مارد الباطن


الكائن المجهول أو مارد الباطن

كلما تقدمنا على الطريق وأخذت مداركنا الروحية بالتفتح نشعر أننا في مواجهة معارضة قوية من داخلنا. لكن هذا الشعور هو مجرد وهم ليس أكثر، فالعكس هو الصحيح. والطبيعة الغريبة المحيّرة، المتقلبة ذات النزوات المفاجئة لذلك "الكائن المجهول" في داخلنا تبدو وكأنها تغتذي على مقومات عصية الوصف مستقاة من عوالم عسيرة المرتقى لوعينا البشري.

هذا الكائن يبدو أنه يقيم في مكان غير منظور، ويمكن تشبيهه بشخص من كوكب آخر، يحل ضيفاً علينا مع أنه لا تربطنا به صلة من حيث الاهتمامات والأفكار والعادات والمطامح والتطلعات البعيدة.

هذا الكائن المجهول يبدو أنه يمتلك أفكاراً عن العالم الآخر أعظم بما لا يقاس وأكثر دقة من أفكارنا عن ذلك العالم. ويُخيّل إلينا أنه لا يمتلك سوى فكرة واهية عن الضرورات الملحة والاحتياجات العملية المتصلة بوجودنا الأرضي.

صديقنا المجهول يبدو أنه يتجاهلنا، مستغرقاً دون شك بأمور كثيرة تتصل بالكون وأسراره التي لا تعد ولا تحصى. وعندما يتذكرنا ويريد إسعادنا يُحدث حِراكاً عجيباً يبدو لنا غير منطقي فيفقدنا توازننا ويقلب موازيننا ويجعلنا في حيرة من أمرنا.

غالباً ما نعتقد أن ذلك الكائن المجهول يهزأ بنا ويسخر من قدراتنا وكأنه يتلهى بعقولنا دون أدنى مراعاة لمشاعرنا ودون تعاطف مع حالاتنا وأحوالنا. وفي بعض الأحيان يبدو أنه يكدّرنا ويغاضبنا ولا يقدّم لنا مَكرمة تشكر أو منفعة تذكر.

هذا الكائن يبدو قادراً على الإتيان بالخوارق واجتراح المعجزات على اختلافها، لكنه بالرغم من وجوده في داخلنا يصعب علينا التواصل معه والانتفاع من قدراته غير المحدودة وقواه الخارقة.

هذا الكائن الخفي يمكن تشبيهه بالطفل المدلل الذي سُمح له بامتلاك أسرار السموات والأرض. فهو يستخدم تلك الأسرار ويتحكم بتلك القوى على هواه دون زاجر أو رادع.

يبدو أنه يعرف كل شيء لكنه يجهل الطريقة الصحيحة لاستخدام تلك المعرفة. أما يداه فمليئتان بالكنوز التي ينثرها ويبددها في الاتجاه الخاطئ وفي الوقت غير المناسب.

نراه يعطي الخبز للعطشان والماء للجائع (ويطعم الحلاوة للذي بلا أسنان).

يغمر الجاحدين بالعطايا ويحرم المتسولين من الهبات.

يلاحق الهاربين منه ويهرب من المتشوقين للقائه.

ما هي تلك القوة الخفية التي تشحن المرء أحياناً بطاقة غريبة عجيبة تسابق الرياح والأشباح؟

ما هي تلك القوة التي ترفع وتخفض مستوى الإهتزاز والطاقة بحيث تساعد الشخص على موازنة درجة حرارته لدى الخروج من غرفة دافئة في صباح يوم بارد وبالعكس؟

ذلك الكائن المجهول يعمل بمهارة فائقة لا تخطر أبداً على بال الكيميائي البارع أو المهندس الحاذق.

أيجوز أن تلك القوة يمكن استجماعها خلال هذه الفترة الحياتية القصيرة على هذه الأرض؟

كلا يا أصدقائي، لقد استغرق ذلك "الغريب" ملايين السنين لإتقان هذه الآلة الجسدية التي نعزوها للحواس الخمس. على سبيل المثال مستحيل للعقل الواعي أن يعرف المقدار الدقيق لكمية السكر التي ينبغي ضخها في الدم. فلو نقصت تلك الكمية أو زادت عن الحد لجاءت النتائج كارثية.

إننا نقف وجها لوجه أمام قوة لا نعرف الكثير عنها، ويجدر بنا أن نتعرف عليها. والطريقة الأنسب لذلك هي نقض ما تعلمناه لغاية الآن وتحضير أنفسنا على طريقة المعلم العظيم عندما قال: "لن تدخلوا الملكوت ما لم تصبحوا كالأطفال."

وبعبارة أخرى ما لم يصبح الإنسان متقبلا ببساطة الطفل ونقائه وإيمانه فلن يتمكن من إحراز تقدم روحي يذكر.

التأمل العلمي ربما يكون أسهل السبل للتعرف على تلك القوة الباطنية الخفية، لكن معظم الناس لا يمتلكون الحافز الكافي للتأمل ويفضلون بلوغ تلك المعرفة بطرقهم الخاصة، أو بالجلوس في السكون – حتى ولو كان الفكر كالإعصار مندفعاً في كل اتجاه. وقد يقول البعض: "لا بد أن أبلغ تلك المعرفة في تجسدات قادمة ولست في عجلة من أمري. وقد يوقظني وعيي الباطن يوماً ما، ولكن لا حاجة لبذل المجهود الواعي لتحقيق ذلك."

لا يهم كم هو عمرنا وكم مرة فشلنا في حياتنا، أو ما هو رأي الآخرين بنا. ولا يهم المورثات التي نحملها أو الظروف التي نعيشها. كل هذه لا تهم بالنسبة للضيف الخفي الذي يسكن في داخلنا. كل ما يريده منا هو أن نسمح له باستخدام أجسامنا وطاقاتنا وعقولنا ووعينا وتسليم زمام أمورنا له في كل صغيرة وكبيرة. هذا ما ينبغي أن نفعله إن نحن رغبنا في بلوغ القمم التي في انتظار قدومنا.

عندما نتأمل أحداث حياتنا أليس صحيحاً أننا ندرك أن قوة خفية قد وجـّهتنا وجنبتنا الكثير من المخاطر؟ ولكن بمجرد مرور الخطر بسلام ما أسرع ما ننسى تلك القوة!

تلك القوة لم ولن تتركنا إطلاقاً. وفي كل مرة نحتاج لها تكون دوماً حاضرة لمساعدتنا، تماماً كما قال المعلم العظيم: "ها أنا معكم حتى انتهاء العالم."

إن قرأنا سِير العظماء من الرجال والنساء على مر الأجيال نلاحظ أنه في كل حادثة مهما كانت صغيرة، ومهما كان الأسلوب المتبع، سواء بالدعاء الحار أو التأكيد العميق، كانت النتيجة دائماً واحدة.

هذا المارد المقيد في داخلنا هو في حركة دائبة دائمة كي ينطلق من عقاله مرة وإلى الأبد. فمتى سنفك قيوده بكيفية واعية ونتبعه إلى حيث الحرية والنصر؟

فلنبدأ الآن ولنمنح المارد الباطني الفرصة وسنجد كم ستحلو الحياة وتشرق بأنوار البهجة والنصر بعونه تعالى.

والسلام عليكم

ترجمة: محمود عباس مسعود