خاطرات

محمود عباس مسعود


كم.. وكم

كم أدهشت الطبيعة بحللها المزركشة من شاعر

وأذهلت ظواهر الوجود من عقل أريب.

وهل كان الإنسان سوى مقلـّد

لبراعة القوى العليا وإبداع العقل الكلي المهيمن؟

لكن ما السبيل لإتقان المحاكاة أو لمحاكاة الإتقان؟

أنجعل القلبَ واسعاً كالمحيط؟

والصدرَ رحباً كلانهائية الفضاء؟

أنتشبه بالأرض التي تسند من يقف عليها؟

أم بشجرة الفل التي تنثر زهورها

على من يعبث بأوراقها ويهز غصونها؟

أم بالشمس التي تشرق على الجميع؟

أم بفصل الربيع

الذي يبذل رياحينه وزهوره بكل سخاء

مجسداً معاني العطاء؟!

سؤال يحيّر الألباب

يبحث عن جواب!

إلى أن نلتقي

تذكرت المنزلَ الأول

وهزني الشوق لأهل الجبل ورفاق الماضي.

لقد ودّعتُ خلاني

وأودعتُ روحي ذكراهم.

ومن له القدرة على سلوان ما ارتسم في الخاطر؟

ما نسيتُ الواحات الظليلة في نفوسكم يا أصدقاء

وكم أيقظتْ شمسُ محبتكم في نفسي صبابة الحنين!

وسمعتُ الحياة تشدو وتنشد روائعَ ألحانها من قلوبكم الطيبة

وكأنني ما فارقتكم إلا بالأمس..

فها هي ذكراكم دائمة التجدد في خاطري

تتحدى النسيان.

وها أنا أتحدث إليكم من هذه الصفحات.

فإلى أن نلتقي، إن كان من لقاء

تحية من القلب يا أصدقاء

ومودة دائمة النبض.

البشاشة

قيل أنها تقصّر المسافات الطويلة وتخفف الأعباء الثقيلة، وتزيل الظلال الكثيفة من قلوب وأفكار المصممين على امتلاك التفاؤل وبهجة الروح.

عندما تتلبد الغيوم في أفق النفس ينبغي ألا نمعن تحديقاً في أكداسها الربداء، بل لنستمتع بمرأى خيوط الضياء المحيطة بها كهالات فضية بديعة.

التقطيب داء والبشاشة دواء.. والمسرّة الذاتية تعين على تحمل أعباء العيش وإنجاز واجبات الحياة.

النفس التي تعثر على سعادتها الآن لن تؤثر فيها مفاجآت الأيام، وستتمكن من مواجهة الصعاب والتجارب المريرة بابتسامة عذبة مطمئنة لا تعرف الخذلان.

الصديق البشوش كشمس الضحى التي تغمر الأرجاء بفيض أشعتها البهية البهيجة، وتبدد ظلال الهموم وغيوم الكآبة من أفق النفس.

البشاشة فضيلة.. وهي كرذاذ الفجر لبراعم الأزهار الغضة.

البشوش مبعث انتعاش، وهو مرغوب ومطلوب على الدوام.

فتباركت القلوب السعيدة المتجهة دوماً شطر منابع الغبطة العليا لتشرب وتسقي الآخرين حتى الارتواء من سلسبيل الحياة المباركة.

طلـَبَتْ مني السنون

حلَّ الشتاء بردائه الأبيض الزنبقي البارد

وتناومت رغائبي لمباهج الصيف.

وقيل لي كي ألتمس دفءَ قلبك الحنون..

وإذ أطلَّ الربيعُ راقصاً، مزداناً بشتى الزهور..

مضمخاً بعطر الحقول والروابي.. قيل لي كي أحبك يا إلهي.

وأتى الصيفُ منشداً ألحانه الخضراء في الأوراق الغضة وحفيف الحور وهفيف الصنوبر،

فألحَّ عليّ كي أنشد لك..

وحتى التربة الطرية القلب داعبت قدميّ المتعجلتين

والتمستْ منهما الاقتراب من محرابك الكلي الوجود.

وقالَ لي الشذى الناعم كي أتتبع مساره..

إلى هيكلك القدسي في قلب الورود والرياحين المتمايلة.

والطيور قالت لي كي أغني لك مثلها..

والنسيم المتماوج فوق الغدران والسواقي

أوقظ فقاعات محبتي لك فراحت تمرح فوق صدرك الكبير.

ومع ألياف العشب المنحنية بهاماتها تعلمت كيف أنحني

وأسجد لك يا رب.

والبخور أيضاً حدثني عن روائع أريجك البديع

وكيف ينبغي أن أحتفظ بقلبي مليئا بعطرك القدسي أمام عرشك اللانهائي.

والأحجار الصغيرة الخرساء الصابرة قالت لي كي أبصرك حتى في الذين يحاولون سلبي سعادتي..

وطلبتْ مني السنون المنسية كي أرسل لأخوتي البشر رسالة محبة ووداد مغلفة في كل دقيقة وثانية..

وكل فكرة قالت لي كي أبحث عنك في قلبها..

وأوحى لي حبي كي أحب كل الموجودات بكَ..

وهمس حبي لي كي أحبك بما أوتيت من قوة يا إلهي.

المعلم برمهنسا يوغانندا

الترجمة: محمود عباس مسعود

الشِعر

قيل أن الشِعرَ هو تثبيتٌ للظلال

وإقامة ُ الدليل على حقيقة اللاشيء.

ويقال أيضاً أنه نفحة ٌ علوية

أهداها الإيقاع الكوني إلى أنفس شفافة

تبدو لطافة الأثير إزاءها كثافة.

فالتأثر بتناغم الطبيعة وجرْسها المنسجم

هو اقترابٌ واع ٍ أو لا شعوري من إيقاع الوعي الكلي

ومحاكاته حساً وتفكيرا.

الشعر هو موسيقى الخواطر التواقة والمشتاقة

إلى ما هو أرقّ وأرقى..

وأنغام الأمل الأخضر في مروج الحنين.

وهو الحلل المشرقة التي ترتديها ملائكة الوحي والإلهام

والباعث السامي لمعاينة كل ما هو صالح وجميل.

الشعر هو الشعور في أسمى حالاته.

وأعمق نظراته

وأدق خطراته

وأصفى قطراته

وأسطع أقباسه.

الثلـــج

يا من هيّجتَ أشجان رشيد أيوب

وذكـّرته بأهله وخلانه..

هكذا أحسّ كلما رأتك عيناي ولامستك يداي.

لقد نثرتكَ أناملُ السحب..

فتهاديتَ بصَمتك المعهود..

وعانقتَ الثرى.

في رقعك التقت بسمات النور

وهمسات الليلك الأبيض.

ما جئتَ إلا موحيا بالنقاء وصفو الخواطر

ولا تتلوث إلا بعد أن تخطر فوقك الأقدام

ويمازجك هباب المداخن.

لكنك تنبثق من الأعالي

وتلازمك روح النصوع

حتى عندما تستحيل ذوباً

وتحملك أجنحة الشمس

إلى المنفسح الرحيب.

ألا ليت الضمائر تتشبه بنظافتك

فتتنقى من الغث و’الغلث‘

وتستيقظ من سكرة الخداع.

الرقـــي

على دعائم الخلق النبيل يبني الرقي صروحه

وبرياحين المعرفة الأكيدة يزيّن حدائق فهمه

وبروح الجمال يسقي بساتين ذوقه.

هو انفتاحٌ وجداني

وتهذيب ذاتي

ونضج عاطفي.

هو الاستقرار في المجتمعات

واحترام الآراء وتقديس الحريات.

المجتمع الراقي هو الذي يسن ويستقي قوانينه من منابع العدالة

ولا يفسح مجالا للمحسوبيات التي يعتبرها من المحظورات.

فيه ضمانة العيش الكريم

وفي آفاقه ترفّ رايات العدل والمساواة

وتشع أنوار الحرية واستقلالية التعبير.

يعرف التضامن، لا التطاحن.

التعاون، لا التشاحن.

ويسود بنيه المحبة والخدمة والتضحية.

وكل نفس راقية تحن لذلك المجتمع

وتفتدي ترابه المقدس بالروح والدم.

الفـــن

ما حُرم الإنسانُ من الدافع الخلاق

فروح الإبداع عميقة الجذور في كيانه.

الحياة تعبيرٌ

ورغبة ٌ ملحة للإفصاح ِ عن شيء دفين

وثيق الصلة بترقية الذوق وصقل المواهب.

الفن إبداعٌ، وقيمته تكمن بمدى اقترابه من الحقيقة

التي تتراءى أطيافها في دنيا المنظور.

فإن ماثل العبقرية الكونية

ولو بالمحاكاة والتقليد

اتسم بطابع الوحي والإلهام.

وإن باينها كان أقرب إلى التشويش والاضطراب

حتى ولو عُدَّ تفرّدا وأصالة.

الفن الجميل والأصيل هو الذي يستوحي روعته

من الجمال المطلق الذي تعشقه العقول ذات التركيز

والأذواق التي تحسن التمييز.

إن من يستلهم روح الحياة تتوارد إليه الإلهامات لطيفة نظيفة

أما المتحرر من القيم الجمالية الحقة

فلا ’يبدع‘ غير النشاز

ولا ’يخلق‘ إلا التنافر وعدم الانسجام.

بساط الأثير

تهللنا لمقدمك يا ربيع

وقلنا استضافنا النوار والشعاع

وأمّت النسائمُ ربوعَنا

تنفح أنفاسها العِطرَ والأريج.

أي درس لنا بك يا فصل الزمرد والعقيق؟

يا من تتهادى بين سندسك ملائكة الأمل

ويسري مع خيوط قرصك الذهبي الدفءُ والنماء!

الأحاسيس تنشط وترقص حبورا كلما جئت باسما

فتفرح بمجيئك القلوب

ويرتسم افترار براعمك في العيون.

كأنك قطعة حية من حقول الأثير.. إلينا تطير

لتذكرنا بربيع دائم

حيث لا يذوى وردٌ

ولا يخبو ألق.

ترتحل فتصبو إليك النفوس

وتشتاق عودتك العيون

لأنك لوحة من لوحات السماء

موشاة بالنضرة النابضة بالحياة.

فيا ليتَ زيارتك تطول

يا أجمل الفصول!

إلى الطفولة

لقد باعدت ما بيننا الأيام

لكن أثراً منكِ ما زال حياً في عمق الشعور

رسمته ريشة الطهر على صفحة الوجدان يا طفولة!

أي حس ٍ لم تحركه الألوان الزاهية المتألقة؟

وأي مسامع لم تهزها طرباً أغاريد وزغاريد الطيور؟

أم أي عين لم تلحظ محاسن الطبيعة في بواكير العمر؟

أيام كان النقاء ملء الصدور

والبراءة تحاكي صفاء النجوم في ليالي الصيف الدافئة.

حقبة رشفنا إبانها رحيق العمر

والعمر بأيام البهجة يقاس.

ولكم ذهلنا لمرأى الشفق الباكي

وعشنا لحظات خالدة مع الطبيعة بتنوعها

وهي تجلو آيات حسنها وفرائد عبقريتها.

مزيداً من الأحاسيس الغابرة يا طفولة

فرب لحظات سعيدة نعيشها من جديد

تقربنا خطوة من مشارف الأثير

وتعيدنا ثانية إلى قلب الحياة.