المعالي: وقفة مع مفهوم

ومَعالٍ إذا ادّعاها سِواهُمْ

لَزِمَتْهُ جِنايَةُ السُّرّاقِ

هذا البيت هو من قصيدة مطلعها:

أتُراها لكَثْرَةِ العُشّاقِ

تَحْسَبُ الدّمعَ خِلقَةً في المآقي

امتدح بها المتنبي أبا العشائر الحسن بن حمدان العدوي.

لا أعرف كثيراً عن أبي العشائر هذا بخلاف ما أفاض عليه شاعر الدهر أبو الطيب من ثناء يبدو أنه جاوز به قدر الممدوح، ربما لتحريك أريحيته وبسط يده في سخاء لا يقل كرماً عن لسان المادح فيحدث التكافؤ وتكون واحدة بواحدة! ولعل لسان حال قائل (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) همسَها خفيضة لأبي العشائر: وتأتي على قدر المديح الغنائمُ!

عندما قرأت البيت أعلاه، قلت هذا يصلح مادة لموضوع عن المعالي التي كان شاعرنا العبقري يطمح لبلوغها بكل ما أوتي من قوة، وقد يكون أقنع نفسه ببلوغها عندما جهر عالياً: أي مكانٍ أرتقي؟ أي عظيمٍ أتقي؟

لكنه عندما قال : ومَعالٍ إذا ادّعاها سِواهُمْ لَزِمَتْهُ جِنايَةُ السُّرّاقِ

برّأ نفسه من جناية السرقة والسراقين تاركاً المعالي لأهلها، مستعيضاً عنها بهبات سخية وتحف سنية أوقع في النفس من تجريدات نظرية يلجأ لاستخدامها عندما تمس الحاجة لمكسب من الوزن الثقيل، ثقـّل الله ميزانكم يوم تخف الموازين.

كلمة المعالي توحي بالإرتقاء والسمو وبلوغ الشأو الرفيع.

وهذا الإرتقاء الذي قرنه أبو الطيب بشخوص أولياء نعمته هو مفهوم رحب وجليل ولكل من يتطلع لبلوغه حق وحصة فيه، وقد تكون أسهل السبل لوصوله أقلها ظهوراً وأكثرها شفافية وأوقعها في النفس أثراً، ولا حاجة أن تلزم الطامح لبلوغ هذا الصنف من المعالي جناية السراق لأنه قد يكون صادقاً، لا يدعي ما ليس فيه ولا يتطفل على غيره بما لا يحرك فيهم عواطف راقية ويوقظ بهم مشاعر نبيلة ويستثير خيالهم البكر من مراقده.

نسمع ألقاباً مألوفة مثل: صاحب المعالي وصاحب السمو وغيرها من ألقاب، ولا ضير من ذلك، فقد يكون المنعوت مستحقاً لها لسمو في نفسه ومعالٍ في سجيته وارتقاء في أفكاره وشهامة في طبعه وكرم في أخلاقه.

وفي تقديري المتواضع

فإن كل من يتعاطف مع الآخرين

فيجبر خاطراً كسيراً

ويبدد يأساً ممضاً

ويرفع غشاءً كئيباً

ويحترم حقاً طبيعياً

ويعطي من قلبه قبل يده

ويفتح نوافذ أمل

ويوحي ثقة بالنفس

ويشع بفكرة مضيئة

ويهبّ بنسمات تشجيع رخية منعشة...

لا يدعي المعالي

بل هي التي تسعى نحوه

وتتشرف بالإنتساب إليه.

ما عدا ذلك

الدخان أيضاً يصعدا عالياً؟

والسلام عليكم

محمود عباس مسعود