يتوفر على طاقات جبارة وأدوات فعالة للتعامل مع الظروف القاسية التي لا بد أن يمر بها ويتغلب عليها أو يجد سبيلاً لتجاوزها إن هو عرف كيف يفعّل طاقاته الهاجعة ويستخدم أدواته الناجعة بالطريقة التي تخدمه وتخدم بيئته ومجتمعه.

فالموج الذي يخترق الصخر هو كناية عن موج الإرادة الماضية التي لا تقهر.

وإن كان الموج يتكسر على الصخر قبل أن يكسره، فإن إرادة الإنسان المعززة بقوى الخير والإرادة الطيبة لا تنكسر بل تنتصر في معركة الحياة.

------------

الزهور الصفراء هي ذهب الله..

ذهبٌ يرفعنا إلى أعلى

دون أن يرهقنا وزنه أو يبهظ كاهلنا

ذهبٌ لا تتشبث به أيدي البخلاء

ولا تكدسه البنوك..

لكنه ذهبٌ يشدو ويضحك

وينثر ذاته بسخاء

فوق الروابي السعيدة

وفي الأودية والمنعطفات والشعاب.

فهل هناك معدم لا يملك كنوزاً من الذهب؟!

يواكين ميللر

RE 4-22

-------------

"إن جوهرة فيها شوائب لأفضل من حصاة بدونها."

هذا القول هو للفيلسوف الصيني كونفوشيوس، ولعله قصد بقوله هذا أن الحياة – حياة الفرد – التي تزخر بالمزايا الجوهرية لن يضيرها وجود بعض شوائب لا يمكنها أن تفسد جوهراً نقياً أو تقلل من قيمته. وهذه حقيقة يعرفها المهتمون بالجوهر لا بالمظهر.

الحصاة الصقيلة والمتناسقة الشكل هي شيء جميل، لكنها من وجهة نظر كونفوشيوس ليست حجراً كريماً، وأظنه كان يشير من قبيل المجاز إلى محبي التأنق والتحذلق والصباغة والتزويق دون الإهتمام بالعناصر الجوهرية التي فيها تكمن القيمة والقيم.

------------

هو شيء لا يذكر

أن تقدم شربة ماء لطالبها

لكن جرعة ماء بارد لشفاه ظامئة

في أيام القيظ اللاهب

تنعش النفس وقد يهتز لها الجسم بهجة

أكثر من شرب العصائر اللذيذة

والمشروبات الفاخرة في المآدب العامرة.

من المألوف التفوّه بكلمات جميلة من المجاملة

يكاد الاستعمال المتواتر يفقدها رونقها ومعناها

لكن وقعها يحاكي أروع وأعذب الألحان

على أذن من يظن أنه سيموت دون أن يحزن لفراقه أحد.

تلك الكلمات الرقيقة ستملأ مقلتيه الجامدتين بالدمع

وترخي يديه المتصلبتين

إذ يحس بلمسة المودة والإخاء من جديد

وستغمر روحه المفارقة بأحاسيس مباركة

تفوق ما يردده المحبون والأصدقاء

عند سرير موت أحد الأثرياء.

القاضي توماس تلفورد

July 2015

-------------

رؤيــــــة

----------

الليلة الماضية أبصرتُ الأبدية

كدائرة عظيمة من نور نقي لا انتهاء له.

كل شيء بدا هادئاً مشرقاً

وحول وتحت تلك الدائرة الجبارة

بدا الزمن بساعاته وأيامه وسنيه

مدفوعاً بالأجرام والأفلاك السماوية

كظل شاسع فسيح

يلف ويغلف العالم وما فيه.

- هنري فان


RE 4-22

-----------

وقفة مع النور

النور هو من أعظم نعم الحياة وأكثرها بهجة للنفس. لولاه لما ملأت محاسن الوجود نفوسنا روعة وإجلالاً، ولغلف الدجى الكونَ بحجاب سميك من ليل هائل بجثومه، ثقيل بكثافته، ولهجعت الطبيعة في رقدة كالحة مُقبضة، تكتنفها الطلاسم وتطغى عليها الوحشة والرهبة.

والنور وثيق الصلة بحالة الشخص النفسية. فعندما يكون الجو صافياً والشمس مشرقة تتألق المشاعر إذ تستدفئ بالأشعة الفتانة التي تبعث الحيوية والبهجة في الأحاسيس فتبدد منها الضباب والظلام.

وليس الإنسان وحده يتفاعل مع أمواج النور ويهش لها ويبش .. فالمخلوقات بأسرها – باستثناء المُحب منها للظلام – تفرح بالنور فتنشط وتعرب بطريقتها الخاصة شدواً ومناغاة

وعدواً ومناجاة عن فرحها بأشعة الشمس ونبض الحياة.

النور الطبيعي الصادر عن الشمس ليس النور الوحيد الذي يعرفه الإنسان المتنور أو محب التنوير. فهناك أنوار أخرى غير مرئية للبصر لكن البصيرة تعرفها جيداً وتستهدي بأقباسها.

هناك نور العقل الذي يرمي ظلام الجهل بسهمه الساطع فيبدده تبديدا.. ونور الوجدان الذي ينشر المشاعل الذهبية الومّاضة حول صاحبه.. والنور الوهاج لكل إرادة طيبة ونبيلة.

هذه الأنوار المباركة هي الكواكب الهادية والقوات المشعة المستترة التي بدونها يضل الإنسان السبيل فيغرق في لجج التيه ويدلج في صحاري اليأس والقنوط.

ظلام العقل أشد خطراً من ظلام العيون. فمن فقد بصره يظل مع ذلك في تناغم باطني مع ذاته إذ يسترشد بنور العقل وهدي الضمير فيظل على تماس وثيق مع طبيعته الجوهرية ولا يضل السبيل.

أما الذي يسمح لرياح السموم الفكرية بإطفاء شمعة العقل فيه، مهما كانت نحيلة وضئيلة، فلا بد له من السير في دروب وعرة وعسيرة تغص بالمغاصات الموبوءة وتعج بالمطبات الموحشة الرهيبة وهذا ما أسميه ديجور الهلاك.

ألا فلتمتلئ النفوس نوراً يفيض على ملكات الإنسان فيومض برقاً مباركاً في محراب القلب، وسناءً متألقاً في هيكل الوجدان، ووحياً نورانياً في العقل والإرادة، وشعلة سماوية في الأحاسيس، فيطهرها من القسوة والشراسة ويغمرها بالخير والمحبة

والنور والبركة..

-------------

جميلٌ استذكار الأمجاد

واستحضار مآثر الآباء والأجداد

والإصاخة لأصداء الماضي البعيد

دون توقّف أو جمود..

ورائع أن تعتصر العقول قدراتها

وتطلق طاقاتها

وتوسع نطاقاتها

وتغزو أصقاعاً غير مطروقة

وتأتي بكل مفيد

وتنظم ألف نشيد وقصيد

احتفاءً بألف فتح جديد

في بحر الفكر النامي المترامي

الذي لا ساحل له ولا حدود.

-------------

أيتها الجنة

أيا استراحة الإستراحات.. أيتها السكينة العظمى والطمأنينة الأبدية! في قلبك الحنون سلام وصفاء وانشراح.. واكتمال الأفراح.

حقاً أننا وُجدنا لغاية أسمى من الوجود الأرضي الموقوت (خلق الناس للبقاء...)

هناك أقطارٌ لا تتلاشى منها أقواس سحاب السعادة.. حيث تنتشر نجوم المباهج العليا كجزر كونية هاجعة على صدر المحيط.. وحيث الأرواح الطيبة تلازمنا ولا تفارقنا أبدا.

عندما تنتهي تأشيرة الدخول إلى هذا العالم.. و تغيب شمس هذه الحياة.. تشرق شمس الغيب التي لا تغيب وتغمر النفس غبطة عظيمة تفوق كل المباهج والمسرات الأرضية.

أيتها الجنة، إنك لتطمعين بكنوز الأرض وذخائرها، إذ تأخذين إلى صدرك الرحب كل ما هو نبيل وجليل وطاهر ومبارك.

هناك.. في ذلك النعيم المقيم.. لا حزن ولا جوع ولا عطش.. ولا هموم ولا مخاوف ولا حسد.. هناك لا تـُنكث عهود الصداقة ولا تعتمل الأفكار الظالمة والمظلمة في العقول..

ولا تشب نيران أحقاد ولا وخز للضمائر أو تأنيب.. ولا عداوات ولا ندم.. ولا حسرات ولا دموع ولا أوجاع قلب.. ولا إرهاق ولا تعب.. ولا امتزاج للآهات بالأغاني التي تصدح بها الحناجر الخالدة.

صبراً فإن العبءَ سوف يسقط عند قدمي المسافر، حيث الطريق المحفوف بالمزالق والأشواك يلتقي بالدرب الذهبي المفضي إلى مروج أرض الله الخضراء .

هناك.. لا عواصف تثور ولا ريح صرصر تدمدم ولا أجاج يمازج البحار العذبة، بل أمن وأمان وسكينة واطمئنان وأنهار من البركات تفيض بماء الحياة، تنبع من عرش الرحمن ويشرب منها الظامئون لرحيق الخلود.

هناك تزهر ورود لمدركات دائمة التفتح وتهب نسائم الفرح المنعشة على النفوس

وتبدد الأشعة السماوية قتامة الظلمة..

هناك.. خلف عتمة الاكتئاب يبزغ فجر جنات النعيم.

خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا

-------------

خلوة ذاتية

-------------

العالم دأبه الحركة المتواصلة والحراك المحموم الذي غالباً ما يستلب الأوقات ويستنزف الطاقات، وعلى من يرغب في تجديد نشاطه واستعادة حيويته أن ينتزع نفسه بين الحين والآخر ولو للحظات معدودات، بعيداً عن دوامة العيش التي لا تكف ومتطلباته التي لا تهدأ وروتينه الذي نادراً ما يتغير، ليكون مع ذاته.

إذ في هذه الكينونة الذاتية إنعاش وتجديد للحيوية وتحررٌ - ولو قليلاً - من هواجس وأعباء الحياة اليومية وعونٌ على تهيئة الأجواء وفتح المنافذ أمام الطاقة الكونية لتشحن خلايا الجسم وتأتي بأفكار جديدة خلاقة تمكننا من التعامل على نحو أفضل مع أحداث العالم المتضاربة المضطربة.

مثل تلك الخلوة الذاتية غالباً ما تساعد على اتخاذ قرارات مناسبة لاحتياجاتنا والتحكم بتيارات العواطف المحتدمة وأمواج الأفكار الهادرة، فنتذوق ولو رشفة سلام تلهمنا الإيمان والثقة بأن خلف الفوضى والإضطراب والهياج تكمن عناية سماوية قادرة على ما لا يقدر عليه الإنسان في أي زمان ومكان..

-----------------

كيمياء سامية

إن العناية الإلهية تنسج من مصاعبنا مقومات كياننا، ولدى فهم كل الإحباطات والنزاعات والآلام والمصائب على نحو صحيح والتعامل معها بدراية وتعقّل، يمكن تحويلها إلى وسيلة فعالة للتحسن والتقدم بحيث تخلق بنا بأساً وتوقظ فينا عزيمة.

فالمصائب تهشّم الصلف وتكبح جماح الغرور والعناد غير المبرور، مثلما تستحث الهمم لحلحلة الجمود ومضاعفة الجهود.

أما الشدائد فتولّد شدة المراس، كما أن الأحزان تليّن الطباع المشاكسة وترقق المشاعر الغليظة.

عندما تشق المعاناة تربة النفس، وتحدث المآسي فيها أثلاماً، يمكن عندئذٍ غرس بذور قوية ونافعة في تلك الأثلام تتحدى العاصفة ولا تبالي بالإعصار.

المصاعب والمصائب هي كيمياء سامية يستخدمها الله لتنقية النفوس من الزغل

بحيث ترسب الشوائب في قعر البوتقة وتتحول المعادن الرخيصة إلى أخرى نفيسة فتحاط شخصية كل من يبلي البلاء الحسن بإطار من الذهب الأصيل.

-----------------

تأملات

لم تجلب الحياة سوى بضعة أيام سعيدة في سلـّتها

التي ستفرغ محتوياتها يوماً بين يديّ الموت الباردتين.

فاستقبلها كل لحظة بوهج قلبك الدافئ

قبل أن يُظلم الليلُ وجهَها ويغلفه بصمت القبور.

يد الله العادلة تجود مجاناً بثروة الهواء والنور

على السعداء والبائسين، بنفس المقدار!

بأي مبلغ يمكن شراء ذهب ساعات الغروب

أو أغاريد الطيور في خميلة الصباح؟

فإن أساء أحدهم فهمنا، ألا يمكننا مسامحته

إكراماً لهدايا الصفح التي نحصل عليها

من الفجر حتى الفجر؟

هلا وزنتَ دموعك وابتساماتك

أو أحزانك ومسرّاتك

في ميزان الحياة؟

أليس وجه النهار أكثر إشراقاً

من حجاب الليل؟

أليست بسمات الأطفال أكثر سحراً

من دموعهم القليلة ومن بكائهم؟

فابتسم ما دام النهار ضيفاً على بابك

لأنه عندما يحل الظلام ويخيم الليل

ستغمض الزهور أعينها

وستغفو الطيور المغردة

على سرير النسيان.

RE 5-22

-----------------

النجار والانسجام التام

الإستغراق الكامل والتركيز التام هما عنصران حيويان للإبداع الفني. فأي موضوع يختاره الفنان التشكيلي يستحوذ لبعض الوقت على كيانه بأسره.

عندما فرغ النجار تشينغ من صنع حامل خشبي لطبل، أتقنه لدرجة مذهلة بحيث أن ما صنعه بدا خارقاً وذا أصل غير طبيعي.

ولما رأى الأمير (لو) ذلك العمل الإبداعي الفذ، سأله قائلاً: "أي فن غامض استخدمت في صنعه؟"

فأجابه تشينغ:

"أنا حرفيّ عادي، فهل يمكن أن يكون لدى شخص بسيط مثلي أسرار غامضة؟ ومع ذلك هناك شيء واحد.. فعندما أكون على وشك صنع حاملٍ خشبي، أراعي ضبط النفس ولا أفرّط بقوتي الحيوية، حيث أطلب من عقلي التزام الهدوء.

وبعد ثلاثة أيام من ذلك الإنضباط، أصبح عديم المبالاة بالمنزلة أو اللقب، وبعد خمسة أيام أصبح غافلاً عن الشهرة والتشهير أو المدح والقدح، وبعد سبعة أيام أصبح عديم الدراية بأطرافي وحتى بجسمي.

وإذ تغيب كل هذه الإعتبارات من عقلي، أركز فقط على مهارتي فتتلاشى كل المشتتات الخارجية. وفي تلك اللحظة أصعد جبلاً مشجراً وأبحث عن شجرة وهبتها الطبيعة الشكل الذي أتصوره في ذهني، فإن لم أعثر عليها أرفض الإستمرار في العمل.

وهكذا أتمكن من خلق انسجام تام ما بين موهبتي وعبقرية السماء. فهل لهذا السبب يبدو عملي خارقاً للعادة؟"

- صينيات

--------------

هكذا ودّع المعلمان الصيني والياباني تلامذتهما

في الأيام الخوالي، أمضى معلم ياباني حياته في الصين ثم عاد إلى بلده فالتف حوله تلاميذه وراح يعلمهم دروساً من تجاربه مع الحياة.

وعندما بلغ من العمر عتيا، قص عليهم حكاية كان قد سمعها في الصين، وتذهب على هذا النحو:

ذات مساء، في الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني، فاجأ أحد حكماء الصين، وكان قد تقدم به العمر، تلامذته بالقول: "لن أكون بينكم العام المقبل فعليكم أن تحسنوا معاملتي هذا العام."

ظن التلاميذ أنه كان يمزح معهم، لكن بما أنه كان طيب القلب وعاملهم معاملة تتسم بالود فقد عاملوه بالمثل وراحوا يحضّرون له وجبات طعام شهية خلال ما تبقى من السنة المنصرمة.

وعشية العام الجديد، قال لهم: "لقد أحسنتم معاملتي وسأودعكم الوداع الأخير بعد ظهر الغد عندما يكف الثلج عن السقوط"

ضحك التلاميذ معتقدين أن معلمهم يهرف وقد أصابه خرف لأن السماء كانت صافية ولم يكن هناك أي مؤشر على هطول الثلج. لكن عند منتصف الليل بدأ الثلج بالانهمار.

في اليوم التالي لم يجدوا معلمهم، فتوجهوا إلى قاعة التأمل وإذ به قد فارق الحياة.

وأردف المعلم الياباني الذي روى القصة قائلاً:

"لا حاجة لمعلم قدير أن يتنبأ بيوم رحيله، لكن بمقدوره ذلك إن هو أراد."

فسأله أحدهم: "وهل تستطيع ذلك؟"

أجاب المعلم: "نعم أستطيع، ويمكنني أن أفعل ذلك بعد سبعة أيام من الآن."

لم يصدّقه أحد من التلاميذ، وعندما استدعاهم بعد أسبوع كان معظمهم قد نسي ما قاله لهم.

فبادرهم بالقول: "قلت لكم أنني سأغادركم، والعرف يقتضي أن أكتب قصيدة الوداع، لكنني لست شاعراً ولا خطاطاً، فليدون أحدكم كلماتي الأخيرة."

ظن أتباعه أنه كان يمزح، ومع ذلك فقد تطوع أحدهم للكتابة.

سأله المعلم: "هل أنت جاهز؟"

أجاب الكاتب: "نعم يا سيدي."

فأملى عليه ما معناه وما ترجمته:

من بهاء الكونِ جئتُ

وأعودُ للبهاءْ

هل عرفتم ما قصدتُ؟"

وكانت القصيدة ينقصها بيت لأن المتعارف عليه أن تكون مؤلفة من أربعة أبيات.

فقال التلميذ: "يعوزنا سطر واحد يا معلم."

فما كان من المعلم أن قال بصوت جهوري:

"موطني الآن السماء!"

وتلك كانت كلماته الأخيرة.

------------------

إفراغ النفس من الأوهام...

أقوالٌ مضى عليها حوالي 2500 سنة وما زالت محتفظة بروحها لأنها خارج نطاق الزمن.

اتبع الطريق البسيط.. أحسن التمييز ولا تزاحم الآخرين، فالليل لا يزاحم النهار، ولا النهار الليل بل يعقب أحدهما الآخر بدقة وحتمية.

عش في الجوهري وستتبعك الفضيلة كظلك. الجوهري لا يمكن رؤيته لأنه ما وراء السمع والبصر. هو لا شيء بالنسبة للحواس لكن الحواس من اللاشيء تبزغ.

ألا تنطلق النوارس نحو غير المنظور؟ وهل تمكّن أحدٌ من اكتشاف المصنع الذي صُنعت فيه أجنحتها؟

من معمل الصمت يصاغ الكلام وعن الأنغام غير المسموعة تصدر الألحان.

إن عرفت اللانهائي في داخلك فستعرفه خارج ذاتك.

المحدود وهمٌ وخيال في حين يتخلل اللانهائي كل الأشياء.

بفضل غير المنظور يظهر المنظور لذلك أفرغ النفس من الأوهام حتى تنساب من خلالك الأشياء.

من الصمت المطبق يخرج الصوت الحي فلينطق صوتك على نحو يُظهر ما لا يُنطق به

وكلما ترسخت جذورك في غير المنطوق كلما تشبعت اهتزازات صوتك بالفهم والحيوية.

لا تعتمد على البيّن الجلي بل ليكن اعتمادك على الباطن الخفي.

الحرب لا تدمر الحرب. الحرب تنتهي عند معرفة مقر السلام وذلك المقر أقوى من أي حصن وأكثر مناعة.

بالأوهام يدمّر الإنسان نفسه إلى أن يتعلم أخيرا أنه واهمٌ وتصرفاته عبثية.

ثنائيات الحياة أوزانٌ والإرتقاء عنصر الموازنة. فكن عنصر موازنة في الحياة كي تتخطى النسبيات وترتقي إلى المطلق اللانهائي.

الفيلسوف الصيني لاوتسي

---------------

في لواحظ السلام

وتفتـّح براعم الأنس

تدفئها شمس الأمل

وترويها سواقي المحبة

وفي هدأةٍ يعززها تلاشي النشاز

وطمأنينة لقلوب تنبض في غمرة الأحزان

وإقصاء لجمودٍ وتحجّر من ساحة الوجدان

وفي مقت الكراهية وليدة الجحيم

وإذابة الضغائن المستعرة

وتقييد جموح التعصب والاستئثار

واستبدال العنف باللطف والحقد بالود

وفي محاربة أعدى أعداء الإنسان

بتسديد سلاح الفهم السديد

إلى قلب الجهل العتيد

يصبح للحياة طعم ومعنىً.

----------------

يقول شكسبير:

"للشهوة وحب الإنتقام آذان لا تسمع صوت القرار الصائب لأنها أشد صمماً من أذنيّ الأفعوان."

يبدو أن عبقري الأجيال لم يدع فكرة أو ملاحظة عابرة إلا وتناولها بتعليق وجيز وازن لم يعف عليه الزمن لصلته الوثيقة بالطبيعة البشرية.

لقد كان على علم بأن الأفاعي غير مجهزة بآذان خارجية مما جعلها في تقديره صماء، مع أن لها تركيبة متكاملة لأذن داخلية تسعفها في تحسس ما يجري في محيطها عن طريق انتقال الإهتزازات إلى الجلد ومن ثم إلى الأذن الداخلية.

وقد استخدم هذه الظاهرة لعقد مقارنة مع الشهوة والإنتقام.

فالشهوة تعني الاستغراق الحسي التام فكراً أو فعلاً، بحيث لا يبقى هناك متسع لسماع صوت العقل أو المنطق أو السداد.

أما بخصوص الإنتقام، فقد أدرك أنه شعور طاغٍ يستولي على الملكات فيصبح هاجساً لا يهدأ وقوة لا تقاوم.

لكن بالرغم من تلك الصورة التي رسمها شكسبير بوضوح بكلماته، يبقى الإنضباط أقوى من الأهواء الجامحة والحلم أقوى من الإنتقام في نفوس قال فيها المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبارا .. تعبت في مرادها الأجسامُ

-------------

"غالباً ما تخفي الوقاحة مخاوف جمة"

هذا القول هو للشاعر الروماني ماركوس آنايوس لوكانوس الذي أجبر على الانتحار بشرب السم بتهمة خيانته للطاغية نيرون.

في هذا القول تحليل موجز للوقاحة – أعزكم الله - على أنها جرأة مفتعلة وتصرف غير سليم، بغرض حرف الإنتباه عن نقاط ضعف مستترة أو مخاوف متوارية في جنبات القلب والفكر.

وهذا في طبيعته أسلوب دفاعي فاشل مع أنه يبدو هجومياً لإعطاء انطباع عن ماهية مزعومة وقوة موهومة لا وجود لها.

ولحسن الحظ لا نصيب للوقاحة في القلوب الطيبة والنفوس النبيلة وفي كل من يحترم نفسه ويترفع عن الصغائر والصَغار.

RE 1-22

-------------

Hatred is the anger of the weak

الكراهية هي غضب الضعفاء.

هذا القول هو للروائي الفرنسي ألفونسو دوده (1840-1897) وينطوي على فكرة منطقية.

ذوو النفوس الكبيرة يشعرون بالغضب لكنهم لا يسمحون له بالإستحواذ عليهم كي لا يعمي بصائرهم ويعكر أجواءهم ويتحول بالتالي إلى كراهية تحتل أعماقهم وتطرد منها المشاعر الجميلة والنبيلة التي هي غذاء الروح ومنبع السعادة الذاتية.

ولعلهم يتعاملون مع الغضب على أنه إحساس مؤقت يطرأ بفعل ظروف تستثيره، إنما لا ينبغي التشبث به والاستجابة لاملاءاته غير مضمونة العواقب، ولذلك يعمدون إلى تصريفه أو صرفه عنهم كي لا يغلبهم على أمرهم ويسلب منهم رشدهم وقواهم النفسية التي يعتبرونها أقوى من الغضب.

أما الذين لا يمتلكون تلك القوى فيسمحون للغضب بأن يستولي على ملكاتهم، فيستوطن نفوسهم ومع الأيام ينقلب إلى كراهية عمياء شبيهة بعاصفة هوجاء لها نتائج وخيمة وآثار مدمرة على أكثر من صعيد.

-------------

"النهارات هي ليالٍ بالنسبة لي حتى أراك..

والليالي تنقلب نهاراتٍ مشرقة إن أنا أبصرتك في الأحلام."

شكسبير

هناك أناس نفرح برؤيتهم .. نأنس بهم .. ننسى همومنا بصحبتهم .. ونشعر بفراغ في غيابهم وكأن النهار ينقلب ليلاً لعدم إشراقة شمس حضورهم البهيج في حياتنا.

وإن أسعفنا وأسعدنا الحظ برؤيتهم في الحلم فيتحول إذ ذاك ليل الوحشة إلى نهار مشرق بالفرح والتفاؤل وتحقيق الأماني.

ولعل المطرب الكبير محمد عبد الوهاب اختبر ما يشبه تلك الحالة عندما أنشد:

"رأيت خياله في المنام".

--------------

لا لن يغيبْ

عن خاطري

ذِكرٌ لكِ

ولن يفارقَ طيفـُكِ

من السَحَر حتى المغيب

ركناً لكِ بهِ نصيب.

وستبقى شعلةُ حبكِ

مشعةً إلى الأبد

وسيبقى وهجُكِ وامضاً

في غيهب البعد السحيق

والذكرى تخترق العزوف

وتفيضُ من ألق الحروف

وتسكبُ روحَ الرحيقْ

وتنثرُ .. وتنشرُ

على الشواطئ والدروبْ

أرَجَ الطيوب

وبعضَ أسرار القلوب

--------------

"البداية سهلة والمثابرة فن"

مثل ألماني

هذا القول يعزى للعالم الطبيعي هنريش فردريش فرانز كورت (1782-1845).

البعض يعتبر البداية صعبة لكن بالنسبة للعالم كورت كانت سهلة والتحدي كان يكمن في المثابرة مما اقتضاه ابتكار وسائل وطرق محددة لمواصلة ما كان بصدده والمضي في الطريق حتى الشوط الأخير.

البداية سهلة لأنها غالباً ما تكون مدفوعة برغبة متحمسة، معززة بتشجيع الآخرين ومدعومة بأحلام وردية تملأ النفس أملاً وثقة بأن الرؤية قابلة للتحقيق ولا بد أن يتم تجسيدها على أرض الواقع.

هذا جميل فيما إذا استمر الزخم ولم يتسرب الملل أو اليأس إلى النفس. لكن تشجيع الآخرين واستحسانهم يتضاءلان تدريجياً، والحماس يخف وقد يخبو أحياناً، ومع ذلك ينبغي مواصلة السير.

في هذه المرحلة يصبح المجهود فردياً بحتاً ولا بد من الإعتماد على النفس، ومن هنا تبزغ الحاجة لاستنباط أساليب ناجعة لتنشيط الفكرة الأساسية وتغذية الرغبة في الاستمرار وهذا فن من فنون الإقناع الذاتي بضرورة التمسك بالرأي المؤسس على قناعة شخصية والمثابرة حتى النهاية.

--------------

"عندما تتحد العقول يمكنها أن تزيح الجبال."

مثل صيني

لا بد أن هذا القول الذي قد يكون أطلقه أحد فلاسفة الصين بُني على تجربة عملية، وفي سور الصين العظيم مثال على ذلك.

اتحاد العقول يعني توحيد القوى على نحو تآلفي بحيث تتقلص ثغرات الفشل وتتعاظم فرص النجاح.

لا حاجة لنقل جبل مادي من مكان إلى آخر. أما إن وقف ذلك الجبل عقبة أمام مشروع فيه للمواطن فائدة فيمكن للعقول المتحدة والقوى المتضافرة أن تتعامل معه على نحو يضمن تحقيق الهدف المنشود، كأن تشق فيه نفقاً مهما بدا ذلك الجبل عصياً على الاختراق.

عندما يصبح الحس العام المعيار الأساسي والركيزة الراسخة التي تقوم عليها المجتمعات، تتوحد العقول ومعها الهمم والقلوب على الأعمال الجماعية البنّاءة المثمرة فتأتي النتائج إيجابية ويعم الخير الجميع.

RE 4-22

----------

"الشعراء غير الناضجين يقلدون، أما الشعراء الناضجون فيسرقون."

هذا القول الطريف هو للشاعر والناقد الأدبي تي. أس. إليوت.

فالشعراء المبتدئون يعملون ما بوسعهم لتثبيت أقدامهم وإثبات موهبتهم، مثلهم في ذلك مثل المطربين الناشئين الذين يحاولون كل شيء طمعاً باعترافٍ مهما كان متواضعاً واستحسان يطربون له .

وبحسب قول إليوت فنتاج الشاعر المبتدئ قد ينطوي، فضلاً عن التقليد، على مسروقات انتهبها شعراء "ناضجون" وأضافوها إلى الخزنة.

لقد وُضعت مؤلفات عديدة حول سرقات الشعراء، وحتى المتنبي نفسه وهو القائل "وما الدهر إلا من رواة قصائدي" لم يسلم من هذه التهمة على يد مراصد الإطلاع وأعني بذلك كبار النقاد.

الشاعر المبتدئ يريد أن يشق طريقه فيلجأ للمحاكاة إلى أن تترسخ قدماه ويصبح أكثر اعتماداً على النفس، فيما إذا كان موهوباً ومؤهلاً لأن يصبح شاعراً تهز كلماته الشعور وتبهر صوره الذهنية القارئ والسامع على حد سواء.

ومهما يكن، وبغض النظر عن التقليد والسرقة..

يبقى الشعرُ بحراً زاخراً لا يُستنفد

ما دامت هناك عيون يستهويها الجمال

وقلوب تحرك أوتارها الخلجات الرقيقة

ونفوس تؤمن برقي الفكر وسمو المبادئ

ورسالة الكلمة وروعة المعاني.

June, 2015

--------------

"مثلما يظهر الليل النجوم، هكذا يظهر لنا الحزن الحقيقة"

تشبيه بليغ للشاعر فيليب جيمس بيلي (1816-1902) وينطوي على تجربة شخصية أوجزها الشاعر بكلمات قليلة.

فالليل بالرغم من عتمته الحالكة يجلو ظاهرة غاية في الروعة وهي النجوم التي قال عنها أحد المفكرين:

"لو لم تظهر النجوم في السماء سوى مرة واحدة كل ألف عام لاستحقت الإنتظار كل هذه السنين الطويلة."

أما كيف يظهر الحزن الحقيقة، فأعتقد أن الشاعر عنى بذلك أن الحزن يغلف مباهج الدنيا بغلالة من عدم الإكتراث ويستحث وقفة مع الذات وربما غوصاً عميقاً في بحر التفكير.. ومن يتعمق في الغوص قد يعثر على صيد ثمين.

الأحزان غالباً ما تجعل المرء يبتعد ولو مؤقتاً عن الوعي الجمعي ليستقل بتفكيره ويفعّل طاقات هاجعة في داخله، فيصبح نتيجة لذلك أكثر تناغماً مع ذاته ويزداد رغبة لربط الأسباب بالمسببات ومعرفة المزيد.

وقد تصرخ أعماقه فتسمعها أذنٌ دائمة الإصغاء وتطلق في عقله شعاعاً يظهر حقيقة فيها إضاءة وعزاء وإدراك أفضل لخفايا الحياة.

----------------

"خير الوعاظ النمل، ومع ذلك لا ينطق بكلمة واحدة."

هذا القول هو للعالم والمخترع بنجامين فرانكلن، وهو موعظة بحد ذاته.

فالحياة تقتضي الجد والعمل المثمر والإهتمام بما ينفع الإنسان والمجتمع.

مملكة النمل تقوم على نظام دقيق لا يُسمح لأحد بتجاوزه، وتزدهر بالعمل الجماعي الدؤوب والمنسق.

ولو استلهمت المجتمعات البشرية مثال النمل لساد الإنضباط، ولعمّ الخير وأصابَ الجميع، ولكان المعيار هو الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد، وأن من يعطي له الحق في الأخذ والعيش بطمأنينة وكرامة والتمتع بما قدمت يداه وساهم في إنتاجه.

RE 2-22

------------

”الحب هو الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نأخذه معنا عند الرحيل، ويجعل النهاية سهلة للغاية."

هذا القول هو للروائية والأديبة لويزا ماي ألكوت (1832-1888) مؤلفة كتاب "نساء صغيرات" ويبدو أنها ضمنّته تجربة عمر وفلسفة حياة.

هنا نلمس مدى فهم لويزا للحب كطاقة شفافة تلازم الروح المُحبة أثناء وجودها الأرضي وترافقها إلى العالم الآخر، بل وتجعل عملية انتقالها من المستوى المادي إلى الأثيري في غاية السهولة.

نستشف من ذلك أن الحب يوسع المدارك ويرهف الأحاسيس ويشحذ ملكات النفس ويقويها، مثلما يمتلك القدرة على تقطيع القيود المكبلة والتعلقات غير المريحة.. وإلى ذلك يعطي دفعة معنوية للنفس المفارقة، وكأنه دليل أمين يعرف الدرب والوجهة، ويدٌ قوية تحمي وتحرس، وصدرٌ حنون لنفوس تلتمس الراحة والعزاء من هموم الأرض ومتاعبها.

دام الحب محركاً للقلوب

ساكناً النفوس

مقرّباً للمسافات

وهمسة وصل بين الأرض والسماء.

-------------------

تحية المشي السريع!

منذ فترة من الزمن قررت أن أشرع بممارسة بعض التمارين الرياضية، واخترت المشي السريع لمدة نصف ساعة يومياً.

هذا النوع من التمرين هو وسط بين الركض البطيء والمشي وينطوي على فوائد صحية.

اليوم، وأثناء المشي رأيت رجلاً ربما تجاوز الثمانين، قادماً من الجهة الأخرى وهو يسير بنفس الإيقاع وربما أسرع بقليل.

وعندما اقتربنا من بعضنا تبادلنا النظرات والابتسامات. رفعت له يدي اليمنى بالتحية فتحولت ابتسامته إلى ضحكة ورفع إبهام يده اليسرى إشارة إلى أننا صديقان يجمعنا هدف مشترك.

---------------

"التصنع هو تقليد مفتعل وغير ملائم لما هو أصيل وسهل، بهدف الحصول على ذلك الجمال الذي يصاحب ما هو فطري وطبيعي."

هذا القول هو للفيلسوف جون لوك (1632-1704) ونستدل منه على أن الرجل كان يحب التفكير الأصيل والتصرف الطبيعي دون رتوش ومحسنات، ربماً تطبيقاً للقول المعروف "لا يزيد الحشو شيئاً إلى مدلول الكلام."

هناك فرق بين محاولة تقليد الإيجابيين والناجحين لتشرّب مزاياهم واكتساب قدراتهم وبين التنطع الفارغ والحذلقة الجوفاء.

التصرف الطبيعي السليم يقوم على الصدق وينطوي على قدر من الأصالة والتميز، ترتاح له العين والأذن والقلب معاً.

ألسنا جميعنا نحب الأطفال ونفرح بالتحدث إليهم والنظر في عيونهم البريئة التي لا أثر فيها للتصنع والتكلف والتظاهر!؟

-----------------

"في بعض الأحيان، عندما يغيب شخص واحد يبدو العالم بأسره خالياً من السكان."

هذا القول هو للكاتب والشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869)

ربما عنى الشاعر بذلك أن شخصاً يسكن القلب يملؤه بحضوره ويغمره بفيض من السعادة فيغتني ذلك القلب ويشعر كما لو أن العالم بكل أفراحه وأمجاده وعجائبه يسكن فيه.

وإذا ما غاب أو غـُيّب ذلك الشخص لسبب أو لآخر يخلق غيابه فراغاً كبيراً في القلب بحيث يبدو أن العالم على اتساعه غير قادر على ملء ذلك الفراغ.

لعلها الرومانسية هي التي أوحت تلك الفكرة للشاعر..

لعله عهد حب وثيق غمر كيانه وأذاب قلبه..

لعله وفاء بحجم العالم واتساعه..

ومهما يكن..

فقد كان صادقاً في تعبيره

مبدعاً في تصويره

رائعاً في استنتاجه.

------------

"إن لقاء الأصدقاء الأوفياء في الساعات العسيرة ليشبه شعاع الشمس في يوم ماطر."

هذا القول هو للروائي الأسكتلندي الأشهر الشاعر والمؤرخ السر وولتر سكوت (1771-1832).

في هذا القول إضاءة لزاوية من حياة ذلك الإنسان الطيب الذي ألمّ به مرض وهو دون سن الثانية من عمره فتركه مشلولا، هزيل البنية، وعاجزاً عن اللعب مع أترابه وأصحابه.

في سنيه المبكرة تم إرساله إلى مزرعة جده لاستعادة نشاطه وعافيته حيث صرف أوقاتاً مصغيا للقصص التي كانت عمته تقرؤها له، أو مستلقيا فوق الأعشاب البرية تحت أنظار الراعي المسن الذي كان يرعى أغنام جده (إذ كان وولتر غير قادر على الحركة والتنقل).

ولكن هذا الصبي الذي كان مهتما بكل ما يدور حوله من أحداث ومشاهد لم يطق البقاء مقيدا في بقعة واحدة لا يفارقها، ولم يحلُ له مشاهدة الأشياء عن بـُعد وليس عن كثب.

وهكذا راح يمرّن إرادته ويزحف ويجر نفسه هنا وهناك تدريجيا، فاسترد نشاطه وما أن بلغ سن الثامنة حتى أصبح – باستثناء العرَج – قويا نشيطا كباقي زملائه.

ونستدل من قوله أعلاه أنه كان يبتهج بلقاء أصدقائه الطيبين "في الساعات العسيرة" كما لو كان ذلك اللقاء إشراقة شمس مباغتة في يوم ممطر مكفهر.

---------------

حداد القرية

تحت شجرة السنديان ذات الأغصان المديدة

يقف صاحبنا حداد القرية ببنيته المتينة وكفيه الضخمين

وزنديه المفتولين القويين كقضبان الحديد

وشعره الأسود الخشن المسترسل على كتفيه

ووجهه الذي لوحته الحرارة فاستحال أسمرا داكن

وجبينه المتصبب عرقا شريفا

فهو يكسب لقمة عيشه بتعب يمينه وعرق جبينه

ويمشي مرفوع الرأس لأنه ليس مَديناً لأحد بشيء.

على مدار السنة، من طلوع الفجر وحتى المساء

تسمع رزيزه وهو يضرب الحديد بمطرقته الجبارة

بإيقاع بطئ ومنتظم كطنين أجراس القرية عند الغروب.

ولدى عودة الأولاد من المدرسة إلى بيوتهم

يتوقفون لينظرون إليه من خلال باب مشغله المفتوح

فيبتهجون لمرأى نيران كيره اللاهبة

ويصغون بافتتان لصوت منفاخه القوي

محاولين الإمساك بشرار اللهب المتطاير

الشبيه بتبن البيادر عند درس الحبوب.

وفي يوم من أيام الأسبوع يذهب إلى بيت العبادة

فيجلس مع أولاده في الصلاة والتعبد

ويستمع لصوت ابنته وهي تنشد في كورس القرية

فيغمر الفرح قلبه إذ يشعر ببهجة عظيمة تكتنفه.

وهذا الصوت الرقيق يعيد إلى ذهنه صوت أمها

المتجاوب في أجواء الفردوس

فيتذكرها من جديد ويذكر تلك اللحظة عندما وسدّها الثرى

وودعها الوداع الأخير

فتنهمر من عينيه دمعة ساخنة يمسحها بكفه الخشن.

وإذ يعمل ويفرح ويحزن

يواصل مشوار حياته يوما بعد يوم

فهو في كل صباح يبدأ عملا جديدا

وعند المساء ينهي ما بدأه في الصباح

فيعود إلى بيته مرتاح الضمير

وينام ملء جفونه.

لكَ الشكر الجزيل يا صديقي الكريم

على هذا الدرس الذي تعلمته منك

إذ أمام لهب الحياة المتأجج

يجب أن نعمل بجد ونكسب عيشنا بأمانة

وعلى سندان الحياة يجب أن نطرق

كل عمل من أعمالنا

ونصوغ كل فكر من أفكارنا.

_هنري لونغفلو

------------

"لا تتذكر ما تعطيه ولا تنسَ ما يُعطى لك."

هذا القول يُعزى للفيلسوف الإسبارطي شيلون من القرن السادس قبل الميلاد، ويستدل منه أن فلاسفة ومفكرين ومتنورين ظهروا على مر العصور ونثروا بذور معارفهم ومدركاتهم في تربة الإنسانية.

لعل الفيلسوف استقى هذه النصيحة الحكمية من الطبيعة، إذ رأى الشمس تعطي والغيوم تجود والشجر يمنح ثماره والأرض تقدم ما في قلبها للإنسان وباقي الكائنات الحية.

أما قوله "لا تنسَ ما يُعطى لك" فهو تذكير بأن الإنسان لا يستطيع العيش بمفرده ولذلك فهو يعتمد على مصادر طبيعية وبشرية لإعالته، وإذا ما تذكر تلك المصادر فلا بد أن يقرن ذلك التذكر بالشكران والمحبة اللذين إن غمرا القلب تغمره السعادة.. فبالمحبة تتواصل النفوس وبالشكر تدوم النعم.

---------------

"أنظروا إلى السهول الممتدة الفسيحة

تـَمور وتفور بالحبوب الناضجة

وتتدافع أمواجها الذهبية

على صدر رياح الصيف."

هذه الأبيات هي للشاعر وليم هنري برليه، من قصيدة بعنوان "نداء الحصاد" وفيه يحتفي بالزراعة والمزارعين ويمجد خيرات الأرض التي يعتمد عليها الإنسان في معيشته اعتماداً مباشراً وتاماً.

أتصور الشاعر بين تلك السهول المباركة وقد أذهلته روعتها وشعر بأنباض الطبيعة الأم في كل سنبلة وكل حبة ستضحي نفسها لإعالة زارعها وعياله وغيرهم كثيرين.

الزراعة.. تلك المهنة الشريفة التي ترتبط ارتباطاً عضوياً بظواهر كبرى كالشمس والهواء والمطر والأرض الطيبة.

أما المزارعون فهم ملح الأرض وخميرتها.

فتحية لهم ولكل من يعمل ويتفاعل مع العناصر الحيوية التي تنتج خبز الحياة لأبناء الحياة.

-----------------

حكاية زهور اللفت

في الخريف الماضي وبينما كنت أقطّع بعض حبات اللفت لصنع المخلل، لاحظت أثراً للنمو في إحداها فقمت بقطع الشريحة التي تحتوي على البراعم الدقيقة، ووضعتها في أصيص فيه حفنة من التراب، وسقيتها ثم وضعتها بالقرب من نافذة ينسكب منها فيض من النور.

تعهدتها بالرعاية، لا سيما أن البراعم راحت تنتعش وتنمو في بيئتها الجديدة. ومع مرور الوقت تحول شكلها إلى ساق ثم أوراق، ومنذ بضعة أيام لاحظت ما يشبه التاج الغض في رأس النبتة ما لبث أن استحال إلى زهور صفراء غاية في الرقة والجمال، وكأن شريحة اللفت أرادت من خلال هذه الزهور أن تعرب لي عن امتنانها ببسمة بريئة.. ولا أعذب!

---------------

"عندما يصعد الغضب، فكـّر بالتبعات."

هذا القول هو للفيلسوف الصيني كونفوشيوس.

لا بد أن كونفوشيوس أجرى دراسة على الغضب من خلال ملاحظته الدقيقة لآثاره والتصرفات غير السوية التي تبدر من الغضبان والتي قد تكون نتائجها كارثية على أكثر من صعيد.

وقد شبّه حكماء آخرون الغضب بعاصفة هوجاء تهبّ على العقل فتطفئ نوره ويكتنف الرؤية ظلام دامس ويصبح التصرف عشوائياً مدفوعاً بمشاعر محتقنة، تغلي وتفور مسببة حروقاً خطيرة قد يكون بعضها مميتاً.

وفي هذا الصدد يقرن كريشنا الغضب بحالات نفسية متسلسلة على النحو التالي:

"الولع يولّد الرغبة، والرغبة تولّد الغضب، ومن الغضب يبزغ الوهم، والوهم يؤدي إلى فقدان الذاكرة، وفقدان الذاكرة يتسبب بتدمير التمييز بين الخطأ والصواب، وتدمير التمييز يعني انهيار الإنسان."

في الخريف الماضي وبينما كنت أقطّع بعض حبات اللفت لصنع المخلل، لاحظت أثراً للنمو في إحداها فقمت بقطع الشريحة التي تحتوي على البراعم الدقيقة، ووضعتها في أصيص فيه حفنة من التراب، وسقيتها ثم وضعتها بالقرب من نافذة ينسكب منها فيض من النور.

----------------



"الناس يرضون بالعبودية من أجل الحصول على الثراء، متوهمين أن باستطاعتهم الحصول على أي شيء إن هم عجزوا حتى عن التأكيد لذواتهم بأنهم سادة أنفسهم وليس مُلكاً لشخص آخر."

هذا القول هو للقاضي الفرنسي إيتيان ديلا بواتيه (1530-1563) وقد ترجمته عن الإنكليزية ببعض التصرف لإظهار المعنى المقصود.

نستدل من هذا القول أن القاضي الشاب كان نزيهاً وذا نفسٍ كبيرة، وأنه كان مستقلاً في رأيه وقراره فلم يأبه بثروة يجنيها أو مكسب يحققه على حساب حريته.

ويتضح أنه كان يعتبر المساومة على حرية ضميره ضرباً من العبودية، وأن من لا يستطيع الإثبات لنفسه بأنه ليس مُلكاً لأحد لا يستطيع في الحقيقة الحصول على شيء يعتد به، حتى ولو كان ثروة عريضة يدفع حريته ثمناً لها لأن مثل هكذا ثراء يفقد قيمته ويبدو هزيلاً بالنظر إلى طريقة تحصيله.

دامت النفوس كبيرة والضمائر حرة مستنيرة

-----------------

Let others hail the rising sun

I bow to that whose course is run

"دع الآخرين يحتفون بالشمس المشرقة، أما أنا فأنحني أمام من ثابروا حتى نهاية الشوط."

هذا القول هو للروائي ديفيد غيريك (1717-1779) وفيه إضاءة ساطعة كإشراقة الشمس.

الإنحناءة هنا تنم عن احترام وافر، والإحترام هو أجمل ما يمكن أن يقدمه شخص لمستحقه.

إشراقة الشمس هي ظاهرة كونية رائعة، والمثابرة في النهج الصحيح حتى النهاية هي أيضاً ظاهرة إنسانية تستحق الإشادة والتمجيد.

ذات مرة سأل أحدهم مجموعة من الأشخاص ماذا كانوا سيفعلون لو أنهم عرفوا أن فسحة العمر المتبقية لكل منهم لا تتجاوز الساعة الواحدة.

بعضهم قال سيلجأ للدعاء، وآخر للإستغفار، والبعض أنه سيقوم بتوزيع ما لديه على الفقراء والمحتاجين، وهلم جرّا..

لكن أحد أفراد المجموعة ذكر شيئاً مختلفاً تماماً عن الأجوبة التي قدمها زملاؤه، إذ قال: "سأتمم العمل الذي أقوم به."

وهذا يذكرنا بقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

وما استعصى على قوم منالُ .. إذا الإقدامُ كان لهم ركابا

------------

وقفة قصيرة مع نيتشه

هناك قول غالباً ما يتم تداوله وهو "ما لا يقتلني يجعلني أقوى."

وقد تبين لي أن هذا القول هو في الأساس للفيلسوف الألماني ذي الفكر الطموح الجموح فريدريك نيتشه، وقد ورد في الأصل على النحو التالي "ما لا يقتله يزيده قوة."

أتصوره عندما أطلق هذا القول رازحاً تحت وطأة شديدة لقوىً كونية عاكسها فطغت عليه واعتصرته وعجنته، وبدلاً من أن يعيد الحساب ويعود إلى جادة الصواب ازداد عتواً وصلابة في اتجاه اختطه لنفسه ورضي به نهجاً ومنهجاً.

فأفكاره التي تمجد القوة تمجيداً مطلقاً وتهزأ بالمزايا الإنسانية النبيلة لا تنتمي للصرح الإنساني الذي لا يقوم إلا على ركائز ثابتة من القيم السامية والأخلاق النبيلة والإيمان بقوة الخير وسيادة الحق والعدالة.

------------

"قد تتعافى سريعاً من زلة القدم، أما زلة اللسان فقد لا تشفى منها."

هذا القول هو للعالم والمخترع الشهير بنجامين فرانكلين الذين يعزى إليه ابتكار كلمة "كهرباء" وإليه يعود استحداث التوقيت الصيفي.

في هذا القول زلّتان: زلة قدم لا تتعدى صاحب القدم نفسه، وزلة لسان تتجاوز صاحب اللسان إلى شخص أو أشخاص آخرين.

إن أقصى ما قد تتسبب به زلة القدم هو إيذاء الجسم، أما زلة اللسان فقد تتسبب بأضرار معنوية مقصودة أو غير مقصودة.

ومع ذلك فهناك طريقة للشفاء من زلة اللسان وهي بتقديم اعتذار صادق إن كانت غير مقصودة أو حتى إن كانت مقصودة، فيما إذا رغب "صاحب الزلة" بتنقية الأجواء وإعادة المياه إلى مجاريها مع التأكيد على بذل قصارى الجهد لعدم تكرارها.

الإعتذار يلزمه شجاعة لكن للأسف غالباً ما يُقرن في بعض المفاهيم بالضعف ولذلك نادراً ما يعتذر الناس لبعضهم ويفضلون بدلاً من ذلك اللجوء إلى التبرير أو المكابرة أو الإيهام تفادياً للتفوه بكلمة قد تحمل اهتزازاتها ترطيباً لمشاعر وتهدئة لخواطر أو حلاً لمشكلة قد تتطور إلى أمور كبيرة وخطيرة إن هي بقيت دون حل، والشواهد كثيرة.

وقد أبدع الشاعر القروي بالقول:

عجبتُ لحرّ يستحي باعتذارهِ .. وأولى به أن يستحي بذنوبهِ

-----------------

"من لا يُبدي اهتماماً فعلياً بالأشياء الصغيرة، سيبدي اهتماماً زائفاً بالأشياء الكبيرة."

هذا القول هو للناقد الأدبي جون رسكن (1819-1900) وينطوي على دلالات عميقة.

الأشياء الصغيرة كانت تستقطب اهتمام الأديب الكبير عباس العقاد الذي كان يعتبرها ركائز الحياة ومسودات الأشياء الكبيرة.

هذه "المسودات" كثيراً ما لا يلقي الناس لها بالاً ويبدون اهتماماً فيما يعتقدون أنها "نسخ مبيّضة" لكن تلك النسخ غالباً ما تعوزها عناصر جوهرية ومقومات أساسية. وإن تم الركون إليها واعتمادها يحدث تشويش وخلل على أكثر من صعيد والأمثلة كثيرة ويعرفها كثيرون.

الإهتمام الفعلي بالأشياء الصغيرة يعني احترام الحياة واحتفاء بالأسس الحيوية التي لا تقوم حياة متزنة وناجحة بدونها.

ويعني أيضاً تهذيب الفكر وتدريبه على التركيز الدقيق على الجزئيات التي تتكون منها الكليات. أما بخصوص عبارة " سيبدي اهتماماً زائفاً بالأشياء الكبيرة" فتوحي بأن ذلك الإهتمام لا تدعمه تجربة راسخة ولذلك هو اهتمام منقوص لافتقاره إلى ركيزة ثابتة يبقى بدونها أقرب إلى التهالك والإسفاف.

-------------



"وتذكـّر أن الحياة السعيدة لا يلزمها الكثير."

هذا القول هو للإمبراطور والفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس (121-180م)

نادراً ما يكون الحاكم فيلسوفاً والفيلسوف حاكماً كما كان ماركوس أوريليلوس الذي وضع تأملات تصلح لكل زمان ومكان.

فالرجل كان مفكراً عميقاً ونستدل من تأملاته أنه كان أكبر من المنصب الذي شغله، إذ بالرغم من شواغل الإمبراطورية ومتطلباتها الكثيرة كان مع ذلك يستشعر الحاجة لأن يغوص في أعماق ذاته ويستنبط أفكاراً باهرة لا تقل روعة عن أفكار أرسطو وسقراط وأفلاطون.

وبالرغم من الأبهة التي تقترن بلقب "إمبراطور" فقد كان ذلك الحاكم الحكيم محباً للبساطة ومشجعاً عليها، محتفياً بالجمال، متأثراً بروعة النجوم، وكان ينصح الشخص المتأمل في السماء ليلاً كي يشعر بأنه يركض بين النجوم، وهذه فكرة أصيلة تنطوي على إبداع فني وأدبي.

كما كان يؤكد أن القوة الحقيقية هي في العقل لا في الأحداث الخارجية وأن سعادة الإنسان تكمن في نوعية أفكاره، وهو صاحب القول المأثور:

"لا تضع الوقت في الحديث عما ينبغي أن يكونه الإنسان الطيب، كن أنت ذلك الإنسان."

----------------

Some bold adventurers disdain

The limits of their little reign

And unknown regions dare descry

ثمة تجارب جريئة تهزأ بنطاقها الضيق المحدود

وتحاول بجسارة استشراف آفاق مجهولة.

هذه الكلمات هي للشاعر توماس غراي (1716-1771) وتذكرنا ببيتٍ رائع يحث على التحرك والنهوض، هو:

فانهضْ إلى صهوات المجد معتلياً .. فالبازُ لا يرضى إلا عاليَّ الشجرِ.

وفي هذا الصدد يقول شاعرنا الخالد أبو القاسم الشابي:

أرنو إلى الشمس المضيئةِ هازئاً .. بالسحبِ والأمطارِ والأنواءِ

ما أروع الأفكار الجريئة والكلمات المشجعة

التي تستنهض الهمم

وتضخ في العروق دماءً فتية

وتطلق في النفوس شعاعاً من شمس الأمل

وتحفزها على ارتياد مجالات جديدة

وتفعيل طاقات هاجعة

واستكشاف فرص واعدة.

وهنا تحضرني عبارة للمطرب الراحل صلاح عبد الغفور تقول: "الدنيا مليانة أمل!"

-----------------

يقول ا لمفكر دوغلاس جيرالد:

"المشاكل كالأطفال، تنمو بالتغذية."

كل الأشياء الحية يحتاج نموها إلى تغذية، والمشاكل ليست استثناءً، فهي تنتعش وتتقوى وتكبر لدى حصولها على مغذيات فكرية وشعورية.

ولا شيء ينمّي المشاكل كمداومة استذكارها والتركيز عليها دون العمل الجاد على إيجاد حلول لها.

هذا لا يعني ترك المشاكل دون معالجة، إنما المقصود هو عدم تضخيمها بالتفكير المتواصل بها والحديث عنها لأنها بذلك تمتص طاقة التفكير والكلام فتزداد قوة ويصبح من الصعب احتواؤها.

وفي المقابل فإن تجاهل المشاكل ليس حلاً لها، بل يتعين أولاً تحديدها ثم الشروع بالتفكير بحلول ناجعة لها بعيداً عن التوتر والإنفعال غير المجديين، لأن الفكر القلق يشبه المرآة المهتزة التي تبدو فيها الصور مرتجة ومشوهة، أو ماء النبع الذي يتسبب الخض المتواصل له بإثارة العكر، في حين لو ترك وشأنه لبعض الوقت يصفو ماؤه وتستقر الأتربة والشوائب في القاع.

وهكذا فإن الفكر الهادئ هو أكثر قدرة على تشخيص الأمور والتعامل معها على نحو بنـّاء.

--------------

وتمدُّنُ العقل المجرد نكبة ٌ .. إن لم يسُدْهُ تمدُّنٌ روحاني

هذا البيت هو من قصيدة "الناخلة" للشاعر القروي رشيد سليم الخوري.

المعروف عن الشعراء أنهم يعيشون في عالمين متباينين: عالم المادة وعالم الروح.

ففي حين يعيشون في هذا العالم الذي عبّر كثير منهم – كل بطريقته الخاصة – عن قيوده المكبلة لطموحاتهم السامية وتطلعاتهم البعيدة، فإنهم غالباً ما يحاولون الإفلات من الجاذبية الأرضية بإطلاق مشاعرهم وأفكارهم في أثير الروح الذي يلتمسون فيه منفسحاً رحباً لإبداعاتهم والإعراب عما يعتمل في نفوسهم ويختلج في صدورهم.

لقد عاش الشاعر القروي لسنين طويلة في المغترب الجنوبي، في مدن كبيرة، ولا بد أنه أعجب بنتاج العقل الإنساني في مضمار الحضارة والتمدن، وكان مع ذلك يتمنى لو أن الرقي المادي يقوم على أساس روحي فتكتمل العناصر الحضارية بتكامل شقيها المادي والروحي، وهو القائل:

"... وقد يتجسّم شعوري بصِلة القربي بيني وبين هذه الأكوان فأنعطف على الشجرة أعانقها، والصخرة أضمها، والزهرة أناغيها... وأمد ذراعيَّ إلى السماء أحييها وأبعث إلى الشمس بقبلاتي على أطراف بناني...

"وقد تسكن نفسي المضطربة في المدينة إلى عشبة خضراء بجانب الطريق، فأقف عندها، أو أمشي متمهلاً حذاءَها، شاكراً لها إحساناً غير مقصود."

جميلٌ بيتك يا شاعرنا الرقيق، ولا زلت أذكر بيتاً آخر لكَ حفظته في بواكير العمر، وهو:

"نقشتُ في الشمسِ طغرائي وما برحتْ .. مرسومة ً في جبين البدر أختامي."

أجل.. إنها طغراء أشواقك التي نقشتها في شمس الحياة، وأختام وجدانياتك التي رسمتها على جبين بدر الروح الإنسانية..

فتحية لروحك الشاعرية يا شاعر الروح.

---------------

استراحة

أجل.. سأوافيك

بعد قطع بيداء البعد

وصعود جبل التحدي

والانطلاق فوق مهاد الأشواق

إلى ما وراء المعالم المألوفة.

هناك..

بالقرب من منتجع الشاطئ اللازوردي

سأحط الرحال

وألتقيك في بستان الروح والريحان

في قلب الجمال..

عند نبع الحنين..

فإلى لقاء.

----------------

"دمِّروا بذرة الشر قبل أن تنمو وتدمركم."

مثل صيني

أنه لقول ينطوي على حكمة عريقة مستقطرة من تجربة أو تجارب موثوقة ومعروفة النتائج، وهو قريب إلى حد بعيد من المثل العربي "الشر شرارة".

هي بذرة من حيث المفهوم والوظيفة لكنها ذات طبيعة غير مادية ولذلك ليس من السهل الإمساك بها وسحقها أو حرقها أو دفنها في سرداب لا يتيح لها الإنتاش والإنتعاش.

ويا لها من بذرة على قدر كبير من القوة والجموح كذاك المارد الذي إن خرج من القمقم يصبح من الصعب السيطرة عليه وإعادته إلى سجنه الزجاجي الضيق، فما عسى أن تكون تلك البذرة؟

إنها فكرة ناشزة تشحذها وتشحنها مشاعر ونوايا من ذات طبيعتها، ولها القدرة على النفاذ إلى بُعد يصطخب بأمواج متلاطمة من طاقات غير توافقية تزيدها قوة، فتوقظ أحقاداً دفينة وتفحّ كراهية سامة وتستولد طمعاً مرذولاً وتنسِل أنانية شوهاء.

ولا يقوى على تلك البذرة سوى بذرة الخير التي هي خير بذرة لمن يرغب بأغراس كريمة ومحصول مبارك في هذه الدنيا.

May, 2015

---------------

" الأصدقاء يرافقوننا بالرغم من غيابهم عنا."

هذا القول هو للفيلسوف والمشرع والخطيب الروماني شيشرون المتوفى سنة 45 ق.م

نستدل من هذا القول أن الرجل كان يؤمن بالصداقة ويعطيها حقها من التكريم والوفاء، ويحب أصدقاءه ويختصهم بالمودة والإعزاز.

ولشدة محبته لأصدقائه فلا بد أنه كان يفكر بهم أثناء غيابهم، وربما كان يتشوق إليهم أيضاً لدرجة أنه كان يشعر بتواصل وجداني معهم فيحس بحضورهم بالرغم من بعدهم عنه.

أحسنت قولاً يا شيشرون!

وها نحن نستشهد بقولك ونذكرك بإعجاب لأنك كنت وفياً لأصدقائك، محباً لهم، ولعلنا نقول ببعض التصرف:

قال شيشرونَ قولاً

حبذا القول الفصيحْ

إن (شخصاً) بلا (خِلٍ)

جسدٌ من غير روحْ

-----------

هل كان شكسبير يناجي ذاته العليا؟

في مسرحية الملك لير نقرأ الفقرة التالية:

أنتِ روحٌ تنعمين بالغبطة

في حين أنني مقيدٌ بعجلة نارية

ودموعي تحرقني كالرصاص المذاب.

لقد كان شكسبير مصدراً ثراً للأقوال المأثورة والحكم البليغة، وكان مبدعاً إلى أقصى حدود الإبداع في رسم مشاعره وتصوير أفكاره والإعراب عما كان يعتمل في نفسه.

ولو لم يكن على دراية وثيقة بطبيعته الإنسانية لما استطاع فهم الآخرين وتشخيص حالاتهم النفسية بتلك الدقة التي تبعث على الإعجاب.

وفي تقديري أنه كان يلجأ إلى التمويه، فينثر شذرات تجاربه الذاتية في تضاعيف نصوص مسرحياته وأشعاره دون الإيحاء للقارئ بأنه يتكلم عن نفسه.. لكن:

هذه آثارهم تدل عليهم ... فانظروا بعدهم إلى الآثارِ

وفي الفقرة أعلاه يبدو وكأنه يناجي ذاته العليا التي ربما كان يدرك أنها متحررة من قيود تكبل كيانه وتشده إلى دولاب التجارب الكاوية التي أحالت دموع قلبه إلى رصاص ذائب أحس بثقله وحرارته فعبر عنه بتلك الكلمات المؤثرة والمثيرة للمشاعر.

--------------

"من مِنا لم يحتفظ بشيء قد يبدو لا قيمة له مع أنه يفوق الجواهر النادرة قيمة ً.. كأوراق ورد مجففة .. أو كخاتم .. أو خصلة من الشعر!؟"

هذا القول هو من قصيدة للشاعرة ألين كليمنتاين هورات (1827-1899) تحتفي بحبٍ استوطن القلب ذات يوم وبقيت آثاره الملموسة تستعيد طيفه العذب وذكرياته الأثيرة.

أوراق الورد المجففة كانت قد لامست قلب عميد الأدب العربي طه حسين، وربما استدرت مدامعه، عندما كانت تأتيه ضمن رسائل من وراء البحار وكأن ذرات تلك البتلات اليابسة قادرة على اختزان عنصر رقيق شفاف يدعوه الناس حباً.

وكذلك الخاتم الذي ربما رمَزَ إلى حلقة من أحاسيس صادقة لا نهاية لها.

أما خصلة الشعر، فقد تحمل اهتزازات مميزة مما يجعل مرآها وملمسها يستحضران آفاقاً رحبة من مشاعر عزيزة أقوى من النسيان.

----------------

"لا يخلو رخاء العيش من المخاوف والكوارث، ولا تخلو المصائب من الراحة والأمل."

هذا القول هو للفيلسوف التجريبي فرنسيس بيكون (1561-1626) الذي لا بد أنه استند في قوله هذا إلى تجربة شخصية.

يستدل من القول أن الرجل كان في رغد من العيش ومع ذلك لم يكن محصّناً إزاء الهموم والتحسيبات من ناحية، ومن مفاجآت الأيام وضربات القدر من ناحية ثانية.

وقد نستنتج أيضاً أنه اختبر الحظ العاثر فتعمق في تفكيره وحاول جاداً فهم الحياة على نحو أفضل، فأبعده ذلك التفكير المعمق عن شواغله وهمومه، وربما أحس نتيجة لذلك الإبتعاد بطمأنينة نفسية وأدرك ببديهته أنه لا زال في الدنيا أمل بتغير الأوضاع وتحسّن الأحوال.

-----------

قال المخدوع بنفسه: أنا ابن جلا.

وقال حديث النعمة: لا سبيل للرفعة إلا بالغنى.

وقال المتسلط: القوة فوق الحق.

وقال المتواكل: ما أنصفتني الأيام.

وقال المتذاكي: الضحك على الذقون فن.

وقال المتصيد في الماء العكر: القنص موهبة.

وقال الإمعة: ضع رأسك بين الرؤوس.

وقال الحاسد: لا يستحق النعمة غيري.

فرد المستيقظ قائلا: انهضوا يا قوم فقد أسرفتم في النوم!

-------------

تورغنيف والمعدم

ذات مرة، بينما كنت سائراً في الطريق استوقفني فقير مسن، عاجز، وعلى وشك السقوط.

كانت عيناه الدامعتان محتقنتين دماً وكانت شفتاه مزرقتين وجروحه متقيحة، أما ملابسه فلم تكن سوى أسمالٍ رثة.

آه! تباً للفقر المدقع الذي نهش هذا الكائن البائس نهشاً!

مدّ إليّ يداً محمرة، متورمة، وقذرة، وراح يئن ويتمتم ملتمساً العون.

وعلى الفور رحت أفتش في جيوبي فلم أجد شيئاً.. لا محفظة نقود ولا ساعة، بل لم أجد فيها منديلاً، إذ لم آخذ معي شيئاً!

وكان الشحاذ لا يزال ينتظر، وكانت يده الواهنة تهتز وترتجف.

وإذ أصبت بالإحباط وأسقط في يدي، أمسكت يده المتسخة وهززتها بحرارة وقلت له:

"لا تؤاخذني يا أخي.. ليس معي ما أعطيه لك يا أخي."

حدجني الشحاذ بعينيه الحمراوين، وانفرجت شفتاه الزرقاوان عن ابتسامة، وبدوره شد قبضته على أصابعي الباردة، وتمتم قائلاً:

"ما عليك يا أخي! شكراً عل هذه المصافحة، فهي أيضاً هدية يا أخي."

وقد شعرت أنني حصلت بالفعل على هدية من أخي!

Turgenev

---------

ما وراء سلسلة الجبال الزرقاء:

قرأت هذه القصة منذ سنوات في مجلة معرفة الذات، ومع أنني لا أذكر كل تفاصيلها لكنني احتفظت بالفكرة الرئيسية في ذهني وها أنا أرويها لكَ يا قارئي العزيز ببعض التصرف.

عندما بلغ أحد زعماء الهنود الحمر مرحلة متقدمة من العمر وشعر بدنو الأجل، اختار ثلاثة من رجاله ووضعهم قيد الاختبار لانتقاء أحدهم لخلافته في زعامة القبيلة؛ إذ طلب منهم البحث عن سلسلة الجبال الزرقاء والعودة إليه ليصفوا له كل ما رأوه في طريقهم وما اعترض سبيلهم من الصحاري والصخور والوديان الضيقة والأنهار والمرتفعات والخوانق أي الأودية العميقة التي في أسفلها أنهار، ثم ودّعهم وطلب من الروح الأعظم كي يرافقهم ويعيدهم إليه سالمين على أمل لقائهم بعد عودتهم الموفقة.

انطلقوا كل في اتجاه، ومضت أيام وأسابيع على رحيلهم، عبروا خلالها مساحات شاسعة ورأوا سلاسلَ عديدة من الجبال ظنوا بعضها أنها سلسلة الجبال الزرقاء التي يبحثون عنها، ولكن كانوا كلما اقتربوا منها برزت أمامهم سلاسل تلوها سلاسل إلى ما لا انتهاء.

أخيراً عندما وصل أحدهم إلى نقطة معينة من تجواله يكثر فيها نبات الشيح والقيصوم قال بينه وبين نفسه سآخذ معي غُمراً (ربطة) من هذا النبات وأعود إلى الزعيم مؤكدا له أنني أتيت بها من وراء القمم الزرقاء. فيمم وجهه شطر القبيلة وعاد برأسه ريشة يحدوه التفاؤل والأمل في أن يصبح الزعيم الجديد لقبيلته.

وعندما أصبح على مقربة من القرية راح يحدي ويهزج على طريقة الهنود الحمر ويرقص رقصة النصر إلى أن وصل بيت الزعيم فسلـّم عليه أمام الحاضرين الذين كانوا في انتظار عودته، ووضع كومة النبات التي جففتها حرارة الشمس أمام الزعيم، وشرع بالوصف بهمة وحماس، لكن الزعيم قال له لا حاجة لك بأن تخبرني شيئاً، فأنا أعرف إلى أين وصلت بالضبط من هذه الكومة التي وضعتها أمامي.

أقول لكَ أنك بلغت المستنقعات المالحة وقطعتها بعدة فراسخ، وجُزتَ بمحاذاة التلال الأرجوانية، بل وقطعت وادي الكهوف بمسافة قصيرة ولم تتقدم بعدها ميلا واحداً، ولذلك لم تبلغ الجبال الزرقاء. فلم يكن أمام صاحبنا الطامح إلى الزعامة الروحية والدنيوية إلا الصمت لأن كل ما قاله الزعيم كان عين الصواب.

بعد عدة أيام رجع ثاني الثلاثة ومعه قطع من صخور زرقاء فريدة التكوين ذات بريق خاص لم يكن قد رأى مثيلا لها في حياته. فوضعها أمام الزعيم على أساس أنها من وراء الجبال الزرقاء. ولكن ما أن نظر إليها الزعيم ببصره الثاقب وتحسسها بيده حتى قال: المسافة التي قطعتها كانت أطول بخمسين فرسخاً من التي قطعها صاحبك الذي أتانا بالشيح والقيصوم. لقد اجتزتَ الوادي الكبير وقطعت الصحراء الغبراء، بل أنك اجتزت سبع سلاسل من الجبال الضارب لونها إلى الأزرق، وعبرت النهر العريض وتسلقت صخور الغرانيت والصوان، ووصلت إلى المنفسح الكبير ذي الشلالات الهادرة، ولم تتقدم بعدها فرسخاً واحداً. لقد اقتربتَ من الجبال الزرقاء ولكنك لم تصلها ولم تجتزها لتبلغ ما وراءها.

وكصاحبه الأول لم يحر ِ جواباً لأن كلمات الزعيم جاءت مفحمة ودامغة لا يمكن الرد عليها أو تفنيدها إطلاقا. فالتزم الهدوء وأدرك أنه لم يفلح في مهمته.

وبعد أسبوع رجع الرجل الثالث لا يحمل شيئا، ولأنه لم يجلب معه شيئا فلم يضع أي شيء أمام الزعيم، بل ولسبب ما عجز عن النطق ولو بكلمة واحدة.

وما أن تفرس الزعيم في عينيه حتى قال له أمام الحاضرين: لا حاجة لك أن تأتي لي بعلامة ولا حاجة لأن تخبرني عما رأيته لأنني أرى كل شيء مرسوما بجلاء ووضوح في عينيك.

وأؤكد لكَ ولكل الحاضرين هنا بأنك بلغت سلسلة الجبال الزرقاء بل اجتزتها وبلغت ما وراءها وأبصرت المحيط القابع خلفها. أجل، أرى المحيط بأمواجه ومده وجزره وقواه وعظمته وامتداده اللامحدود في عينيك، وأحس به ينبض في كيانك وكأنك أصبحت واحداً معه.

أنت الذي اجتزت الإمتحان وحققت أملي وأحلامي بخلافتك لي. والآن أستطيع أن أمضي قرير العين إلى الأرض السعيدة حيث الآباء والأجداد وأقابل الروح الأعظم، عالماً في أعماق نفسي بأنني سأترك القبيلة في رعاية رجل أمين ومؤتمن وصل إلى المحيط الكبير ولامس مياهه فتبارك بالرؤية وأصبح كفؤاً للزعامة.

وما أن نطق بهذه الكلمات حتى أسلم الروح وحل مكانه الزعيم الجديد الذي ارتاد القمم الزرقاء وأبصر بأم عينه المحيط الأعظم

------------------

ألوان الكلام

--------------

تصورت أن للكلام ألواناً توافق حالات معينة فكانت هذه القائمة:

هناك كلام أبيض، باطنه كظاهره شفاف، لا يحتاج إلى تبطين.

وكلام أخضر يوحي بالتشجيع والانتظار المثمر.

وكلام أزرق يحاكي مواسم المشاعر ويجدد الآمال.

وكلام ذهبي رخيم له رقة النسيم وحلاوة العسل.

وكلام بنفسجي ينم عن تواضع فطري لا تصنّع فيه.

وكلام أصفر بحاجة إلى شحنة مقويات منشطة.

وكلام أسود ينطوي على ملغزات ومحاذير.

وكلام برتقالي يطلق ذبذبات من البهجة والحبور.

وكلام أحمر قانٍ، مدبب الحروف وذو انحناءات سيفية.

وكلام لا لون له ولا طعم ولا نكهة.

وطبعاً هناك ألوان الظلال وظلال الألوان

والقائمة قد تطول.

تحية بلون قوس قزح

------------

أيتها المتوجة ببسمة الشمس

الرافلة بحلل الحسن الآسر

والمختّمة بدراري الروعة الباهرة..

يا ذات الشذا المنتشي

والرؤى المرصعة بوميض المعاني السابحة..

لطالما شنفتْ مسامعي نغماتـُك الهامسة

ولامست أحاسيسي رقتك الحانية

وصافحتْ تعبيراتـُك التي لا تتكرر عينيَّ

فشعرتُ بدفء غامر

منبثق من وهج حضورك السديمي..

ولطالما شهدتْ لقاءاتنا أغوارُ القلب

وأعماقُ الأعماق.

----------

وقفة مع قاضٍ نزيه

إنه القاضي والأديب المصري حسين عفيف (1902-1979) الذي قال فيه المفكر لويس عوض ما يلي:

"قيل كان قاضياً كفئاً لم ينقض له حكم واحد في محكمة واتخذت أحكامه مرجعاً.

قيل كان قاضياً نزيهاً لا يأذن لمحامٍ مهما علا قدره أو طال جاهه أن يزوره إذا كانت بينهما قضية موضع نظر.

قيل كان مفتشاً أميناً لا يخالط زملاءه من القضاة الذين يفتش في أحكامهم خشية أن يجاملوه في الحياة فيجاملهم في العمل.

قيل كان قاضياً إنساناً يتعذب من أجل الخطاة الذين يَمثلون أمامه إن كان زللهم من شدة الفقر أو لأسباب تفوق احتمال البشر..."

رحمه الله

المصدر: حسين عفيف – المكتبة الثقافية – نبيل فرج.

-------------------

وجه السلام

----------------

عبثاً بحثَ عن السعادة

عبر سنين من السعي المحموم

الذي لم يجلب له سوى الهموم

والحزن المضني والدمع المرير.

فأحنى رأسه، وبقلب أثقلته الأعباء

رفع صوته للعلاء

وهمس مناجياً:

"اعتبرني فاشلاً يا رب، فقد أخطأتُ الهدف

الذي بحثتْ عنه نفسي الجزوعة بشوق وشغف

فلم أعثر على الطريق المفضي إلى السعادة

وها قد ضعف بصري وتقدمت بي السنون

لكن يا رب، قبل أن ترجع نفسي إليك

اهدني إلى الدرب الذي يقود إلى السلام

كي أترسّمه وأدلّ المتعبين عليه.

في ذلك اليوم انزاحت صخرة الأنا

التي حجبت عنه رؤيا الدرب المبارك

فنهض وقد زالت غمته وغمرته نشوة الروح

وأبصر وجه السلام العذب البديع

الذي يجل عن الوصف.


من سيمفونيات الروح

RE 2-22

--------------

تلك وذلك .. قواسم مشتركة!

تلك الدروب المتشعبة المفضية إلى ملتقى الفهم الودي

وذلك الصدق البريء الذي يحاكي بسمة الرضيع

وتلك التجاذبات الموجية المتناغمة التي لا تتكاثف في سمائها غيوم الإستئثار الثقيلة

وذلك الوفاء الذي لا متسع فيه للّعب على الحبال

وتلك الأعماق التي تخشاها وتتحاماها تماسيح الانتهازية

وذلك الإيمان الوطيد الذي لا تهز جباله الرياح والتقلبات

وتلك العرى الوثيقة التي تعجز شفرات الأنا عن تقطيعها

وذلك الفرح الباسم بالعثور على من نستأنس بهم ونقاسمهم ثمار المهجة

وتلك الإنطلاقة الواثقة في فضاءات النفوس النبيلة..

هي القواسم المشتركة للصداقات الدائمة

------------

إرادة فاعلة

تلك النبتة التي تطمح إلى اكتمال نموها لتصبح شجرة تنشر ظلها وتستقطب إليها ذوات الجناح كانت بذرة صغيرة لم ألحظها عندما وضعتُ الحجر فوقها قبل بضع سنين في حديقة المنزل، لكن جرثومة الحياة في قلب البذرة لم تشأ الإستسلام لقدر بدا محتوماً، فكانت واسعة الحيلة بما يجنبها الإندثار و يضمن لها الإستمرار.

ولحسن حظها احتوى الحجر على ثقب دقيق تسللت صعوداً من خلاله لتصافح النور وتبتهج بنيل الوطر، ولو تسنى لها تلخيص تجربتها بكلمات فلربما قالت:

إذا النبتُ يوماً أرادَ الحياة .. فلا بد أن يستجيبَ الحجر.

----------------

أيها الفراغ الزاخر بروائع المفاجآت

أيتها الوحدة المؤنسة التي ترهبها الوحشة

أيها التفرد القاطن في أعالي الذرى

أيتها النظرة التي تعشق الأبعاد البعيدة

أيها السكون الأبلغ من النطق

أيتها البساطة الأعلى شأناً من الأمجاد الواهية

أيتها الخيوط الرفيعة التي تنتظم حبات القلوب الطيبة

أيها الخروج المشرّف من أقفاص الأنانية

أيها الإصرار الجريء البريء

أيتها الأحلام الذهبية الأشد وضوحاً من اليقظة

تحية إكبار.. واعتبار.

-------------

قالت: لكم تتوق نفسي إلى ارتياد

منتجع الأنغام والسلام

والمضي إلى حيث لا تنفلت الغرائز

ولا يبدو كل شيء جائز..

إلى حيث لا تـُهمَّش المبادئ

ولا تهب رياح الضغائن

ولا تستشري شرور الكراهية

ولا تنقلب الأوهام حقائق

ولا يتبختر الصلف الموبوء

ولا تختل الموازين وتنكفئ القيم

ولا تنتعش بضاعة الغرور

في أسواق البهتان

ولا ينشط حب التسلط

ولا يتلاشى الحد الفاصل

بين الحق والباطل..

فإنني أنشد الراحة

أو بعض استراحة.

----------------

أيها القلب المُحب لك الحب.

أيها القلب الجريح لك الشفاء.

أيها القلب المتصلب الجاسي لتخترقك مياه الرقة.

أيها القلب الشكور الصبور دمت نبيلا.

أيها القلب الشجاع ما أروعك!

أيها القلب الصافي دام نبضك النقي.

أيها القلب الحزين لك العزاء.

أيها القلب الجزوع سكنتك الطمأنينة.

أيها القلب الوفي أنت المثال.

أيها القلب المتقلب استقر بك الثبات.

أيها القلب الكبير ما أجملك!

أيتها القلوب الطيبة تحية من القلب.

---------------

أيتها الصحيفة..

يا صحيفة الحياة الفردية

الملازمة أبداً لكل نفس على هذه الأرض..

إنكِ لمكنز الأفكار والأفعال والمشاعر والنوايا

المرقومة بتفصيل مذهل ودقة متناهية

تفوق دقةً وتفصيلاً أكثر السجلات والوثائق أهمية..

الرقمية منها والورقية.

إنك لشاهد صدق وإفادتك لا تدحض

في تقييم الأعمال وتحديد الصيرورة والمآل.

محتوياتك التي تعصى على الطمس والتحوير

ليست بحاجة لتفسير وتبرير.

إن قلم الحقيقة ليدوّن سطورك بصمت

والكلمات التي يدونها صريحة واضحة

لا تقبل التأويل

وعليها التعويل

في المستقبل العتيد.

---------------

Solid as eternal rocks

ثابت كالصخور الأبدية

لطالما استـُخدم الصخر في التشبيه التمثيلي نظراً لبنيته الصلبة وتركيبته المحكمة وتماسكه العجيب وثباته لمحك الزمن.

فهناك عبارات مثل:

"كجلمود صخر" و "صخر الدهور" و "بيت مؤسس على الصخر" و "النقش على الصخر" و "قلب كالصخر" و "يُبكي الصخر"

وفي الآية الكريمة ( وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ )

هناك ظواهر قليلة نراها الآن مثلما رآها كل الذين عاشوا على هذه الأرض من قبلنا، كالشمس والقمر والنجوم والصخور.

ومن هنا تحتل الصخور مكانة فريدة في الطبيعة نظراً لقوتها وصلابتها وترابط جزيئاتها.

المأثور عن شاعر الصين الأشهر وانغ ويه أنه "رسم صورة على صخرة تلبية لطلب الأمير تشي"، وهناك مراسيم الملك آشوكا وغيرها من المعالم الصخرية التي مضى عليها آلاف السنين دون أن تعبث بها أيادي الزمن.

كما أن للصخر قابلية البقاء تحت سطح الماء لآلاف السنين دون أن يخترق الماء قلبه، وهذا في تقديري أفضل رمز لثبات القلب على مبدأ مهما تقلبت الظروف وتبدلت الأحوال.

April, 2015

--------------

Stood like some erring angel that had lost his radiance

"وقفَ كملاك خاطئ فقدَ تألقه"

هذا القول هو للروائي الفرنسي الشهير بلزاك، وقد يكون خياله الخصب أوحى له تلك الصورة ليصف شخصاً بدا له أنه فقدَ مكوناً جوهرياً من شخصيته فتسبب ذلك الفقدان بملاشاة تألق كان ملازماً له ثم اختفى لسبب من الأسباب.

بإمكاننا التخمين أن بلزاك رأى ذلك الملاك بعين الخيال على الأقل.. رآه في حالتين مختلفتين: قبل فقدان التوهج وبعده. في الحالة الأولى بدا إشعاعه قوياً لا تخطئه العين، وفي الثانية رأى ظلاً قاتماً يغلفه بدل الهالة المشعة التي كانت تميزه.

وعليه، فإن الشخص الذي وصفه بلزاك لا بد أنه عرفه عندما كان كيانه يفيض بِشراً وحيوية وعافية - وهذا ما نبصره في الأطفال الأبرياء الذين غالباً ما تكون أفكارهم نقية ونواياهم صافية وطاقاتهم غير مهدوره - ثم أبصره ثانية وقد غاض ماء الحياة من محياه وفارقه لمعان مرئي ليصبح أثراً بعد عين.

وقد يكون بلزاك عاين وعنى شيئاً آخر.

-----------

"أيتها الزهرة... لو عرفت كل شيء عنك، لعرفت الله."

هذا القول هو لشاعر البلاط ألفريد تنيسون (1802-1892) الذي كان الشاعر الأشهر والأكثر شعبية من بين شعراء العصر الفيكتوري.

رأى تلك الزهرة نابتة في صدع جدار فقطفها وخاطبها بتلك الكلمات.

ربما أوحى له منظرها البديع وملمسها الرقيق أشياء كثيرة حار بها فكره فأدرك مدى قصوره المعرفي وبالتالي عجزه عن إدراك الحقيقة العظمى.

وكشاعرٍ، فقد لمس بها ما حرّك مشاعره ورأى فيها جمالاً أثيرياً، وقد يكون تنشق أيضاً عبيراً عذباً فضلاً عن ملاحظته لتصميم متناهي الدقة، فعرف أنها نتاج عقل يفوق الإدراك البشري، وأنه لو تمكن من معرفة كل شيء عن تلك الزهرة النحيلة لاتسع نطاق وعيه ولأصبح أكثر قدرة على فهم ما لا يمكن إدراكه عن طريق الحواس.

------------

“All the darkness in the world cannot extinguish the light of a single candle”

"لا يمكن لكل الظلام في العالم أن يطفئ نور شمعة صغيرة واحدة."

هذا القول يُعزى للقديس افرنسيس الأسيزي الذي قابل في عام 1219 م السلطان الكامل الأيوبي في دمياط بمصر وخطب في حضرته، فأعجب به السلطان كثيراً وعامله معاملة طيبة للغاية، ملؤها الإحترام والتقدير وأوصى به خيراً.

الشمعة هنا ترمز إلى الفكرة النيّرة والكلمة الطيبة والمحبة النقية والمعاملة الإنسانية.

هذه العناصر اللامادية هي ذات إشعاع ذاتي متجدد لا قدرة للظلام مهما احلولك وتكاثف على إطفائه لأنه من مصدر غير قابل للتلاشي.

-----------

"رموا قبعاتهم ... وراحوا يهتفون زاعقين"

هذا القول هو لشكسبير، ويمكننا التخمين بأنه رأى هذا المشهد دون أن يشارك في الهتاف لأن كاميرا عقله كانت منهمكة آنذاك في تصويب عدسة فكره على المشهد ليلتقطه كصورة ذهنية يحفظها في أرشيف الأجيال، وها نحن نقف عندها بعد التقاطها بمئات السنين.

لقد رصد شكسبير لنا الوعي الجمعي، ونستنتج أنه لم ينخرط فيه بل آثر بدلاً من ذلك استخراج روائع وبدائع من منجم عقله ما زالت تنطبق على كل الظروف والأزمنة لأنها مستوحاة من الطبيعة الإنسانية.

لست هنا بصدد نقد الهتاف بل تحليله. فهو كثيراً ما يكون عفوياً لتأييدٍ أو تمجيد، أو لإيصال مطلب حيث تتجاوب معه كل الجوارح، لا سيما إن تعزز بمئات وألوف الأصوات، وهو إلى ذلك سريع العدوى أو لنقل الإنتقال ويحدث فقط وسط الحشود، ولا أظن أن أحداً سيهتف لو علم بأن الآخرين لن يشاركوه في الهتاف، ولو فعل لبردت همته ولارتسمت على وجهه علامات الاستغراب.

معروف أن الهتاف يستدر الحماسة ويستقطب الطاقات فيشعر الهاتفون أنهم يزدادون بذلك قوة وعزة. ولعل السبب مرده التركيز الكلي والتأكيد القاطع حيث يحدث اندماج بين الإنتباه والإرادة، وهذا الإندماج يمكن استحداثه دون هتاف وقد تكون النتيجة أجدى فيما إذا تم وضع طاقة التركيز في قنوات مناسبة بحيث يمكن حفظها واستخدامها على نحو مُجدٍ دون هدر أو تبديد.

----------------

طول البال يهد الجبال

يبدو أن القول مبالغ فيه، إذ لو كان "الزلزال يهد الجبال" لكان أقرب إلى الواقع، لكنه تعبير مجازي ينطوي على معنى عميق.

الجبال هنا هي جبال الهموم والقلق والخوف والبلاء والمحن التي تبدو راسخة في الفكر، ثقيلة على القلب، متمركزة في النفس بحيث يصعب التصور أن بالإمكان أزاحتها والتخلص منها.

وطول البال هو التعامل بفطنة ودربة مع تلك الكتل اللامادية الضخمة التي تضغط بكلكلها فتقض المضاجع وتوقظ المواجع.

وهذا التعامل الحصيف هو بمثابة شعاع قوي إذا ما سُلط على نحو متواصل على تلك الجبال التي هي أشبه ما تكون بسحب ركامية على هيئة رواسخ شامخة فإنه يبددها تبديدا ويلاشي تشكلها من سماء الفكر.

-----------------

عملاقا ذاكرة: العقاد و فيفيكانندا

الماثور عن الأديب الموسوعي عباس محمود العقاد أنه كان حجة في كل موضوع يطرقه، إذ كانت تخدمه ذاكرة جبارة يمكننا أن نسميها ذاكرة ضوئية أو شبه ضوئية اختزنت كل أو معظم ما قرأه من كتب بلغ عددها قرابة الستين ألفاً بحسب تصريح منسوب له.

وكان إن أراد أن يستشهد بقول أو نص أو بيت شعر يذكر الكتاب ورقم الصفحة وأحياناً موضع السطر من الصفحة، على نحو مذهل.

ولذلك لم يستطع أحد أن يباريه أو يجاريه في هذا المجال باستثناء عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان بين الحين والآخر يخوض معه معارك أدبية من العيار الثقيل لا تخرج عن نطاق أدب الحوار والإحترام المتبادل مع أن مناظراتهما مع أدباء وعلماء كبار آخرين كانت في بعض الأحيان تتخذ منحىً حاداً وتـُستخدم فيها كلمات قاسية.

وسوامي فيفيكانندا كان أيضاً يتمتع بذاكرة لاقطة لا تفوتها شاردة ولا واردة، بحسب القصة التالية:

ذات مرة كان سوامي فيفيكانندا يقرأ في دائرة المعارف البريطانية، وقد لاحظ أحد تلاميذه المجلدات الأربعة والعشرين فقال: "من الصعب استيعاب كل محتويات هذه المجلدات العديدة في حياة واحدة."

ولم يكن يعلم أن السوامي قد انتهى بالفعل من قراءة المجلدات العشرة الأولى منها وشرع بقراءة المجلد الحادي عشر.

فأجاب السوامي: "ماذا تقصد؟ إسألني عن أي شيء في تلك المجلدات العشرة وسأخبرك كل شيء عنه."

وبدافع الفضول أحضر التلميذ المجلدات وسأل السوامي أسئلة عديدة حول مواد وموضوعات صعبة ومعقدة، اختارها من مجلدات مختلفة، فأجاب سوامي فيفيكانندا على كل منها بدقة وشمولية لا تترك زيادة لمستزيد، بل في كثير من الأحيان كان يقتبس نفس الكلمات المدونة في المجلدات.

أليس العقل الإلكتروني من مبتكرات العقل البشري؟!

----------------

بينما كنت أتمشى بين الروابي الناضرة والأودية المعشبة، متنقلاً بين الأشجار والأزهار، أبصرت الحياة تلهو وتمرح.

أبصرت إشعاعاتها الذهبية في قرص الشمس، ورأيتها تتوارى في خمائل السحاب.

سمعتها تقهقه في السواقي المبتهجة وتذرف الدمع سخياً من زخات المطر.

رأيتها تتمايل في أغصان الأشجار والأقاحي ترقص معها فرحاً.

سمعتها تصدح في زقزقة العصافير وشدو العنادل، ورأيت ظلالها تغلف المنحدرات

وطلـّها يرطب قلوب الورود ويقبل وجناتها.

أبصرت الحشائش الندية تتشبث بأقدامها مثلما رأيتها ترش أعشاب الحقول بقطرات الحب البليلة فتزيدها نضرة ورواء.

وشممت أنفاسها العاطرة محمولة على أنسام الصباح.. وأحسست بسلامها.. ورأيت يديها تنثران البركات في كل فج وصقع.

فما أروع الحياة وما أعذب السير معها يداً بيد على دروبها المباركة!

East-West Magazine

----------------

وراحت تهمس على ضوء القمر:

قد تبدو أبعدَ بقليل أو كثير من حدود الكون

لكن خطوتك تظل أسرع من وثبات الفكر

وقد لا يشي المجهول بوجودك

لأنك ما وراء المجهول والمعلوم

وقد تبتلع أودية الصمت النداء تلو النداء

لكن الوديان على عمقها

ليست سوى تلافيف دقيقة في ذاكرتك

وقد يلقي النوم بثقله وتنشط الغفلة

لكن صولجان يقظتك السحري

أقوى من الغفلة والنوم

وقد تبدو الدنيا قحطاً وبوار

لكن مغانيك البهية دائمة الاخضرار

وقد يبدو المجهود نفخة في رماد

لكي جمرك الحي أبديّ التوهج والإتقاد.

----------------

عندما يُدرك الجوهر الأكثر بعداً عن الزلل والزوال

ويُلمس المستكمَل غير القابل للزيادة أو النقصان

ويُبلـَغ الظفر العصي على الإخفاق

ويتم التحقق من الاعتبار الذي يفوق كل اعتبار

وتُعرف الماهية الأكبر من الحياة

ويُعطى الضمان الأرسخ من الراسيات

وتكتحل العين بعين الحقيقة

ويُعثر على الكنز الأثمن من التيجان

وتـصافَح اليد غير المنظورة

ويُلمس السرمد الأطول من الزمان

تكون المسيرة قد قاربت المشارف

------------

سمعنا عن البلورة السحرية وقدرتها على التقاط صور بعيدة و قريبة، والإنباء بأمور عجيبة، وقد تكون هي نفسها مرآة القلب التي عندما يصبح سطحها نقياً من الغبار الكثيف، ساكناً لا يهزه الإرتجاج العنيف، تظهر الكثير.. الكثير.. تعكس الأشياء على حقيقتها.. وتلتقط المنظور والمستور ومن هنا القول المأثور: "قلبي دليلي!"

أجل، هذه المرآة دليل أمين وشاهد عدل لا يزوّر الحقيقة بل يخبر بما يعرف دون زيادة أو نقصان. وقدرة هذه المرآة تتوقف على نظافتها وصفائها. فإن خلا سطحها من غبار النوايا المبيتة ولم تحجبه لطخات الأنانية تـُظهر بكل جلاء نجومَ محبة مشعشعة، ووردَ دوافع نبيلة، وأغوارَ ثقة عميقة، وأنوارَ صداقة وثيقة، وأخلاقاً فاضلة، ومستوياتٍ راقية، وفوارق دقيقة، ومشاعر رقيقة، وأشياء أخرى متوارية في مجاهل النفس تظهرها مرآة القلب.

--------------

وكأنني عاينتك في عيون الطيور

واستروحتك في أنفاس الورد

ولمحتك في وجه الألق

ووهج الشفق

وبسمة الشروق العملاقة

وأحسست بك في حركة الخوالج

ولمستك في روعة المياه

وقلوب الأطفال

وديمومة اليقين

وكأنني هززت يدك

بمصافحة الأصدقاء.

--------------

كان معروفاً بتشاؤمه ونظرته السوداوية للحياة.

في الصباح كان يعبس ويتجهم في وجه موزع الجرائد، ثم يرغي ويزبد لمطالعته العناوين الرئيسية أثناء تناوله قهوة الصباح. أما إن حدث وسار أحد تلامذة المدرسة على الحشيش أمام منزله فكان عندئذ يقيم الدنيا ولا يقعدها.. يزعق بغضب ويطلق بعض الشتائم. أخيراً كان يجرّ نفسه جرّاً إلى مكتبه تحت طبقة ركامية كثيفة من غيوم الكآبة والحزن العميق.

في المكتب كانت كآبته تزداد شدة وحدة وكانت العياذ بالله مُعدية لدرجة أن الموظفين كانوا يسيرون بصمت مُقبض كئيب من أول النهار حتى نهايته. ولم تشرق بسمة واحدة في ذلك الجو الموحش.

عند الظهر كان صاحبنا يذهب إلى أحد ثلاثة مطاعم في المدينة. وكان يبدأ دوماً بالتذمر من قائمة الطعام، بعدها من الخدمة وأخيراً وليس آخراً كان يبدي امتعاضاً من نوعية الطعام.

بعد الظهر كان يمشي لربع ساعة في المدينة فيكدّر جوها تكديراً ولا يعود إلى مكتبه إلا بعد أن يكون قد ترك وراءه آثاراً شبيهة بتلك التي يخلفها الإعصار؛ إذ كان بارعاً في كسر خواطر الناس الطيبين بحيث كانوا يشعرون أن طاعوناً مرّ بهم ولم يسلم أحد من لمسته المميتة.

وأثناء عودته إلى البيت عند المساء كان يعرّج على المقبرة فيقف وقفات طويلة أمام ضريح زوجته التي توفيت قبل سنين ليعنفها على فراقه وتركه ليقوم بمعظم الأشغال المنزلية بمفرده.

أما العشاء فكان محنة كبيرة بالنسبة له لأنه كان يصغي أثناء تناول الطعام إلى مقدمي البرامج الإذاعية فلا يعجبه ما يسمعه من المذيعين والمعلقين والمعلنين والكوميديين.. أخيراً كان ينسلُّ إلى فراشه ويعاني من أحلام مريعة وكوابيس فظيعة.

غني عن القول أنه كان في منتهى التعاسة وكان يتعالج بالفيتامينات ووسائل الراحة والإسترخاء وأحياناً بالعمليات الجراحية.

ولكن ذات يوم حدث شيء لا يصدَّق، إذ تغيّر الرجل.

موزع الجرائد كان أول من لاحظ ذلك التغيير، ثم تلامذة المدرسة لدى اجتيازه لهم في طريقه إلى العمل. كان صاحبنا يضحك وكان بشوشاً. راح يحيي موزع الجرائد. وذات مرة تعثر أحد التلامذة أمام بيته وسقط فأسرع لمساعدته وسؤاله عما إذا كان قد تأذى من تلك السقطة.

كما راح يلوّح بيده لجيرانه ويوزع عليهم التحيات الطيبات ذات اليمين وذات الشمال، ويبتسم لموزع البريد بل وكاد يكتسح المدينة الصغيرة بهبّات قوية من الطيبة والفرح.

وفي المكتب أيضاً راح يصدح بالغناء دون عناء. وفي المطعم كان يؤكد للعاملين أنه لم يذق من قبل طعاماً أشهى. والقائمة تطول... وباختصار أصبح شخصاً آخر. ومنذ ذلك الحين لم يعرف المرض.

هذا التغيّر الذي طرأ عليه استمر لحوالي الأسبوع. وراح أهل المدينة يفركون أيديهم ويحكـّون رؤوسهم ويتساءلون عن سر هذا التحول الفوري الذي حدث لهذا الشكـّاء المتبرم بالحياة. أخيراً قرروا أن يرسلوا إليه وفداً ينوب عنهم في استطلاع جلية الأمر.

عندما وصل إليه الموفدون رأوه يأخذ حمّاماً شمسياً على الحشيش أمام البيت فكانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لهم. فسأله المتحدث باسم الوفد بدون مقدمات وبكل جرأة عن السبب من سعادته.

فأتى جوابه صريحاً عندما قال: "على مدى خمسة وعشرين عاماً كنت دائم القلق خوفاً من عدم العثور على السلام وراحة البال. أخيراً قررت الإقلاع عن القلق بالمرة وصممت على أنني سأرضى بحياتي بدونه."

وهذا ما ينبغي لنا أن نفعله أيها الأصدقاء. يجب أن نتحرر من أسباب الهم والقلق ونسمح لأنفسنا بأن تشعر بالارتياح. كل واحد يريد السعادة، لكن معظم الناس كذلك الإنسان أيام عهده بالشكاسة والنكد. فهم لا يرتاحون بما فيه الكفاية للحصول على السعادة. ولو أنهم أقلعوا عن القلق لاختفت التعقيدات من حياتهم ولأصبحوا أكثر قدرة على الإحساس بالراحة والطمأنينة.

(من وحي المهجر)

------------

"اقرأ أفضل الكتب أولاً وإلا فقد لا يتسنى لك قراءتها أبداً"

- هنري ديفيد ثورو

في هذا القول ينصح فيلسوف الطبيعة وما وراء الطبيعة – ثورو - بالإستفتاح بالأفكار المفيدة النافعة بدلاً من التهام مواد قد تحتوي على مكونات ضارة تؤذي الملكات العقلية وتشوش برنامج الإنسجام الذاتي.

ويستدل من قوله أنه متى تعود الفكر على قراءة الكتب أو المواد ذات المستوى الإهتزازي المتدني فإنه يتشرب خاصياتها ويغص بها كالإسفنجة التي تتشبع بالماء فلا يمكنها امتصاص المزيد منه.

وإن امتلأ الفكر بتلك اللامغذيات فلن يقدر على استيعاب مواد فكرية جيدة ونافعة، بل قد تصبح غير ذي جدوى بالنسبة له إذ لا مكان ولا مكانة لها في عقل احتلت مساحاته أفكار أخرى لا تشبع الحنين ولا ترطب القلب ولا توسع الأفق ولا تروي المشاعر ولا تبعث على الإلهام.

جدير بالذكر أن فيلسوف الفريكة أمين الريحاني أشار ذات مرة إلى هذا الفليسوف بعبارة "أخي ثورو" إذ كان من أشد المعجبين بأفكاره الفذة ونهجه الفريد وتميزه على كل صعيد.

----------------

قصيدة الثور

شاعر إيطالي أحب الثور فخلده بهذه القصيدة:

أحبك أيها الثور الجدير بالثناء

فأنت تمنح قلبي شعوراً رقيقاً

من الهمة والسلام.

ما أروعك بمظهرك الرصين

الشبيه بنصب تذكاري مهيب!

نظرتك الهادئة تجوب الحقول الخصبة الواسعة

وبرضاء متزن تتقبل النير

وتستجيب لأوامر الإنسان بمنحه قدرتك.

يزعق بك ويهمزك بالمنخس

فتعبّر عن ألمك بالنظر إليه

بعينين صبورتين مستعطفتين.

من منخريك الواسعين

يصعد بخار أنفاسك قاتماً رطباً

ويمتزج بالهواء الساكن

أما خوارك الشجي فيشبه ترنيمة جذلى

وفي عذوبة عينيك الواسعتين المطمئنتين

الشبيهتين بالزمرد الأخضر

تنعكس نضرة الأرض الرحبة المباركة.

جيوسو كاردوشي

-------------

مرايا الوجوه

--------------

كنت قد ترجمت هذا الموضوع منذ حوالي السبع سنوات، ونشرته تحت عنوان (ماذا نقرأ في مرايا الوجوه) وضمنته كتابي (من وحي المهجر: إبحار في عالم الأفكار). وقد تناقلته مواقع عديدة، وها أنا أعيد نشره اليوم آمل أن تستمتعوا بالتشبيهات الواردة في النص.

* * *

خطر ببالي اليوم أن أكتب عن الوجوه.. تلك الصحائف البادية للعيان، التي تنطوي صفحاتها على ما تنطوي عليه من أسرار وانطباعات وأفكار وانفعالات وقصص وحكايات وفصول وآيات لا تكاد تعرف بداية أو نهاية.

فهي دائمة الظهور والتعاقب على تلك المرآة البشرية السحرية التي تلتقط وتبرز ما تعجز عن التقاطه وإبرازه أدق آلات وأجهزة التصوير، حتى الديجيتال منها!

هناك وجوه تقرأ فيها معاني النبل والسمو والشهامة، ووجوه تنبئ عما يتحلى به أصحابها من مخاتلة وخداع.

هناك وجوه لا تشبع من النظر إليها ووجوه لا تطيق رؤيتها ثانية.

هناك وجوه تؤكد لك صدق أصحابها ووجوه تقول بفصاحة أن حظ أصحابها من المصداقية قليل وهزيل.

هناك وجوه تحمل على جباهها عبارة (موضع ثقة) ووجوه يقول محياها لم يحسن القراءة (خذ حذرك ولا تقترب!)

هناك وجوه هي بذاتها تسبيحة ودعاء وبركة من السماء ، ووجوه تطلق تقاطيعها الشتائم والسباب في كل موقع وموقف.

هناك وجوه تراها لأول مرة فتشعر بانعطاف قوي نحوها وتود لو تديم النظر فيها، ووجوه كذلك تراها لأول مرة فتنقبض أساريرك لانبعاث كهرباء خفية منها غير مرئية لكنها محسوسة وملموسة دون أدنى شك.

هناك وجوه حلوة كالفاكهة الناضجة، ووجوه فجة كالحصرم أو أشد حموضة.

هناك وجوه كالشمس عند إشراقها أو قبيل غروبها ووجوه كالحة كالدخان الكثيف أو أكثر قتامة.

هناك وجوه تحتفي بك وتهش للقياك، ووجوه أنشف من رمل الصحاري في أيام الصيف القائظ.

هناك وجوه تقرأ قلوب أصحابها من خلال النظر إليها، ووجوه مستترة ومغلفة بألف حجاب.

هناك وجوه كالورد الجوري حسناً وعطرا ورواءً ووجوه كالأشواك الحادة أو الأعشاب المتطفلة.

هناك وجوه كالكتاب المفتوح ووجوه كالطلاسم الغامضة.

هناك وجوه كالربيع الزاهر ووجوه كالشتاء الكئيب.

هناك وجوه كالبدر عند اكتماله ووجوه كالقمر عند خسوفه.

هناك وجوه كغيث الخير ووجوه كالبَرَد المدمر.

هناك وجوه تقول تقاطيعها "إبشر، قريباً دعوتَ" ووجوه لا تكف عن التفكير في ما يمكنها تحصيله منك بأية وسيلة.

هناك وجوه رؤيتها كالبلسم الشافي ووجوه مرآها يستدعي الاستعاذة بالله.

وليس آخرا، هناك وجوه كالمجرّة في اتساع أفقها وعمقها وأسرارها، ووجوه كزوبعة ولكن في فنجان.

المصدر: موسوعة الأفكار

--------------

عندما استجمعتُ شتات الذكريات

وبعثت في أوصالها

من نبض الوجدان دفئاً

عادت مسربلة بجلابيب زاهية

وفيها من عبق الماضي أثر.

استيقظتْ من رقدتها الطويلة

وأزاحت عن وجهها وشاح النسيان

فأسفرت كضحى الربيع.

أبصرتُ في عيونها المسهدة

مشاهد حية ورؤىً مألوفة

وتلامحت في محياها الوادع

افترارة ساحرة

وانفرجت أساريرها

عن مباهج منسية

وقد راحت أناملها الرشيقة

تحرك برفق أوتار القلب.

أما صوتها الرخيم

فقد سرد بنغمة عذبة شجية

حكايات الصداقة والوفاء.

----------------

في ألق الروح وحديث البوح

وانبثاقات التجدد غير المتوقعة

وانطلاق مواكب الإبداع من مجاهل الوعي

وصولة الإحساس خارج نطاق الحواس

والسطوع المباغت في عتمة النسيان

وتلؤلؤ نجوم الفرح الموعود

في فضاء لهفة المشتاق

وتبدد سحب الأوهام

وابتعاث الفكر المغيّب من تحت الركام

ووقفة الشموخ على ذرى الإنعتاق

واحتفاء الخاطر بقصائد النور

واندماج أنباض القلب بخفقات الوجود..

أراك.. وأبتهج بمرآك!

--------------

داءات...

أيا روحاً كريمة لا تستخذي

ويا قلباً وثيق المعرفة بسر الثبات

ويا وجداناً لا يتنفس إلا الحق

ويا نية لها من النصاعة حظ عظيم

ويا تحليقاً لا يهدأ في سماء الجمال

ويا صداقة لا تحيد عن دروب الوفاء

ويا تجربة حية أقوى من الخيال

ويا تفرداً يستعذب عدم الإنصياع

ويا إشراقاً ذاتي الإشعاع

ويا موارد لا تغيض

من ألق الفكر وأصالة الروح..

تحية بعلوّ السمو

وعمق الحب.

-----------

العالم يشبه بحراً شاسعاً

والبشرية كالسفينة المبحرة

على صدره الهائج

وحكمتنا هي الشراع.

العلوم هي المجاذيف

والحظوظ السعيدة والعاثرة

هي الرياح المواتية والمعاكسة

ودفة القيادة هي الحكم الصائب.

وبدون هذه الدفة

تتقاذف الأمواج السفينة

وتحطمها وتغرقها الرياح.

الروائي والشاعر أوليفر غولدسميث

-------------

في إلحاح الحافز الخلاق

والتماعة الأمل الموعود

والتئام القلوب المتصدعة

وهتاف الحنين لسموات الحب

وأعراس المعاني البكر

وهمس المشاعر المتآلفة

وتبدد الشكوك المتكاثفة

ولعثمة الأشواق اليتيمة

وصهيل الأفكار وحمحمتها

في ميدان الإبداع

وارتياد الخيال الحي للملكوت

والإصغاء لما لا يُسمع إلا بالسكوت

وانتشال الجوهر الضائع

من أودية البوار إلى ذرى الإبتكار..

إرهاصاتٌ لعوالم مدهشة

لا تكف عن البزوغ.

-----------

لن تقضي الأعاصير المدمرة على نسائم الروح.

ولن يلغي الجزع المضني طمأنينة النفس.

ولن تنام الحياة لأنها أبدية اليقظة.

ولن يحظى الظلام بكرسي دائم في مجالس النور.

ولن يتمكن الباطل من الصول في حلبة العدل الإلهي.

ولن تتسنم الأفكار الدميمة عرش الجمال

مهما بدت بارعة وحادة البريق.

ولن يهنأ الحزن اللاذع بالإغتذاء إلى ما لا انتهاء

على المشاعر القوية.

ولن يُبهر الرياء النظراتِ الثاقبة.

ولن تعكر كدورات التنغيص مناهل ذوي العزم.

ولن تطمس الأهواء الجامحة العواطف الراقية..

مهما تقلبت الأحوال واستطال الزمن.

----------------

...هي أن ترى العالم في حبة رمل

والسماءَ في زهرة برية

وأن تمسك اللانهاية في قبضة يدك

و"تختبر" في ساعةٍ الأبدية

- وليام بليك

لا يسعني إلا أن أخمّن بأن الشاعر عاش تلك التجربة مثلما اختبرها غيره من متنوري الشرق والغرب، وإنني لأجد عفوية في كلماته تبعث على تصديق تجربته. معلوم أن جبران تأثر به لدرجة كبيرة وآثاره تبدو واضحة في كتابات جبران.

واسترشاداً بكلمات بليك يقودنا التحليل للإستنتاج بأنه تعمق في التفكير التأملي إلى أن بلغ الحد الفاصل بين العقل والمادة فتجاوز قانون النسبية وبدا العالم له متناهي الصغر مثلما بدت له حبة الرمل بحجم العالم.

والسماء التي يقرنها كثيرون بأبعاد كونية شاسعة أبصرها بليك – حسب وصفه - متجسدة في زهرة برية على الأرض "كما في السماء كذلك على الأرض" وربما أدركها كذلك في أعماق نفسه { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }

ومع هذا الإدراك وتلاشي النسبيات باتت اللانهاية في متناول يده واختزلت الأبدية ذاتها في ساعة من الزمن.

March, 2015

-------------------


"يا ليت بيتنا يبقى متواضعاً ليضم في حناياه كل أصدقاىنا"

- الشاعرة ميرتل ريد

هنا تحتفي الشاعرة بالبيوت المتواضعة التي لها مكان محبب إلى القلوب..

إذ بغض النظر عن مظهرها ومحتوياتها، فإن حَوت إرادة طيبة وكانت قلوب أصحابها مفتوحة باتت مقصداً للأصدقاء الطيبين، حيث الاريحية والبساطة المريحة والمبادلات الوجدانية الصادقة والبعيدة عن التكلف والتعقيد.

ولعل بيتاً بهذه المواصفات أوحى بيتاً من أجمل بيوت الشعر العربي وهو:

يا صاحبي لو زرتنا لوجدتنا .. نحن الضيوف وانت رب المنزلِ

--------------

الأشياء الصغيرة والشاعرة جوليا

في إحدى أجمل قصائدها وأكثرها شهرة، نقرأ هذه الكلمات للشاعرة والمربية

جوليا فلتشر كارني (1823-1908)

إن قطرات الماء الصغيرة

وحبات الرمل الدقيقة

تكوّن المحيط الجبار

والأرض الساحرة ذات المباهج.

واللحظات القليلة

بالرغم من تواضعها

تصنع دهور الأبدية الهائلة.

وبالمثل، فإن الأفعال الصغيرة الطيبة

وكلمات المحبة البسيطة

تساعد على جلب السعادة إلى الأرض

وجعلها كالفردوس الأعلى.

Little Things

Julia Fletcher Carney

--------------

أقوياء

* قوّتهم في التواضع واستلهام الحق.

* مكتسباتهم ثمار طيبة مقتطفة من شجرة كريمة، نسغها عرق صبيب وجهد مكرّس لخدمة الآخرين ونفعهم.

* يحترمون حقوق الناس ولا يجيز نبلهم التجاوز والإفتئات.

* يساندون المستضعف ويسعون لتحصيل مسلوباته.

* يعجزون – بالرغم من قوتهم – عن قضم وهضم ما ليس لهم.

* يدركون أن لحياتهم هدفاً وإن إقامتهم على الأرض موقوتة وتحت عدسة المجهر الكوني، فيعتمدون نظافة اليد نهجاً ويتخذون الإرادة الطيبة سبيلاً ويستأنسون براحة الضمير مرشداً أميناً.

* كفتهم راجحة في ميزان القيم.

* يذكرونني بصنديد استبد به الحنق من أحد الأشخاص فخاطبه قائلاً: "لولا خوفي من الله لفعلت كذا وكذا..."

فتنفس ذلك الشخص الصعداء وأجابه: "ما دمت تخاف الله فلا أخافك!"

-----------

تعريف أمرسون للضيافة:

"تقوم أسس الضيافة على قليل من النار وقليل من الطعام والكثير من الهدوء."

في هذا القول يعرّف فيلسوف أمريكا الأشهر رالف والدو أمرسون مقومات الضيافة من مفهومه الشخصي وتجربته الذاتية، ويلقي ضوءاً على ناحية هامة تتمثل في عبارته "الكثير من الهدوء".

هو يؤمن بالضيافة المعتدلة التي لا تحتاج إلى إيقاد مشعلة ضخمة بل إلى ما يكفي من اللهب لطهو الطعام، وإلى ما يكفي من الطعام دون تفريط وتقتير ودون إفراط وتبذير لغرض التباهي والاستعراض.

أما ذلك الهدوء الذي قرنه بالضيافة فقد يكون عنى بذلك:

بعد تقديم واجب الضيافة، كيف يمكن توظيف تلك المناسبة بما يخدم الضيف والمضيف على حد سواء؟

هو لم يكن يجهل أهمية الحديث وتبادل الآراء والأخبار، لكنه كان يرى في السكينة فائدة تفوق الكلام، لأن الهدوء يبعث على التفكير العميق وهو بحد ذاته حديث صامت يدرك معناه ويستلذ به من يعرف معنى القول المأثور إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.

--------------

عندما يتعمد القلب بالنقاء

يمسي محرابا تفتقده السماء.

وعندما تودع النفسُ الغرور

تـُفتح فيها كوىً من نور.

وعندما تتعزز الإرادات الطيبة ويتسع نطاقها

تستقطب كياناتٍ تغتذي على المحبة وأماني الخير.

وعندما يقدّس الإنسان الحرية

ويريدها لغيره كما لنفسه

تندفع مياه إرادته بقوة متعاظمة

فتجرف الحواجز الصادة

وتقوض السدود الحابسة.

وعندما تـُستلهَم نصوص الأسفار للإهتداء والإقتداء

تـُكرَّس القوى للتعمير والتثمير

فينعم الجميع بخيرات الله

ويشمل الأمن والرخاء

أبناء الأسرة العالمية الواحدة

فيتحقق النعيم الموعود.

-----------

الناس – أو بعضهم - يستثمرون أموالهم لكي يحصلوا على مزيد من المال، ويستثمرون طاقاتهم لاستقطاب ما يحتاجون إليه، ويستثمرون ميولهم وتوجهاتهم لتعزيز مكتسباتهم المادية والمعنوية.

الإستثمار يهدف إلى الربح وينطوي على خسارة. وهناك من يجازف بالكثير فتتحول المجازفة إلى رهان وقد يتحول الرهان إلى ارتهان بأكثر من معنى.

الكل يطمح للكسب وهذه سنة الحياة التي تتطلب الجد والمثابرة. هذا نعاينه في النمل الدؤوب والنحل الكدود والسناجب ذات المخازن العامرة بالغلال.. والأمثلة تطول.

الاستثمار المادي غير مضمون النتائج، وحتى نجاحه قد يؤدي إلى خسائر جسيمة على المستوى المعنوي.

وهناك ثمة استثمار ناجح ورابح على الدوام مهما تعثرت المشاريع واضطربت الأسواق.. إنه استثمار التوافق مع القوى والقوانين التي تقوم عليها الحياة، وبدون ذلك فالأرباح تكتنفها الخسائر والنجاح يعتوره الفشل حتى لو امتلك الإنسان كل ما تراه عينه وتصل إليه يده.

-------------------

قصيدة يتيمة - مجهولة المؤلف

أذهلت الأوساط الأدبية.. وهذا ما نعرفه عنها:

عُثر على القصيدة في الربع الأول من القرن التاسع عشر بجانب هيكل عظمي بشري بحالة ممتازة في متحف الكلية الملكية للجراحين في لندن ونشرتها آنذاك جريدة (مورننغ كرونيكل).

القصيدة استقطبت اهتماماً كبيراً وواسعاً فبُذلت جهود جادة لمعرفة مؤلفها، بل تم تخصيص جائزة مالية مجزية لمن يدلي بمعلومات موثوقة عن أصلها، لكن مؤلفها أراد أن يبقى مجهولاً فلم يتم التعرف على هويته.

ومع أن عنوان القصيدة هو (إلى هيكل عظمي) لكن التركيز هو على الجمجمة.

والآن تفضلوا إلى قراءتها:

انظروا إلى هذا الهيكل المتداعي!

فهذه الجمجمة كانت ذات يوم مسكناً لروح أثيرية.

هنا في هذه الحجيرة اتخذت الحياة معتكفاً لها..

وهذا الحيّز كان مخدع الأفكار السرية.

تـُرى أي رؤىً بديعة ملأت هذا المكان!

وأي أحلام ممتعة طواها النسيان!

وبالرغم من ذلك

لم يترك الأمل ولا الفرح

ولا الحب ولا الخوف من أثر هنا.

تحت هذه القبة المتهدمة

التمعت عين براقة وفضولية

لكن لا تجزع لهذا الفراغ المقبض

الذي حل مكانها..

فإن كان حب الناس قد ملأ تلك العين

وإن لم تضطرم فيها نار التمرد على نواميس الحياة

بل كان يشع منها ندى الرقة والحنان والإحسان

فستحتفظ تلك العين ببريقها طوال الأبد

عندما يطوي ليل الفناء الشمس ومعها النجوم.

ومِن هذا التجويف تدلـّى لسانٌ رشيق متآلف النغمات

فإن كان قد ربأ بنفسه عن الكذب المعسول

وإن كان قد لجم ذاته

عندما لم يستسغ الهتاف والتمجيد

وإن كان جريئاً في نشر الفضائل

ولم يسعَ لتحطيم التوافق والوئام

فسيرافع ويدافع ذلك اللسان الصامت [عن صاحبه]

عندما يرفع الزمن ستارة الأبدية.

-------------

لا نعرف ماهية الكنوز

التي تكمن في داخلنا حتى نفتش عنها.

الناس يغوصون بحثاً عن اللؤلؤ

الذي لا يمكن العثور عليه على الشطآن.

وسفوح التلال التي تبدو جرداء قاتمة وغير واعدة

تختزن أحياناً عروق التبر في باطنها.

ألا ليتك تغوص عميقاً

في بحر فكرك الشاسع الواسع

إلى ما تحت الأمواج الصاخبة

إلى سكينة الأعماق

لعلك تعثر هناك

على الدر المكنون وكهوف المرجان.

احتفر نفقاً عميقاً في أرضية الفكر الصلبة

اعمل بصبر وأناة كالباحثين عن الذهب

وستعثر تحت الصخور والركام

على ما قد يجلب لك ثراءً لم تحلم به.

حقاً أن العقل البشري

الذي هو انعكاس للعقل الكوني اللامتناهي

يحوي في طبقاته

بالرغم من التراكمات الأرضية الكثيفة

جواهرَ ودرراً من الجمال والنور

هي من نصيب الباحثين عنها

في مناجم الفكر الغنية بنفائس الكنوز.

Ella Wheeler Wilcox

--------------

لمن هذا القول؟

قال الشاعر والأديب توماس تيكل (1685-1740):

سريع كالرغبة Swift as desire

وقال اللاهوتي وعالم المنطق اسحق واتس (1647-1748):

سريع كحركات الرغبة Swift as the motions of desire

إن كان الإقتباس قد حدث بالفعل فأرجّح أن يكون توماس قد أخذها عن اسحق لأنه كان أكبر منه سناً وأغنى تجربة، إذ تقول المصادر إن توماس كان من الشعراء الوسط، مما يوحي بأنه كان أقل غوصاً وتعمقاً من غيره في بحر الأفكار واقتناص المعاني.

والآن إلى وقفة تحليلة مع القول:

في العادة يقترن تشبيه السرعة بالسهم والطير والريح وانصرام العمر..إلخ.

أما اقترانه بالسرعة فقد يكون اللاهوتي اسحق واتس الذي ربما كان يجاهد نفسه للتخلص من أهوائها والاستظهار على شهواتها قد عانى من هجمات الرغبات العاتية التي كانت تندفع وتتدافع بقوة في أعماقه فتجتاح ساحة قلبه وتسرح وتمرح في آفاق فكره بسرعة مذهلة بحيث أعياه التحكم بها أو حرف مسارها، فخلدها بجملة استحقت هذه الوقفة بمعيتكم.

-------------

ما أشبه المتع بزهرة الخشخاش

التي ما أن تمسك بها حتى تنفرط بتلاتها

أو كرقع الثلج المتساقطة فوق النهر

تبدو بيضاء لبرهة عابرة ثم تذوب للأبد

أو كأنوار الشفق القطبي المتراقصة

التي تومض ثم ترتحل

قبل أن تتمكن من تحديد مكانها

أو كقوس قزح يتراءى شكله الفاتن

ثم يتلاشى في خضم العاصفة.

Robert Burns

--------

الرذائل - أعزكم الله - كالحيوانات التي لا تحب سوى مطعميها.

Vices, like beasts, are fond of none but those that feed them

هذا القول الفريد من نوعه هو للشاعر صموئيل بتلر (1613-1680)، ويبدو أنه استنتجه من تجربة أو تجارب شخصية.

في قوله هذا لا نراه يلوم الرذائل بحد ذاتها - بالرغم من أنها ذات طبيعة مذمومة- بقدر ما يلقي اللوم على من يغذيها بتكرارها، فتأنس به وتطمئن له وتساكنه وتستغل ملكاته للإعراب عن ذاتها حسبما يطيب لها.

ومتى ما تمترست في الوعي تهمّش صاحبه وتحجب رؤيته وتوهن عزيمته وتشل تأثيره الطيب على نفسه والآخرين.

وهذا يذكرني بقول أحد الحكماء:

never satisfied ever fed, ever satisfied never fed

ما معناه:

تجهل الإشباع َ ما دامَ الغذاء .. وإذا الزادُ استحالَ شبعتْ

---------------

خلف جبال الصمت

في قلب الديمومة

وعند مشارف الواحة المنسية

وفوق ذرى الإنطلاق

وتحت سماء الفكر غير الهجين

وبين أشجار الصداقة المعمرة

وفي بيادر الحنين

وعلى بساط البساطة غير القابلة للإختزال

يحلو اللقاء.

--------------

لو عرفتْ الظواهر الكونية حجمها وحجم غيرها مما أبدع الخالق..

فلربما قال البحر: أنا قطرة من المحيط الكوني.

ولقال القمر: إنني مدين بظهوري للشمس لأني لست ذاتيّ الإشعاع.

ولقالت الشمس: لم أخلق ذاتي فأنا مجرد التماعة متواضعة من الشمس العظمى.

ولقالت المجرة: أنا ذرة متناهية الصغر هائمة في الإتساع اللامتناهي.

ولقال الكون: لستُ وحيداً في الوجود فهناك أكوان تفوق العد والحصر.

ولقال الوجود: لولاه لما كان لي من وجود.

ولقالت الأرض: ليت الإنسان يدرك هذه الحقائق فيتواضع ويخفف الوطء..

ويبتعد عن الغرور والشرور.

-------------

بعض أقوال

قال المبتكر: التكرار اجترار فلأتذوق نكهة الأصيل.

وقال المستكشف: الطرق المطروقة كثيرة فلأبحث عن مسار جديد.

وقال الشاعر: الشعور الراقي هو الميزان مع أو بدون أوزان.

وقال صائد الأفكار: لا وجود لصيد ثمين في مياه ضحلة.

وقالت المتحررة الواعية: للحرية حدود وقيود هي سياج الأمان.

وقال التاجر الأمين: من يغش زبائنه كمن يغش والديه.

وقال المُحب الصادق: سعادة المحبوب أولاً.

وقالت ذات الفطنة: قد ينطوي الكلام العذب على طـُعم فالحذر واجب.

وقال الطفل: من يفهمني ويثق بي هو الأقرب إلى قلبي.

وقال الجمال: الفكر السامي ملهمي والمثل الأعلى توأمي.

--------------

رائع كالفكر Grand as Thought

هذا القول هو للروائي الشهير بلزاك (1799-1850) الذي قدس حرية الفكر فصال وجال في آفاقه غير المحدودة وجاء نتاجه الفكري غزيراً ونوعياً مما أكسبه مكانة مرموقة ودائمة في عمق الأدب العالمي.

كان أونوريه دي بلزاك من أكبر الروائيين الفرنسيين، وقد صورت رواياته المجتمع الفرنسي بكافة أطيافه وتشعباته تصويراً دقيقا وشاملا.

هذا الروائي الفذ لم يكن كبيراً بأدبه وحسب بل بجسمه الضخم والمكتنز أيضاً، مثلما كان حالماً ومليئاً بالحيوية والنشاط مما ساعده على إنتاج الرواية تلو الأخرى بسرعة فائقة، وكلها تعتبر أعمالا أدبية متميزة. كما لو أن رأسه كان مصنع إبداع دائم التشغيل، لا يكف عن إنتاج كل ما هو عالي الجودة، رفيع المستوى.

لم يعرف الأدب الفرنسي أدباء بوزنه وبموهبته ممن تمكنوا من تسليط الضوء بدقة وبراعة على بعض زوايا الحياة. وبالتأكيد لم يكن أحد يضارعه في إظهار الصورة كاملة على الطبيعة، دون زخرفة أو رتوش.

وكان أول من حاول أن يرسم على صفحات كتبه حياة الناس بكل ما تحويه من جيد ورديء وما بينهما، وما فيها من ضعف وقوة وسعادة ونضال ونبل ووضاعة.. كل ذلك جمعه في خلطة واحدة لا يقدر عليها سوى بلزاك نفسه.

رواياته تنبض بالحياة والواقعية كما لو تم تصويرها سينمائياً فظهرت التفاصيل بكل دقة ووضوح.

وتحصيل حاصل كان بلزاك يمتلك مقدرة فريدة على النفاذ إلى عقول وقلوب الناس..

كما امتلك عدسة عقلية صافية مكنته بفعل وفضل عبقريته وفهمه الغزير من اختراق سطح الأشياء والوصول إلى باطنها.

----------------

بحجم قطعة الشوكولاته.. وفيه أقوال!

بين يديّ كتيب صغير ذو غلاف أنيق، يحمل عنوان (الصداقة Friendship) وتحتوي كل صفحة من صفحاته على قول لأحد المشاهير عن الصداقة.

اخترت اليوم هذا القول للروائي وليام ذاكريه (1811-1863):

تحت التأثير المغناطيسي للصداقة

يصبح الحيي جريئاً

والخجول واثقاً من نفسه

والخامل الكسول نشيطاً

والطائش حصيفاً

والمتهور متبصراً

والمنفعل هادئاً

أجل، فالصداقة الصادقة الخالية من التلون والتلوث والتعقيد والتقييد تريح الأعصاب وتستقطب طاقات إيجابية وتغذي المشاعر الطيبة.

تلك حقائق مؤكدة يعرفها المحظوظون بأصدقاء أوفياء لا تعادلهم كنوز الأرض ونفائسها.

-------------

ومما قرأت وترجمت:

بين الرأس والقلب

الرأس رجل دولة

والقلب شاعر

وكلاهما له دور يلعبه:

أحدهما في عالم المادة

والآخر في عالم الروح.

الرأس يخطو بحذر

يفكر مرتين

ويجادل ويقلّب الأمور

والقلب يحلـّق عالياً

تحدوه وتستحثه الأشواق

دون تحفظ أو احتراس.

الرأس يؤمن بإعادة التفكير

يصقل الأفكار ويلمّعها

والقلب يؤمن بأول فكرة

وتلقائيٌ فيما يمضي إليه ويقدم عليه.

الرأس متمرس بمراعاة الأدب والتهذيب في المجتمع

والقلب يستلهم الفطرة كمعتزل في غابة.

الرأس يرتدي ثياباً أنيقة ومطابقة للزي العصري

والقلب يبدو مجرداً من الثياب.

الرأس يحكم ويسيطر

والقلب يتغلب وينتصر.

الرأس ناقد صدّاع

والقلب دأبه الإبداع.

الرأس صلبٌ قاسٍ، نادراً ما يهتم بالآخرين

والقلب يطفح عاطفة ويذوب تعاطفاً مع الآخر.

الرأس عالِمٌ

والقلب فنان.

الرأس يعيش على الأفكار

والقلب يغتذي على الأحاسيس.

الرأس يرتاب لأنه مفعمٌ بالشكوك

والقلب يؤمن وتأكيده قاطع.

الرأس يحارب في أرض المعركة

والقلب يداوي الجرحى

ويعتني بالمصابين.

-------------

ما بينَ المدِ والجزرِ

والدُجنةْ وبَلجة ِ الفجرِ

وبين الشهقةِ والزفرةْ

واليقظةِ والغفوةْ الصغرى

سرٌ هو حدٌ فاصلْ

بينَ المقيّدِ والشامل

يعرفهُ النائمُ الصاحي

ويحسُ بنشوةٍ تـُترى

-------------

صابرٌ كالأرض

--------------

هذا القول يعزى إلى الرامايانا وينطوي على نظرة تأملية وحكمة عميقة.

فهذه الأرض تتحمل كل ما عليها، ولا سيما الإنسان .. طبعاً بأكثر من معنى.

يمشي عليها فتسنده..

يشق قلبها فتعطيه خيراً..

يحتفر أنفاقاً في باطنها فتمنحه كنوزاً..

يلقي إليها بأسوأ ما لديه فتجود عليه بأفضل ما عندها.

فليت الإنسان يتعامل مع الأرض بتقدير واحترام ويتعلم منها الصبر والعطاء والتواضع دون أن يتجاوز الحدود، كي لا يضطر القوانين العليا للدفاع عن أمه الأرض ومعاقبته على تجاوزه والعقوق.

--------------

يا فكرُ اهجر القلقْ

عدوكَ اللدود

واهجع قليلاً وانطلق

من ربْقة القيود

لم تأتِ للدنيا لكي

تنوءَ بالأعباء

أو تدفنَ كيانكَ

في تربة الفناءْ

العمرُ يمضي كالسحابْ

فاحذرْ من التسويف

ودعكَ من لمع السراب

وخدعة اللصيفْ

وكن جَلوداً صابراً

في البؤسِ والشقاءْ

فليسَ في دنيا الزوال

لحالٍ من بقاء.

-------------

لا تـُعلنُ عن ذاتها

لأنها هي العَلنْ

وأظهَرُ سماتها

عمرٌ يطاولُ الزمنْ

يقـْظتـُها لا تنتهي

ولا يدانيها الوسنْ

جليلة ٌ جميلة ٌ

لِعينٍ ترنو للقِننْ

راجحة ٌ كفتها

بالرغمِ من سيل الإحَنْ

في قلبها متسعٌ

لمن للقياها يحنّ

وتاجُها يرصّعُ

جبينَ كلِ مؤتمَنْ

----------

"بهدوء.. كنفس تخلد للراحة"

هذا القول هو للكاتبة والشاعرة فرنسيس آن كمبل (1809-1893) التي كانت على ما يبدو مُحبة للهدوء ووجدت فيه راحة نفسية تبعدها ولو قليلاً عن متطلبات العيش التي لا تقف عند حد والتي تستنزف كميات كبيرة من الطاقة وتستأثر بالانتباه.

وكأنها بعبارتها تلك وصفت ساعات أو لحظات الراحة التي كانت تستعذبها وتجد فيها متعة للنفس اللامادية التي لا ترضيها سوى أمور من طبيعتها.. ومنها الهدوء.

هذه النفس هي دائمة الإنهماك منذ اللحظة التي يصحو بها صاحبها وحتى خلوده للنوم.

ومهما حاول الإنسان أن يستدر المباهج والمتع عن طريق الحواس يجد نفسه في نهاية المطاف غير قادر على التمتع بما هو متاح فيهجع طلباً للراحة التي تصبح منية قلبه ومطلبه الأعز.. ولماذا؟

ربما لأنه يختبر تجدداً في الحيوية وتعويضاً عن طاقات هُدرت خلال ساعات اليقظة.

ولو عرف كيف يشحن خلايا جسمه وينعشها بطاقة الحياة - بكيفية واعية - لازدادت متعته ولقلّ اعتماده على النوم كوسيلة وحيدة للراحة وتجديد القوى.

-------------

غني بكنوز غير منظورة Rich in invisible treasures

هذا القول هو للشاعر فيليب بيلي (1816-1902) الذي تعدى مفهومه للغنى الثراء الأرضي إلى الغنى المعنوي الذي لا يُستغنى عنه ولا يُستبدل حتى بكل كنوز الدنيا ونفائسها.

وما عسى أن تكون تلك الكنوز غير المنظورة التي بدت حقيقية لنفس للشاعر؟

لعله قصد عزة النفس وكرامتها

وطمأنينة القلب ورحابة الوجدان

وعمق الإحساس وجمال الإيمان

والتحرر من اعتبارات لا وزن لها في ميزان القيم

والإبداع غير المحدود

والفكر الحر غير المكبل بقيود

والسير الواثق على دروب الإجتهاد الذاتي

والتحليق في الفضاء البكر

بعيداً عن جاذبية الموروثات الثقيلة

وبناء صروح غير مرئية

عصية على الفناء..

في عالم الديمومة والبقاء.

------------

"...القش يطفو فوق سطح الماء، ومن يرغب بصيد اللؤلؤ فليغص إلى ما دون السطح."

هذا القول هو للشاعر والناقد الأدبي والمترجم جون درايدن (1631-1700) والذي أصبح شاعر البلاط الإنكليزي في عام 1668.

المأثور عن صائدي اللؤلؤ الطبيعي أنهم كانوا – وربما ما زالوا – غواصين ماهرين، ليس بالضرورة للتمرين والتمتع بالسباحة بل لاستخراج شيء نفيس يجنون منه فائدة مادية.

وكأني بالشاعر درايدن قد رأى في الماء والقش واللؤلؤ والغوص رموزاً معنوية لا تقل حقيقة عن نظائرها المادية.

القش الذي رآه طافياً على سطح الماء ربما كان بالنسبة له اهتمامات مضخمة لأمور سطحية تقترن بمفاهيم هي إلى الضحالة أقرب من العمق.

لا شك أنه كان يتمتع بنظرة ثاقبة، وهذا معروف عن الشعراء الأفذاذ سواء في الشرق أو الغرب، الذين دأبهم الإجتهاد لتقديم "ما لم تستطعه الأوائلُ" ولذلك يغوصون في ذواتهم في محاولة لبلوغ أعماق غير مألوفة لعلهم يظفرون بصيد ثمين.

وما عسى أن يكون ذلك اللؤلؤ الذي تحدث عنه الشاعر؟

قد يكون عنى أفكاراً جديدة باهرة

وإضاءاتٍ على حقائق مستغلقة

وتوجهاتٍ جوهرية قابلة للتطبيق على أرض الواقع

وفنوناً للعيش الرضي المطمئن

وطرقاً مبتكرة لاكتساب الثقة بالنفس وتحقيق النجاح

وتصحيحاً لنظرةٍ بحيث تصبح قادرة على معاينة الجمال حتى في الأشياء العادية

وقوةً تسودها الحكمة ويدعمها التواضع

وصدقاً مع النفس يترجم ذاته تلقائياً إلى صدقٍ من الناس..

وقد يكون رأى وعنى أشياء أخرى.

-----------------

طيور بيضاء

-------------

ذات مرة جلستُ بصمت

في مخدعي وسط الظلام

فأتت يمامة بلون الثلج

باسمة العينين

إلى هيكل روحي

وابتنت فيه عشاَ لها.

وإذ استسلمتُ للكرى

شعرت برفة جناحها

ورأيت عائلة من الزغاليل

ببياض أمها

وعيون غاية في الصفاء

ترفرف وتصدح

في هيكل روحي.

في ذلك اليوم

خرجت إلى عالم الأحزان

وعندما حدقت في عينين متعبتين

لشخص لم يأمل أبداً بالتبسم ثانية

أرسلت إليه أحد طيوري البيضاء

ليجد مكاناً يستريح فيه

في معبد روحه

الذي تكتنفه الظلمة.

سيمفونيات الروح

---------------

لا يمكنه العيش معها ولا بدونها!

هذه الأسطورة القديمة عن الكيفية التي خـُلقت بها المرأة تُرجمت من اللغات الأصلية وتم تحليلها وتفسيرها مرات عديدة، وقد ظهرت في مجلة Critic and Guide في عام 1903 بهذه الصيغة تقريباً. وقد عمدتُ إلى حذف أو إعادة صياغة بعض فقرات احتراماً للمرأة التي أعتبرها يداً مباركة وقلباً محباً لا يمكن لأي مجتمع سوي أن يقوم بدونهما.

الغرض من ترجمة هذا النص هو من باب التعريف بثقافات أخرى.

عندما بزغ فجر الزمان قام تواشتري إله البركان بخلق العالم. ولكن عندما أراد أن يخلق المرأة وجد لدهشته أنه استخدم كل المواد الصلبة المتوفرة لديه في خلق الرجل، ولم يبق لديه من عنصر مادي واحد يمكنه استخدامه في خلق المرأة فأسقط في يده واعتراه ارتباك كبير، فغاص في تأمل عميق لمعرفة ما ينبغي أن يفعله. وما أن استيقظ من سياحته التأملية حتى شرع بالعمل على النحو التالي:

أخذ ضياء البدر وجماله

ورشاقة الطير وخفته

و تمايل الأغصان

والملمس الناعم لأوراق الورد

وخفة وخفقة النسيم ورقته

ونظرة الظبي

وبهجة أشعة الشمس

ودموع الندى

وتقلبات الريح

وخشية الأرنب

وزهو الطاووس

ونعومة الريش من صدر السنونو

وصلابة الألماس

وحلاوة العسل

ونكهة الأفاويه الطيبة

ودفء النار في الشتاء

ورعشة الثلج

وتغريد الهزار

وهديل الحمام!

فمزج كل هذه العناصر اللامادية وصنع منها المرأة وقدمها هدية بل تحفة لا نظير لها للرجل، فكاد الرجل أن يفقد عقله من شدة فرحه بها، لكنه بعد أسبوع عاد إلى تواشتري وقال له:

"يا سيدي هذه المخلوقة التي أعطيتها لي غريبة عجيبة، فقد غيرت حياتي بكيفية لم أكن أتوقعها إطلاقاً. فهي تتكلم دون توقف، فتستهلك بذلك كل وقتي، وتئن وتتأوه مع أنها في أتم الصحة والعافية. فأتوسل إليك أن تستردها لأنني لا أستطيع بعد الآن العيش معها."

أخذها تواشتري منه، لكن بعد أسبوع عاد الرجل مهرولاً إلى تواشتري وراح يستعطفه قائلا:

"يا سيدي، مذ أعدتُ المرأة إليك وأنا أشعر بالوحشة والوحدة. إذ لا زلت أذكر كيف كانت ترقص وتغني لي وتدللني وتسحرني بنظراتها التي كانت تصوبها نحوي، وكيف كانت تناغيني وتناديني بنغمة في منتهى العذوبة. فأرجو أن تتكرم عليَّ بإعادتها إليَّ في الحال!"

أعاد تواشتري المرأة إليه. ولكن بعد مضي ثلاثة أيام رجع حضرة جنابه مرة أخرى إلى تواشتري قائلا:

"يا مولاي، بصراحة لا أعرف ما الذي يحصل بالضبط، وبت مقتنعاً بأن المرأة تسبب لي من الإزعاج أكثر ما تمنحني من الراحة والإبتهاج. فأرجوك أن تعفيني منها."

لكن إله البركان تواشتري صاح به قائلا: "إذهب وتدبر أمرك بنفسك أيها الرجل!"

فقال الرجل متوسلا: "ولكن يا سيدي لا أستطيع العيش معها!"

فأجاب تواشتري: "ولا يمكنك العيش بدونها أيضا!"

---------------

"قل كلمتك وامشِ"

هذه العبارة المأثورة التي يستشهد بها كثيرون تعزى لفيلسوف الفريكة أمين الريحاني الذي كان أغزر أدباء المَهاجر علماً وأكثرهم إنتاجاً وأعمقهم غوصاً في بحر الإبداع.

فما الذي قصده من قوله هذا؟

وماذا لو أن السامعين أرادوا الإستزادة والإستفادة؟ أفلا يكون المشي في تلك الحالة غير مبرر؟

كان الريحاني مفكراً عميقاً وقد وصفه ميخائيل نعيمة بأنه "فكرٌ نفاذ"، ولذلك لا بد أن يكون قوله مبنياً على أساس منطقي.

وأظن أن ما قصده بقوله هو التيقن أولاً من صحة وضرورة ما تريد أن تقوله، ومتى قلته لا تتراجع عنه ما دمت قانعاً بصوابيته واثقاً من سلامته، وامشِ إن حاول أحدهم أن يجادلك ويثبت لك أن ما قلته غير ذي جدوى أو لا يقوم على حجة قوية. فالمشي إذ ذاك يكون أفضل من جدل عقيم لا حاجة للإنهماك به لأن لا فائدة ترجى من ورائه.

تحية لروح الأديب الاستثنائي أمين الريحاني


February, 2015

----------------

ما هو الزمن؟

توجهت بهذا السؤال إلى شيخ مسن، اشتعل رأسه شيباً

وتركت هموم الحياة أثراً على هيئة تجاعيد وانحناءات في شعره،

فأجاب:

"الزمن هو سداة نسيج الحياة ولحمته؛

فانصح حديثي السن

وذوي المظهر الحسن

والمولعين بالمتع والمباهج

كي يحسنوا النسج ويتقنوا الحَبك."

وسألت قدامى الراحلين المبجلين:

أولئك الحكماء الذين دوّنوا مأثوراتهم

والمجاهدين الذين خطّوا بدمائهم مآثرهم،

فتناهت إلى سمعي همهمات غائرة من أضرحة باردة مفادها:

"الزمن هو ناثر البذور التي نحصد غلّتها في مستقرنا ها هنا."

توجهت بنفس السؤال إلى آثم محتضر،

فأجاب قبل أن ينضب ماء الحياة من عروقه:

"الزمن، وحسرتاه! هو الكنز الذي أضعته."

وما أن نطق بهذه الكلمات حتى خمدت أنفاسه.

ثم سألت الشمس الذهبية والنيرات السماوية الفضية

التي تحدد الأيام والسنين، فأجابت:

"الزمن هو التماعةُ شهاب"

ونصحتني بالتحضير للأبدية.

وسألت الفصول في دوراتها السنوية

التي تجمّل الأرض أو تنزع عنها الرونق والرواء

فأجابت بحكمة هي عين البصيرة:

"الزمن هو غفلة المغفلين وغنيمة الواعين!"

طرحت السؤال على روح ضالة ضائعة

فأجابت بصرخة حادة اخترقت روحي

لدرجة أنني أرتعد وأنا أعيد الآن ما طرق مسمعي:

"الزمن ليس سوى ذَرة، هباة، شيء دقيق ومتناهي الصغر

من سنين لا تحصى وديمومة لا انتهاء لها!"

سعيت للحصول على جواب من أشياء جامدة،

سألت ساعتي فأجابتني:

"الزمن هو موسم جميل للعيش كما يجب...

هو الدرب إلى مجد مقيم أو إلى نار الجحيم."

أخيراً سألت الأب الأكبر، الزمن نفسه

لكنه انطلق سريعاً فتخطاني

إذ كانت المركبة التي يستقلها سحابة عابرة

وهواء يدق عن البصر

أما أحصنته الصامتة

فلم تترك وراءها من أثر.

ثم سألت الملاك الجبار الذي سيضع قدماً فوق البحر

وأخرى فوق اليابسة، فأجاب بصوت عظيم:

" لقد انزاح الغموض أيها الإنسان!

فالزمن كان

والزمن كائن

لكنه لن يكون!"

William Marsden

--------------

هاري العربي

----------------

تعرفت عليه في منتصف الثمانينات. كنت آنذاك أقوم بتنضيد مواد الطبع في إحدى المطابع وكان هو وزملاؤه يقومون بطباعتها وتوضيبها للتوزيع.

هاجر مع أهله صغيراً إلى الولايات المتحدة فكان يتكلم الإنكليزية بطلاقة، دون لكنة، ويتحدث العربية بسلاسة.

كان في العشرينيات من عمره.. قوي البنية، يخطو بهمة، يعمل بنشاط، ويميل إلى التحفظ والهدوء بخلاف أقرانه.

بادرته بالتحية ذات مرة فابتسم ابتسامة بريئة كأنها صادرة عن طفل صغير وأبدى اهتماماً بالتواصل.

طرحت عليه بعض الأسئلة فأجاب عليها بدقة تنم عن ذكاء ومعرفة وثيقة بتفاصيل العمل.

سألته عن إسمه العربي فقال "حسين" مع أن الآخرين ينادونه "هاري"

كان وجهه مرآة لروحه ولم يكن من الصعب معرفة ما تنطوي عليه سريرته النقية.

كنت أشعر بالإرتياح كلما رأيته أو تحدثت إليه، وقد لاحظت أن هذا الشاب حافظ على بساطة فطرية وطيبة لا تخطؤها العين، فرأيت فيه مزايا تبعث على الإعجاب.

ذات ليلة كنت أعمل لوحدي في المكتب وكان هو وزميل له يعملان في قسم آخر فرأيتهما قادمين نحوي، وعندما استفسرت منهما إن كان كل شيء على ما يرام، أجاب حسين بمنتهى البراءة "نعم، إنما جئنا لنسلم عليك."

في تلك اللحظة وقفت احتراماً لهما وصافحتهما بحرارة ومودة تقديراً لتلك اللفتة الطيبة.

هاري العربي.. ذلك الإنسان الطيب الذي ما زلت أذكره بالخير وأروي حكايته الجميلة.

--------------

أمامي اليوم بعض أقوال لعالم الأحياء الروسي من أصل أوكراني إيليا متشنيكوف (1845-1916) والذي اشتهر ببحوثه الرائدة في مجال جهاز المناعة وحصل في عام 1908 على جائزة نوبل في الطب:

لقد تم التحقق من السم الحيوي (التوكسين) الذي يسببه الإعياء، لكن لم يتم بعد تحديد السموم التي تفرزها الطباع النكدة والأخلاق السيئة والإنفعالات الهوجاء لأسباب غير موجبة.

فالانفجارات العاطفية والأعاصير الانفعالية والمخاوف غير الضرورية والهلع بسبب الأمراض أو المصائب التي نادراً ما تحدث، كلها ببساطة عادات سيئة.

وبالتهوية الصحيحة والإضاءة الجيدة للعقل يصبح من الممكن تنمية الإحتمال والإتزان ورحابة الصدر والشجاعة الحقيقية.

-----------

فراشات المحكمة: يا له من قاضٍ حكيم!

يحكى أن غريباً دخل إلى إحدى المحاكم في الجزء الداخلي من الصين ودُهش لأن يرى غرفة تعج بفراشات جميلة تخرج من صندوق موضوع على طاولة القاضي.

ولما استفسر عن مغزى ذلك قيل له أن القاضي بدلاً من أن يفرض غرامات مالية على المذنبين يطالب كل منهم بإحضار عدد محدد من الفراشات التي يتعين جلبها إلى المحكمة دون إلحاق الأذى بها، تكفيراً عن الجرم الذي ارتكبه.

وعندما سُئل القاضي عن السر من هذا العقاب غير المألوف، أجاب:

"يجب أن تكون محاسن الطبيعة الترياق للجريمة. فمن يحصل على حريته بشفاعة الفراشات الجميلة ثم يقترف جريمة أخرى فهو عنيد لا سبيل إلى تقويمه، وإنني لا أرحم من يرتكب الجريمة مرتين."

---------------

وقفة مع الرسميات

-----------------------

ما سأتطرق إليه هنا استوحيته من قول للشاعر والروائي الإنكليزي بولوَر ليتون Bulwer-Lytton حيث يقول: "رسمي كالغرف المرتبة التي ندخلها ونغادرها لكن لا نعيش فيها"

لا بد أن هناك حاجة للرسميات لأنها ملازمة للكثير من الأعراف والبروتوكولات بل وتحتل مكاناً على المستوى الشخصي أيضاً.

الرسميات في رأيي هي بمثابة خط فاصل بين التباسط والجدية في المعاملة.

هناك من لا يرتاحون للإنفتاح الزائد فيعمدون إلى إدخال العنصر الرسمي في تعاملهم مع الآخرين لجماً لتمادٍ غير مرغوب به وحفاظاً على خصوصية ذاتية أو مراعاة لمواقف تقتضي التحفظ.

لكن الرسميات الزائدة تبعث على النفور، كما لا يبعث التباسط المفرط على الإرتياح.

ومع ذلك بالإمكان إحداث موازنة ما بين النقيضين، بحيث يتم تقليص الرسميات وتحجيم التباسط الزائد فيصبح التعامل بين الناس مريحاً وقائماً على الإحترام المتبادل.

ما عدا ذلك تخلق الرسميات مسافات لا ضرورة لها وتعقد العلاقات بدلاً من تبسيطها.

ذات مرة قابلت رجلاً بدا لي منفتحاً ومهتماً في التواصل وبناء الجسور، وقد أخبرني أنه رجل دين، إنما على الطريقة العصرية.

وبما أنه كان يتعمد رفع الكلفة والرسميات ما بيننا طرحت عليه سؤالاً ربما لم يخطر بباله من قبل.

قلت له: "أنت رجل دين وتؤمن بالله وتدعو الناس إلى الروحانيات، أليس كذلك؟"

أجاب: بالصواب نطقت.

قلت: أود أن أطرح عليك سؤالاً.

قال: إطرح go ahead.

قلت: أيهما تحب أكثر: الله أم المال؟

فاجأه السؤال، فابتسم وقال:

لا أخفي عليك أن للمال سلطاناً لا يستهان به. تعجبني صراحتك ويا حبذا لو تأتي وتلقي محاضرة على جمهوري.

--------------

ناسجو الأقدار

-----------------

يقول الفيلسوف والعالم النفساني وليام جيمز (1842-1910) أننا نحن من ننسج أقدارنا الصالحة أو الشريرة بحبكة دقيقة ومتينة بحيث يتعذر تفكيكها أو نقضها.

فكل عمل نبيل أو رذيل يترك أثراً غير قليل.

يحكى أن سكيراً متمرساً في المشروب كان كلما جرع جرعة يبررها بقوله: "لن أحسبها هذه المرة"

حسناً، هو قد لا يحسبها... لكنها، بغض النظر، محسوبة عليه.. إذ بين خلايا أعصابه وأنسجيته تحسبها الجزيئات بدقة وتسجلها وتختزنها لتستخدم ضده عندما يقرع الإغراء بابه في المرة القادمة.

من مفهوم علمي بحت، ما من شيء نقوم به يُمحى بالمرة.

هذا بالطبع له جانب حسن وآخر سيء.

فكما قد يصبح الشخص مدمناً مزمناً، هكذا يمكنه أن يصبح إنساناً فاضلاً بانتهاج المسلك النبيل ومداومة الأعمال الطيبة.

------------

بريء كالنوم Innocent as sleep

قول جميل لآرون مِل، قلما يخطر على البال.

فكيف يكون النوم بريئاً؟

البراءة هي السلامة من العيوب، وهذا نعاينه بوضوح في الأطفال الصغار الذين لم يتعلموا بعد طرق بعض الكبار الشطار.

وفي تقديري أن ما يجعل النوم بريئاً هو غياب نشاط العقل الواعي المسؤول عن نوايا وأعمال الإنسان.

فعندما يخلد المرء للنوم يهجع العقل الحسي، وبالتالي لا ينهمك في التخطيط على اختلافه ولا يطلق أمواجاً فكرية غير ودية، ولا تصدر عن صاحبه تصرفات مؤلمة أو مؤذية أو تنطوي على نشاز.

فالنوم هو تحييد لعمل العقل

وتقييد لمؤثراته السلبية

وابتعاد لا شعوري عن التفكير بالمشاكل أو افتعالها

وإلى ذلك هو استراحة وراحة مؤقتة من المتاعب والهموم

ولذلك قيل: النوم نعمة من الله

ونعمَ بالله!

-----------

عينان كالجمر الحي Eyes like live coals

في هذا الصباح – أسعد الله صباحكم – فتحت عشوائياً قاموس التشبيه البلاغي فوقعت عيناي على عبارة "عينان كالجمر" للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس (1802-1870)

وأذكر أنني قرأت من قبل وصفاً مشابهاً لعينين "كالنار الباسمة".

لا ندري إن كان الكاتب نظر في المرآة ووصف عينيه أو رأى عينين ينبثق منهما احترار وتوهج كجمر الغضى. معروف أن العيون هي نوافذ النفوس، وأن كل ما يعتمل في الخاطر يظهر جلياً في العينين لمن يحسن قراءتهما.

فالحبُ تظهرهُ العيون

وكذا التألم والشجون

والصدق يبدو واضحاً

ومثله يبدو المجون

فالعينُ كاشفة الستور

دون رتوشٍ أو فنون

وبالعودة إلى القول أعلاه، فإن عينين بهذا الوصف تترجمان إما مشاعر محتدمة، أو آلاماً مبرحة، أو مطاردة ذهنية حثيثة لمسائل فكرية ملحة وغاية في الأهمية، أو حزناً يحرق الفؤاد ويشوي الأكباد، أو غير ذلك..

كنت قد نظمت الأبيات التالية والتي نشرتها مجلة العربي تحت عنوان "الفراسة"

في نظرة المرء ِ سِفرٌ يروي سيرتهُ

ويُبرزُ الخـُلقَ إن لِيناً وإن وعِرا

والعينُ تنبئُ ما في القلبِ من وطرٍ

سيّان إن بانَ في الأفعال ِ أو سُترا

ما العينُ إلا دليلٌ للنفوس ِ بها

مرآة ُ صدق ٍ لمن في صحنها نظرا

والوجهُ يعربُ عن نياتِ صاحبهِ

ويبدي للناس ِ كشفاً بالذي شعرا

فباطنُ المرء ِ مرسومٌ "بمقلتهِ"

لا فرقَ إن قالَ حقاً هذا أو نكرا

-------------

هادئ كالفجر Calm as dawn

هذا القول هو للشاعر الكبير وولت ويتمن الأعمق أثراً و الأكثر تأثيراً في الأدب الأمريكي والذي يُعتبر أبا الشعر الحر غير المقيد بالأوزان والقافية.

هذا الشاعر الشعبي الكبير القلب صرف شطراً من عمره متنقلاً بين المدن والبلدات والمزارع، يلتقي بالعمال والمزارعين فيشيد بأعمالهم ويشدد عزائمهم وينظم القصائد العصماء احتفاءً بهم وبنشاطهم الذي تقوم عليه البلاد.

أما قوله "هادئ كالفجر" فأظن أنه استوحاه من الإستيقاظ المبكر حيث السكون يغلف الأجواء ويبعث على التأمل واستيحاء الأفكار الملهمة.

أتصوره في ذلك الجو الصباحي الرائق وقد فتح نوافذ عقله وقلبه، فتتوارد عليه خواطر جمة يشعر بروعتها قبل أن يدونها حبراً على ورق، فتنقل إلى القارئ ما أحس به وتترك انطباعات راقية في نفس المتلقي.

وهكذا هم الشعراء الحقيقيون الذين يغوصون في أعماق الذات الإنسانية ليستخرجوا منها كنوزاً لا تقدر بثمن تصبح جزءاً لا يتجزأ من التراث العالمي الأصيل.

-----------

فقير كالحقيقة

هذا القول هو لشاعر ومترجم من القرن السادس عشر اسمه فرنسيس سيغل.

فكيف توصل إلى هذا الإستنتاج بأن الحقيقة فقيرة؟

لعله تصور الحقيقة رجلاً لا يماري ولا يوارب..

يذكر الأشياء بمسمياتها الحقيقية

دون تمويه أو تزويق

ودون مبالغة أو تلفيق.

فإن دعاه الواجب للإنخراط في عمل سياسي أو دبلوماسي يعلن منذ البداية عن أهدافه ومراميه بكل صراحة وتجرد..

وإن عمل في متجر يفصح عن أية عيوب في البضاعة ينبغي للمستهلك أن يكون على علم بها، وبالطبع إن عرف صاحب العمل بإفصاحاته تلك سيقول له "ما هكذا تورد الإبل يا سعد" ويصرفه دون إبطاء.

وباختصار، هذا الإنسان – الحقيقة أو الإنسان الحقيقي هو على درجة عالية من الشفافية الكاشفة ويتوقع ممن يتعامل معهم أن يكونوا مثله فلا يرغب به أصحاب المصالح ويتحاشون التعامل معه.

وتبقى الحقيقة غنية بروعتها

مجيدة بقوتها

ساطعة بنهجها

والفقراء هم الذين يجافونها

لأن الإبتعاد عنها فقر وإملاق

وتضحية بالمبادئ والأخلاق

-----------

قال مفكر إغريقي يحمل إسم ديموفيلوس:

"العابثون الطائشون هم كالآنية الفارغة التي يسهل الإمساك بها من آذانها"

استرعى انتباهي هذا التشبيه الظريف الذي ينطوي على حقيقة مؤكدة.

فالناس يصبحون عابثين طائشين عندما لا يستشعرون الحاجة للتفكير المجدي والتمييز الدقيق.

ونتيجة لذلك يسهل التأثير عليهم واستغلالهم وإقناعهم بأشياء وتصرفات قد لا تكون في صالحهم، بل قد تجلب عليهم الوبال.

ومن هنا تبرز الحاجة لوضع الأمور على مشرحة التفكير الجاد وعدم التهور والإندفاع أو الإنصياع غير المحسوب في اتجاهات وتوجهات غير واضحة المعالم.

ولذلك قيل:

أنفع العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون.

---------------

حوارية الجوارح

قالت العين: إنني دائمة البحث عن جمال لا ينفصل عن الخير.

وقالت الأذن: لا يطيب لي سماع سوى ما يحرّك المشاعر الطيبة ويحبب المآثر النبيلة.

وقالت اليد: توصلت إلى قناعة قاطعة بأن الذي خلقني لم يصغني سوى لإسداء الخدمات وعمل ما يستحق التدوين في سِفر الحياة.

وقالت الرجل: لا قدرة لي إلا على السير في المسارات المستقيمة.

وقال اللسان: الألفاظ المستقبحة أعجز من أن تعرب عن ذاتها من خلالي.

فابتهج القلب وقال: أكرمتموني، إذ بنهجكم هذا حررتموني من الملوثات والإرهاق.

----------

الإسكندر وملكة الصين:

----------------------------

لما تم لاسكندر ما تقدم ذكره من فتوحات سمعت به ملكة الصين فأحضرت من أبصرَ صورته ممن يعرف التصوير وأمرت أن تصوّر صورته في جميع الصنائع خوفاً منه.

فصوروهُ على البُسط والأواني واليافطات ثم أمرت بوضع ما صنعوه بين يديها وصارت تنظر إلى ذلك حتى تثبتت من معرفته.

فلما قدم عليها اسكندر ونازل بلدها قال يوماً لمستشاره الخضر: قد خطر لي شيء أقوله لك.

قال: وما هو؟

قال: أريد أن أدخل هذه البلدة متنكراً وأنظر كيف يقوم الناس بأعمالهم فيها.

قال: افعل ما بدا لك.

فلما دخلها الاسكندر نظرت إليه الملكة من الحصن فعرفته بالصوَر التي عندها فأمرت بإحضاره. فلما مثل بين يديها أمرت به فوضع في حفرة لا يُعرف الليل فيها من النهار.

بقي فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب حتى كادت قواه تنهار، فاضطرب عسكره لأجل غيبته والخضر يسكنـّهم ويسليهم.

فلما كان اليوم الرابع مدّت ملكة الصين مائدة بطول نحو مائة ذراع ووضعت عليها أواني الذهب والفضة والبلّور، وملأت أواني الذهب باللؤلؤ والزبرجد وأواني الفضة بالدرّ والياقوت الأحمر والأصفر وأواني البلور بالذهب والفضة ووضعت من المال ما لا يعلم مقداره إلا الله، وما في ذلك من شيء يؤكل.

ثم أمرت بأن يوضع في أسفل المائدة صحن فيه رغيف من الخبز وإناء فيه شربة من الماء، وأمرت بإخراج الاسكندر.

أجلسته على رأس المائدة فنظر إليها فبهره ما رآه وأخذت تلك الجواهر ببصره، لكنه لم يرَ شيئاً للأكل.

ثم نظر فرأى في الطرف الآخر من المائدة الصحنَ والإناء فقام من مكانه ومشى إليهما وجلس عندهما وأكل. فلما فرغ من أكله شرب من الماء قدر كفايته وعاد إلى مكانه.

خرجت الملكة عليه فقالت له:

يا سلطان بعد ثلاثة أيام ما صدّ عنك هذا الذهبُ والفضة والجوهر سلطان الجوع وقد أغناك عن هذا كله ما قيمته درهم واحد. فما لك والتعرض لأموال الناس؟

أجابها الإسكندر: لكِ بلادك وأموالك ولا بأس عليك بعد اليوم.

فقالت له: إن فعلتَ ذلك فلن تخسر.

ثم قدّمت له جميع ما كانت قد وضعته على المائدة ومن المواشي شيئاً كثيراً مع 300 فيل فقبل هديتها ورحل عنها.

المصدر: دائرة معارف البستاني (طبعة 1878)

-------------

على تابوت الإسكندر:

جاء في المجلد الثالث من دائرة معارف البستاني (الصفحة 553) ما يلي:

لما مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم، وكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فوقفوا عليه، فقال كبيرهم: ليتكلم كل واحد منكم كلاماً يكون للخاصة معزيّاً وللعامة واعظاً، ووضع يده على التابوت وقال:

أصبح آسر الأسرى أسيراً.

وقال آخر: هذا الملك كان يخبّئ الذهب فصار الذهب يخبؤه.

وقال آخر: ما أزهد الناس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت.

وقال آخر: من أعجب العجب أن القوي قد غـُلب والضعفاء لاهون مغترّون.

وقال آخر: هلاّ باعدتَ من أجلك لتبلغ بعض أملك؟ بل هلاّ حققت من أملك بالإمتناع من وفور أجلك؟

وقال آخر: جمعتَ ما خذلك عند الإحتياج إليه... فجمعت لغيرك وإثمه عليك.

وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك! فمن كان له عقل فليعقل ومن كان معتبـِرا فليعتبر.

وقال آخر: رب حريص على سكوتك إذ لا تسكت وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلم.

وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلا تموت وقد ماتت.

وقال آخر: وقد كان صاحب كتب الحكمة: قد كنتَ تأمرني أن لا أبعد عنك واليوم لا أقدر على الدنو منك.

وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شره ما كان مدبراً وأدبر من خيره ما كان مقبلا. فمن كان باكياً على من زال ملكه فليبكِ.

وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب.

وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولا وعرضاً! ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها؟

وقال آخر: اعجبوا ممن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال والحطام البائد والهشيم النافد!

وقال آخر: أيها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا في ما لا يدوم سرورهُ وتنقطع لذته فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغي والفساد.

وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي.

وقال آخر: الذي كانت الأذان تنصت له قد سكت، فليتكلم الآن كل ساكت.

وقال آخر: سيلحق بك من سرّه موتك كما لحقتَ بمن سرّك موته.

وقال آخر: ما لك تقِلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقل بملك الأرض؟ بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد؟

وقال آخر: دنيا يكون هذا في آخرها، الزهد أولى أن يكون في أولها.

وقال صاحب مائدته: قد فرشتُ النمارق ونضدتُ النضائد ولا أرى عميد القوم.

وقال صاحب بيت ماله: قد كنتَ تأمرني بالإدخار فإلى من أدفع ذخائرك؟

وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طـُويتَ منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب.

وقالت زوجته روشنك: ما كنت أحسب أن غالِب دارا Dara يُغلب، فإن الكلام الذي سمعته منكم فيه شماتة فقد خلف الكأس التي شرب بها ليشرب بها الجماعة.

وقالت أمه حين بلغها خبر موته: لئن فقدتُ من ابني أمره فلم يُفقد من قلبي ذكره.

--------------

يا لبساطة هذا الشاعر!

عثرت على قصيدة قصيرة لشاعر مغمور إسمه (سيسل كايل) في مجلة قديمة نافدة الطبعة، فأعجبت بالقصيدة واستعنت بمحرك البحث غوغل في محاولة لمعرفة المزيد عن الشاعر وعن باقي أشعاره فلم أجد أثراً يذكر له باستثناء بعض معلومات عامة عن عدة أشخاص حملوا نفس الإسم، دون الإشارة إلى أي منهم كشاعر أو أديب. ولعلها قصيدة يتيمة لم ينظم سواها، أو ربما نظم غيرها لكن لم يحتوها كتاب يحمل إسمه.

تصورت هذا الشاعر وسط حقول الذُرة وقد شعر بما يشبه النشوة فجسّد مشاعره في هذه الكلمات التي أترجمها هنا ببعض التصرف، آمل أن تستمتعوا بها أصدقائي.

يقول شاعرنا المغمور:

يا لروعة حقول الذرة الخضراء

الملتمعة في شمس الصباح!

يا لخضرة ونضرة نبات الذرة

ويا للبهجة التي يزرعها في القلب

ذلك اللون السندسي البديع!

الذي يلمع كالحرير الناعم

ويتوامض كوهج الزمرد الأخضر

في فصل الربيع.

East-West: 1933

----------------

قصة نافذة المستشفى

رجلان كانا يعانيان من مرض خطير، تم وضعهما في نفس الغرفة في إحدى المستشفيات. أحدهما كان يُسمح له بالجلوس في سريره لساعة واحدة بعد الظهر لبزل السائل من رئتيه، وكان سريره بالقرب من النافذة الوحيدة في الغرفة. أما الرجل الثاني فقد تحتم عليه أن يظل طوال الوقت مستلقياً على ظهره.

وكان الرجلان يمضيان ساعات طويلة يتجاذبان أطراف الحديث. تحدثا عن زوجتيهما وعائلتيهما وبيتيهما وعملهما وخدمتهما العسكرية والأماكن التي زاراها أثناء الإجازات.

وبعد ظهر كل يوم، عندما كان الرجل الذي بالقرب من النافذة يجلس في سريره، كان يمضي الوقت وهو يصف لزميله الأشياء التي كان يراها من النافذة.

هذا الوصف جعل زميله يشعر بالحياة تدب فيه من جديد بفعل تصوّر ما كان زميله يصفه له، فاتسع عالمه وانتعشت نفسه بنشاط وألوان وحيوية العالم الخارجي.

كانت النافذة تطل على منتزه وعلى بحيرة جميلة، حيث كانت طيور البط والإوز تسرح وتمرح، في حين كان الأطفال يبتهجون بركوب القوارب العصرية، والأحباب يسيرون يداً بيد بين الزهور ذات الألوان البديعة، وحيث المباني العالية يمكن رؤيتها عند خط الأفق.

وعندما كان الرجل الذي بجانب النافذة يصف هذه المشاهد الخلابة بتفاصيل مدهشة، كان الرجل الذي في الركن الآخر من الحجرة يغمض عينيه ويتصور المناظر البديعة.

وذات مرة راح الرجل الذي عند النافذة يصف موكباً فخما يمر في تلك الناحية. ومع أن الرجل الآخر لم يستطع سماع الجوقة الموسيقية، لكنه تمكن من رؤيتها بعين عقله لأن زميله وصفها له وصفاً حياً وبدقة متناهية.

مرّت أيام وأسابيع، وذات صباح أتت الممرضة إلى الغرفة فوجدت الرجل الذي بقرب النافذة قد فارق الحياة. وعندما أصبح سريره شاغراً سأل الشخص الآخر الممرضة إن كان بالإمكان وضعه في سرير زميله الراحل، فلبت الممرضة طلبه بسرور. وحالما اطمأنت لراحته تركته وحيداً في الغرفة.

ببطء وألم، وبمساعدة مرفقيه تمكن من الجلوس قليلاً ليلقي أول نظرة له على العالم الحقيقي في الخارج، لكنه فوجئ بأن النافذة تطل على جدار يحول دون رؤية أي شيء آخر.

وعندما حضرت الممرضة إلى الغرفة سألها الرجل عن السبب الذي حدا بزميله الراحل كي يصف تلك الروائع خارج النافذة.

فأجابت الممرضة أن الرجل كان كفيف البصر ولم يتمكن حتى من رؤية الجدار، ثم أردفت قائلة:

"ربما أراد بذلك تشجيعك وإدخال البهجة إلى نفسك"

------------------

تحت شجرة الجوز

--------------------

حلمتُ أنني في طريقي إلى قمة جبل قائم خلف بيتي الريفي عند سفح الهضاب، للتمتع بمنظر شروق الشمس وللإصغاء لنداء طائر السُمن.

واصلت السير إلى أن استرعى انتباهي رجلٌ صغير كان يجلس تحت شجرة جوز بري.

لاحظت أن الشيب قد وخط شعره فأضفى عليه مشحات فضية تشي بأنه قطع شوطاً من العمر لا بأس به. أما وجهه فكانت عليه مسحة من براءة الأطفال.

ابتدرته بالتحية، قائلا: "صباح الخير".

فأجابني مبتسماً: " كل صباح هو صباح خير."

قلت: "من المؤسف أن النهار يعقبه ليل."

فردّ ذلك الرجل الصغير الغريب: " الليل جميل كالصباح، ورائع كالظهيرة."

عرّفته بنفسي فقال:

"إسمك يخصك ولا يمكن أن تحصل على إسم أفضل منه."

قلت: "وهل لي أن أعرف إسمك؟"

أجاب: " لديّ أسماء كثيرة، ولا إسم لي. نوديت بالعديد من الأسماء، لكن ما من واحد منها يصفني على حقيقتي أو يفصح عن هويتي."

سألته مستعلماً: "وكم مضى على وجودك في هذا المكان؟"

أجاب: "من قبل أن يفكر الناس بالزمان والمكان."

قلت: "وكم تتوقع أن تبقى هنا؟"

أجاب: " إلى أن يكف الناس عن العيش في الزمان والمكان."

قلت: "ألا تشتهي زيارة أماكن أخرى؟"

قال: "فقط عندما يتمكن أحدهم من إقناعي أن هناك أفضل من هنا، وأن الآتي أفضل من الآني."

دعوته قائلاً: "هلاّ رافقتني إلى المدينة؟ فالناس بحاجة إلى حكمتك!"

أجابني ببساطة: "وماذا سأقول أو أفعل لهم؟"

قلت: "باستطاعتك تقويمهم."

أجاب: "أظن أن لديهم ما يكفي من مقوّمين، كما أنني لا أعتقد أنهم بحاجة إلى تقويم، لأن الله سبحانه خلقهم بداية في أحسن تقويم، وبما أن الكمال لا يخضع للنقصان، فلا حاجة لهم للتقويم."

قلت معترفاً: "ربما كنتَ مُحقـّاً فيما تقول، لكن معظم هؤلاء أموات، وهم بحاجة إلى من يوقظهم ويعرفهم بأنهم في أحسن تقويم."

أجاب: "إن كانوا أمواتاً فمن القسوة إيقاظهم، لأن الموتى لا يشعرون بالألم."

توددت إليه قائلاً: "حتى وإن لم تكن لديك من رسالة لأهل مدينتي، تعال معي على أية حال وستكون زيارتك مُجدية ومجزية، ففي المدينة كنوز لم تحلم بها ولم تخطر لك على بال، حتى وإن كنت تظن أنك سيد الأحلام. تعال يا رجل وستجد حُباً وجمالاً وموسيقى ودراما وكتباً رائعة، وما لا يقع تحت حصر من معجزات العلم."

وما أن انتهيت من مخاطبته حتى سقطت ورقة من الشجرة، فتهاوت في الفضاء ثم حطت في حضنه. أمسك بها للحظات ثم قال:

"هل تعتقد أن كل علوم الإنسان قادرة على تعليل دقائق الأسرار المتصلة بهذه الورقة؟"

فتح يده فسقطت الورقة بصمت على الأرض. ثم ابتسم وأسبل عينيه.

East-West Magazine

------------------

بين الإسكندر ومعمّرين لا يضحكون ولا يحزنون

قيل أنه لما (غادر الإسكندر الصين) سار حتى وقع على أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون؛ يقسمون بالسوية ويحكمون بالعدل ويتراحمون. حالهم واحدة وكلمتهم واحدة وأخلاقهم مستقيمة وطريقتهم مستوية وقبورهم على أبواب بيوتهم، وليس لبيوتهم أقفال، وليس عليهم أمراء ولا بينهم قضاة ولا منهم أغنياء ولا فقراء، ولا أشراف ولا ملوك.

لا يختلفون ولا يتفاضلون ولا يتنازعون ولا يتسابّون ولا يقتلون ولا يضحكون ولا يحزنون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس. وهم أطول الناس أعماراً وليس فيهم فظ غليظ.

فلما رأى ذلك ذو القرنين عجب من أمرهم وقال:

أخبروني أيها القوم خبركم.

قالوا: سل عما تريد.

قال: ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟

قالوا: عمداً فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ولئلا يخرج ذكره من قلوبنا.

قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أقفال؟

قالوا: ليس فينا متهم وليس منا إلاّ أمين.

قال: فما بالكم ليس عليكم أمراء؟

قالوا: لا حاجة لنا بذلك.

قال: فما بالكم ليس عليكم حكام؟

قالوا: لأننا لا نختصم.

قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟

قالوا: لأننا لا نتكاثر بالأموال.

قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟

قالوا: لأننا لا نرغب في ملك الدنيا.

قال: فما بالكم ليس فيكم أشراف؟

قالوا: لأننا لا نتفاخر.

قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟

قالوا: من صلاح ذات بيننا.

قال: فما بالكم لا تقتلون؟

قالوا: لأننا سُسنا أنفسنا بالحكم.

قال: فما بال كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟

قالوا: لأننا لا نكذب ولا نخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً.

قال: أخبروني من أي شيء تشابهت قلوبكم واعتدلت سرائركم؟

قالوا: صفت نوايانا فنـُزع بذلك الغِل من صدورنا والحسد من قلوبنا.

قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟

قالوا: لأننا نقتسم بالسوية.

قال: فما بالكم ليس فيكم فظ غليظ؟

قالوا: من التواضع لربنا.

قال: فلأي شيء أنتم أطول الناس أعماراً؟

قالوا: لأننا نتعاطى بالحق ونحكم بالعدل؟

قال: فلأي شيء لا تضحكون؟

قالوا: لأننا وطـّنا أنفسنا على البلاء مذ كنا أطفالاً فأحببناه وحرصنا عليه.

قال: فلأي شيء لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟

قالوا: لأننا لا نتوكل على غير الله.

قال: أهكذا كان آباؤكم؟

قالوا: نعم. وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ويواسون فقراءهم ويعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساء إليهم ويحلمون على من جهل عليهم ويصِلون أرحامهم ويؤدون أمانتهم ويحفظون وقت صلواتهم ويوفون بعهودهم ويصدقون في مواعيدهم فأصلح الله بذلك أمرهم وكان حقاً عليه أن يخلفهم بذلك في عقبهم.

فقال ذو القرنين: لو كنت مقيماً عند أحد لأقمت عندكم.

المصدر: دائرة معارف البستاني

---------------

حوار بين عقلاني ومحب

----------------------------

قال العقلاني:

لديّ غريزة أصلية لتشريح الحياة..

لتفتيتها والنظر إليها مجردة..

هذه الغريزة هي حادة كالفكر

ومتهورة كاندفاع الشباب.

فأجاب المحب:

وأنا أيضاً لديّ حافز قوي

يدفعني لا لتشريح الحياة

بل لتقديرها ومحبتها.

وبخلاف غريزتك، فإن حافزي

هو أعمى كالحب

ومرفرف كفراشات الحقول.

فردَّ العقلاني:

أريد العثور على جذور الحياة.

وأريد اكتشاف معناها وأهميتها.

فكما أن الحروف والكلمات والكتب

هي مجرد رموز للتعبير عن فكرة

فلا بد أن تكون على هذه الشاكلة

كل الفصول والأغاني والأغصان والأوراق

التي تضفي على شجرة الحياة رونقاً

وهي بذلك تحاول أن تقول كلمة

يبقى معناها مخبوءاً

تحت الأوراق والنمو والإنحلال.

ولذلك، أحاول بالعقل

البحث عن تاريخ كل ورقة

وسيرة كل زهرة

والصفات الموروثة في حبوب اللقاح

وأسلاف الجذور

وكيمياء كل نقطة من عصارة النبات

التي تبقيها نابضة بالحياة.

فأنا باحث عن المعرفة

وإكراماً للمعرفة سأواصل البحث.

فالحياة سر غامض

وإذ يخفق الناس في حل لغز الوجود

يحيطونه بأوهام من نسج الخيال.

فقال المحب:

أما بالنسبة لي

فأريد التعرف على الحياة ومصادقتها.

ولذلك أدنو منها

لا كناقد بل كمحب

إذ يحز في قلبي أن أشرّحها

وأقطـّع أوصالها كالجزار.

وليتك تعلم كم أتشوق لمعرفة المزيد

عن شبابها وحبها ومجازفاتها

ودوافعها وأناشيدها وتنهداتها

وما تنطوي عليه كل هذه من معانٍ

كي أصبح هادراً كالحياة التي لا تقاوَم

لا تقهرني العواصف

ولا يغلبني الإجهاد

ولا تهزني الأعاصير الحلزونية

ولا تعميني العواطف العاتية

ولا تصد مسيرتي الأحداث المزعجة

أو يحرفني سوء الظن من مساري.

أحب الدردشة مع الحياة

تحت أشعة القمر

وفي ضوء الشمس

والإنجازات النبيلة

والأحزان الصادقة

والإخفاقات المحفزة

والأفراح النابضة.

أريد أن تحدثني الحياة

عن وفرة الربيع

وحيوية الشتاء

وكيف يحلـّي الصيف الفاكهة

ويقضي الخريف على الأوراق العتيقة

ليفسح المجال لتجديد شجرة الحياة.

أريد أن أحب

وبالحب أريد معرفة

ما تعرفه الحياة.

East-West: Inner Culture Magazine

----------------

الكتابة مسؤولية

هناك من أبدع في استخدام وشحن الكلمات بمغناطيسية شخصية.

والإحتمال كبير بأنه فعل ذلك لكي يتفاعل القارئ بكل جوارحه مع فكرته أو أفكاره المطروحة .. ويتأثر بحالته النفسية دون القدرة على تجاوزها اللهم إلا بتمحيص ليزري ثاقب لتلك الأفكار وإخضاع المادة المقروءة لمعايير أدبية - بأكثر من معنى - تتمثل في:

مدى تناغم الكاتب مع القيم والمبادئ العليا وتطبيقها على حياته.

الهدف من الكتابة:

هل هو الشهرة؟

أو تحصيل المال؟

أو محبة بالقارئ ورغبة في إيصال أفكار سليمة ونافعة له

بحيث تفتح آفاقاً جديدة في عقله

وتوسع نطاق مدركاته المعنوية

وتثري تجربته الحياتية؟

الكتابة مسؤولية ويجب أن تكون الكلمة مسؤولة كالعهد، لأن هناك من يتطلعون إلى الكتّاب ليسترشدوا بأفكارهم ويستفيدوا من تجاربهم ويترسموا خطاهم ولو إلى حين.

العالم مشحون بالسلبيات، فلتنطلق الكلمة مشحونة بطاقة إيجابية وأماني طيبة، كما لو كان مستقبل وسعادة أعز الناس إلى الكاتب يتوقف عليها.

ولتكن الكتابة بمثابة رسالة من القلب

إلى أقرب الناس إلى القلب.

---------------

عندما أمضي

للشاعر الصوفي جيمس ورنك

يا أصدقائي، هل لكم أن تسْدوا لي معروفاً؟

عندما أتحرر من هذا الجسد وأغادركم

أعدّوا وليمة احتفاءً بالمناسة

وافرحوا لسلامي وحريتي

إذ مع أنني أتوقع بأن أكون سعيداً آنذاك

لكن الشيء الوحيد الذي قد يزعجني

هو أن أراكم وقد خيّم عليكم ظل الحزن.

لذلك احتفلوا بانتقالي

حيث يمكنني أن أنظر إلى فرحكم

وأعلم أنكم أكرمتموني وأحببتموني

مثلما سأواصل محبتي لكم أيضاً.

لقد عشتُ طويلاً في هذا الحصن

الذي يدعوه الناس جسماً مادياً

واستمتعت كثيراً بسحر الطبيعة

الحاذقة في نسج الأحلام العذبة.

ولقد حباني الرب بالكثير من الرؤى

وتذوقت ثمار الجنة

وقطفت كل زهرة من زهور الجمال

التي عثرت عليها على دروب الحياة.

لقد ضحكت وأحببت ورقصت

وصدحت بأغانيَ على مسارات الزمن

حتى أثقل نعاس الغناء جفوني

وعما قريب سأخلد للراحة

لكن لن يطول سكوتي

لأن في أعماق روحي

نبعاً من الفرح الأبدي

الذي لا بد أن يعرب عن ذاته باللحن والنغم.

لن أكون أقل مما أنا عليه الآن عندما أفارقكم

لكنني سأكون أكثر إدراكاً لذاتي.

سأسابق الريح

وأجري مع المياه

وسأبتسم مع وميض النجوم وأشعة القمر

وسأشدو من حناجر الطيور المفتتنة

وأتراقص مع ورق الشجر في الغابات

ومع كل ذلك لن أتخلى عن هويتي الروحية

ولن أهجر كينونتي الأبدية

بل سأوسّع قلبي

وسأتنعم بحياة أكثر اكتمالاً.

فاحتفوا يا أصدقائي عند رحيلي

وسأحضر معكم بالروح لأستمتع بالوليمة

مع أنني سأكون قد استيقظت في الفجر الجديد

الذي بانتظار كل محبي النور.

---------------

قطرة الأعماق

----------------

لكم تشبه تلك القطرة الصغيرة نفس الإنسان!

فهي دائمة المحاولة

للإعراب عن ذاتها

وبالتالي الرجوع إلى المحيط

عبر السواقي والجداول والجعافر والأنهار

لترفعها الشمسُ من جديد

وتسحبها السُحب كقطرة مطر

إلى صقع بعيد

فلا تهدأ ولا يقر لها قرار

بل تحركها أبدا الأشواق

إلى تلك الأعماق

التي شهدت ولادتها

والتي تناديها بصمت

وتشدها بقوة جاذبة

إلى قلبها الرحيب!

وهكذا هي النفس

التي تذرع أقطار الدنيا

ومع ذلك لا يهدأ حنينها

ولا يُطفئ شوقها إلا البحر الكوني

إذ مهما ابتعدت عن محيطها

تبقى دائمة الحنين للبيت

الذي فيه تكونت

ومنه انطلقت.

(كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل!)

East-West Magazine

RE 3-22

--------------

التلميذ وبوذا

---------------

للشاعر والأديب الفرنسي كاتول مانديس (1841-1909)

(ملاحظة: ليس المقصود من ترجمة هذه القصيدة التشجيع على انتهاج هذا الأسلوب من اللاعنف بل التعريف بنتاج الفكر العالمي)

قال التلميذ بورنا لمعلمه بوذا:

سأتسلق الصخور

وأعبر الأنهار سباحةً

وصولاً إلى أقاصي الدنيا

لنشر رسالتك.. رسالة السلام

التي تحمل العزاء

إلى القبائل النائية.

فاستعلم بوذا:

ولكن ماذا ستفعل لو أن تلك القبائل

استهزأت بك وأهانتك؟

أجاب التلميذ:

سأقول إنهم قوم نبلاء

لأنهم لم يذروا الرمال في عيني

ولم ينهضوا ليضربوني بأيديهم

أو يقذفوني بالحجارة.

فسأل بوذا:

وإن ضربوك بالأيدي والحجارة؟

أجاب التلميذ:

سأقول أنهم على قدر من الرقة ودماثة الطبع

إذ بالرغم من أن أيديهم مليئة بالحجارة لقذفي بها

لكنهم لم يهزّوا العصي والسيوف في وجهي.

فسأل بوذا:

وماذا لو أصابتك سيوفهم؟

أجاب التلميذ:

سأقول ما أنعم ضرباتهم التي تجرح ولا تقتل.

فسأل بوذا:

وماذا لو قضت عليك؟

أجاب: سأقول: ما أسعد من يفارق الحياة!

فقال بوذا: فاذهب إليهم مبارِكاً ومعزياً

Catulle Mendes

RE 2-22

------------

Positive as the earth is firm

ثابت، مؤكد كالأرض الصلبة المتماسكة

في هذا القول ربما أراد شكسبير أن يشبّه شيئاً معنوياً غير محسوس بشيء مادي ملموس لا تخطؤه العين ولا تنفيه حاسة اللمس.

وهذا دليل على أن الأمور المادية كانت في زمنه – وما زالت - معيار الثبات والتيقن والديمومة.

لكن الأرض ليست بذلك الثبات الشيكسبيري، فالزلازل والبراكين والفيضانات والانهيارات الطينية والصخرية تفعل فعلها بالأرض المتماسكة وتترك فيها آثاراً على مر السنين وربما العصور.

لا مفر أحياناً من استخدام عناصر مادية لإثبات حقيقة معنوية مثل:

بصفاء الذهب

وثبات الصخر

وصلابة الفولاذ

كناية عن النية السليمة والمبادئ الراسخة والعزيمة التي لا تنثني، وغيرها. وطبعاً الذهب والصخر والفولاذ كلها مستخرجة من الأرض التي أوحى لنا عبقري الأجيال بثباتها.

هي تشبيهات رائعة ولا شك، ولعلها ستكون أروع لو أكد الناس لبعضهم أن الذهب صافٍ كالنوايا الطيبة والمعادن صلبة كالإرادة الماضية والجبال ثابتة كالقيم والمبادئ الجوهرية.

ربما في عصر ذهبي قادم تتغير المفاهيم وتستبدل التشبيهات.

---------------

رائع .. وبديع!

----------------

هل أنت شعاعٌ

منبثق عن قلب كوني جبار

ينقش على جدران الصداقة

حكايا الوفاء

ويحرك نبضُه القلوب

فتهتز له وترتقص؟

أم أنك صورة حية

لخواطر نقية

رسمتها يدٌ بيضاء

على صفحة الوجدان؟

هل صُممتَ وتبلورتَ

في مصنع النور

فغدوتَ جوهراً غاية في الصفاء

يتنافس عليه الأصفياء؟

وهل أنت رداءٌ باهرٌ

يتردّى به محبوك

فيتشربون خواصه

التي تعصى على التقليد؟

أم أنكَ دليلٌ إلى أفقٍ شفاف

وكنوزٍ بانتظار الإكتشاف؟

رائع أنت.. وبديع!


January, 2015

--------------