غرق...

للشاعر مجذوب العيد المشراوي


لأن َ ما يبهج ُ الألوان َ حَمَّـلـَـنِي

براءة ً مِن ْ بَهَا تَنمُو وتَنطلِق ُ

لأن ّ َ نِصْـفِي به ِ عشـْـق ٌ ألازمُه ُ

ولا أريد ُ لـَه ُ ما يَـنـْـثـُرُ الأرَق ُ

لأنّ ما يزعج ُ الأيّام َ في طـُرُقِي

رجولة ٌ صانها من حَوْلي َ الخـُلـُق ُ

لذا َ أنا الشّارد ُ المجهول ُ يَقذفـُنِي

إلى مساءات ِ من ْ قّرَّبْـتـُهـُم ْ غـَرَق ُ

تقودُنِي كلّما غامرت ُ أمزجَتِي

ولا تنام ُ على أوجاعِنا الطّرُق ُ

مَن ْ ذاك َ بل ْ مَن ْ يُطيق ُ الجَمْر َ في بَدن ٍ

بل ْمَن ْ توَسَّدَ ه ُ في ليله ِ القلق ُ ؟

سأشعِل ُ اللـَّيـْـل َ في رُوحِي .. سَيُشـْعِلـُني

ورُبّمَا بـَاعَـنَـا مِنْ حُسْـنِهِ الشّفق ُ

يُسَافر ُ الماء ُ من حوْلِي وفي جسَدِي

وفي الرّمال ِ التي يَمْشي بها العَرَق ُ

يا أيّـُهَا الصّمتُ ما أغـْلاك َ مُنـْذ ُ أتَى

بجانِبي مَن ْ رَمَى في صَمْتِه ِ الفـَرَق ُ

سأعصر ُ العُمْرَ في وسْطِي .. أ ُجالِدُه

ليَبْسِمَ العُمْر ُ في جَنْبَيّ َ والرَّمَقُ

لا أدّعي أنني أعرف ما يجول في نفس الشاعر الكبير مجذوب العيد المشراوي.. إنما ما أعرفه جيداً هو أنه يضمّن أشعاره درراً تحتاج لإزاحة رمال ولكسر أصداف للوصول إليها والتمتع بروعتها.

وبما أنه رائد محلق في سماوات الفكر وغوّاص خبير في مجاهل الذات.. حاولت تتبع مساره.. ولو بالفكر والإجتهاد فكانت هذه المحاولة المتواضعة..

ما نعرفة أن الألوان هي التي تبهج العيون الباحثة عن الجمال وتجتذب النحلة الجادة في طلب الطلع والرحيق.

لكننا نرى الشاعر ينتقل من البهجة إلى مبعثها اللون فإلى المصدر الأولي.. ينبوع كل جمال وجلال. ذلك المصدر حمّل الشاعر براءة.. تلك البراءة التي لها أيضاً بهجتها التي نراها في الأطفال ذوي المشاعر المرهفة، الأكثر تناغماً مع الطبيعة وبدائعها.

تلك البراءة فيها شيء ينمو وينطلق.. ذلك الشيء ورد هنا بصيغة المؤنث إذ يقول (من بها)، بما يوحي أن ما يعنيه هي روحه التي تنمو بالبراءة وتنطلق إلى آفاق رحبة.. إلى فضاءات الفن الجميل والإيحاءات الراقية.. بعيداً عن القيود والحدود.

ثم يخبرنا أن العشق - وهو وحده يعرف ماهية ذلك العشق - دائم الحضور به.. ولأنه يلازم ذلك العشق بدل ملازمة العشق له.. فلعله يقصد عشق الأحوال التي تخطر على البال وتشد إليها الرحال!

هو يريد التواصل مع ذلك العشق في نشوة واعية واستغراق كلي.. حيث تتعطل المدركات الحسية ولا يقوى الأرق على إفساد المتعة الذوقية الفائقة العذوبة.

نتابع القراءة فنعرف أن للرجل طُرقاً تزعج الأيام التي هي جزء من العالم.. فللعالم طرقه وللشاعر طرقه أيضاً.. ولا تبدو هذه الطرق متناغمة لأن للشاعر نهجاً يختلف عن سواه.. فهو ليس كاللبن المخفف الذي يمتزج بسهولة بمياه العالم.. بل نجده كالزبدة الممخوضة من الحليب التي تطفو على سطح الماء دون أن تمتزج ذراتها بذراته.

تلك الزبدة هي رجولته التي صانها خلقه القوي القويم عن الذوبان في الأمواج المدّية التي تحيط به من كل جانب.

يعترف الشاعر أنه شارد مجهول يقذفه الغرق بدلاً من أن يحتويه. وكيف ذلك؟

هو شارد عن بهرجات يزخر بها العالم من حوله..

هو مجهول لمن لا يعرفه.. والحمد لله أنه ليس مجهولاً لنا..

يقذفه الغرق.. لأنه غير قابل للغرق.. فقد يحاول طوفان الدنيا أن يبتلعه.. لكنه يعجز فيجد أن قذفه إلى حيث هو لأسهل من ابتلاعه المتعذر أصلا..

هناك جانب به يحب المغامرة كأي إنسان.. لكن أمزجته التي هي أحواله هي التي توجّه مغامراته.. أما الطرق التي تحتمل أكثر من معنى، فقد يكون قصد بها طريقة خاصة له تتعاطف معه ولا تنام عن وجعه، فتواسيه عندما تعصف به الأوجاع.. وتوافيه بما يحب ويشتهي قلبه.

ثم يعترف أن في بدنه أشواقاً لاهبة كالجمر.. تستحيل إلى قلق. وهذا دأب الشوق أو الرغبة اللجوج التي ما لم تتحقق تتحول إلى أرق يقض وقلق يمض.

لكنه يعود ليؤكد لنا ولنفسه أنه لن يكون فريسة الأهواء ولا ريشة في مهب الأنواء.. بل سيشعل الليل في روحه.. وهذا معنىً جديد يطالعنا به ولعلنا لم نسمع به من قبل. هو يريد أن يشعل ظلمة النفس التي يدعوها ليلاً إلى أن يشعله ذلك الليل.. أي إلى أن ينقلب الظلام الباطني نوراً وهاجاً يشتعل في داخله فيحرق الكثيف حتى يظهر اللطيف. عندئذ يبزغ جمال روحه فيزيده شفق الاستنارة الذاتية ألقاً وحسناً.

ونراه يحدثنا عن ذلك الماء الذي يسري من حوله وفي جسده.. وفي الرمال التي يمشي بها العرقُ.

أتراه قصد إكسير الحياة أو الماء الحي الذي يحسه متدفقاً من حوله في كل اتجاه؟ بكل تأكيد هو يشعر بذلك الماء.. فهل هو طاقة روحية شبيهة بالطاقة الكونية تتخلل ذرات جسمه التي يرمز إليها بالرمال.. فتسري تلك الطاقة في دقائق الروح سريان العرق في خلايا الجسم؟! هو وحده يعرف ذلك.

لا أظن أننا ابتعدنا كثيراً عن سياحات شاعرنا المجذوب الموهوب.. فها هو يناجي الصمت.. يتحدث إلى السكون.. ليعرب له كم هو غالٍ على قلبه منذ واتاه.. ولعل حالاته التي يعيشها يلزمها الصمت أي السكينة التامة.. إذ تهدأ الحركات والخلجات لتظهر الحالات والمدركات!

هذا الصمت العزيز عليه يمنحه عزاءً لأنه يقرّب منه منية قلبه التي ببلوغها تتلاشى المخاوف وتتبدد الهموم.

ومسك الختام تصميمه القاطع على اعتصار العمر ومجالدته..

أجل.. سيستفيد إلى أقصى حد من هذه الفرصة الذهبية لوجوده الأرضي فيعتصر.. يبذل قصاراه للإستفادة من كل لحظة متاحة له.. مقارعاً تحديات الحياة بما أوتي من قوة.. إلى أن يبسم عمره بالبهجة وتغمر الغبطة كيانه فتتحقق غايته وتقر عينه.

والسلام عليكم

محمود عباس مسعود