مغامرة الحياة: ماهيتها

المعلم برمهنسا يوغانندا

الترجمة: محمود مسعود

الحياة هي أكبر مغامرة يمكن أن يتصورها الإنسان. ومع أن حياة البعض ليس فيها الكثير من التشويق والإثارة إلا أن حياة الآخرين ملأى بالاختبارات المدهشة. لقد سمعت عن رجل حاول الإنتحار لأكثر من ثلاثين مرة، وفي كل مرة كان يحدث ما يصده عن وضع نهاية لحياته. تصور كم هو رائع أن يعرف المرء عن حياة كل البشر الموجودين على الأرض والذين ارتحلوا عنها وأيضاً الذين سيفدون إليها! إن كل اختبارات البشر محفوظة في الذاكرة الكونية: ذاكرة الله، ويا لها من ذاكرة عجيبة. من الصعب الإحاطة بوعي كلي المعرفة، ومع ذلك فإن معرفة الروح الكلي هي المغامرة الأعظم في الوجود.

الحقائق أكثر واقعية وثباتاً وجوهرية من الخيال، ومع ذلك فإن مصدرها جميعاً أفكارٌ في عقل الله. والمادة الذرية بأسرها هي أيضاً أفكار إلهية مجسّدة يمكن إذابتها ثانية إلى أفكار ثم تجسيدها مرة أخرى إلى أشياء. الإنسان أيضا يمتلك المقدرة على تصوّر الأفكار لكن خياله ليس قوياً بما فيه الكفاية لتجسيدها. ولو أصبح خياله على قدر كاف من القوة لتمكن من خلق أشياء على هذه الأرض. الإنسان يمتلك في داخله نفس القوة الخلاقة التي بواسطتها جسّد الله خلائقه العقلية في العالم. ولكن أصبح مستحيلا على الإنسان أن يجسّد أفكاره إلى أشياء لأنه لم يستخدم قوة العقل الممنوحة له من الله كما يجب.

عندما نحاول تصوّر وعي الله نتعجب كيف يمكنه تذكـّر واستيعاب كل شيء، لأننا نقيس كل شيء بمقياس قدراتنا العقلية وندرك الأمور بحسب تجاربنا الشخصية. صاحب الذاكرة الضعيفة يميل إلى الإفتراض أن ذاكرة الجميع ضعيفة كذاكرته. ولكن هناك أشخاص يتمتعون بتذكر نادر بحيث يمكنهم أن يتذكروا كتاباً بكامله بنفس السهولة التي تستطيع بها تذكـّر أسطر قليلة. كثيرو النسيان يصعب عليهم التصديق بأن هناك من يمتلك ذاكرة لاقطة وقادرة على تخزين واستعادة المعلومات المخزنة فيها بسهولة بالغة.

الجوهري يتذكر جواهره، وماسك الدفاتر يتذكر أرقام دفاتره. وبالمثل فإن الله يتذكر كل شيء خلقه في هذا الكون. وكونه كلي القدرة فإنه يتذكر على الفور كل ما حدث في هذا الكون لأن وعيه المطلق والغير محدود كلي المعرفة.

الذاكرة هي بحد ذاتها قدرة عجيبة. وذاكرة الإنسان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بذاكرة الله الجبارة. مثال على ذلك لا يمكنك أن تذكر تفاصيل كل الأفلام السينمائية التي شاهدتها في حياتك. ولكني لو أريتك أحد تلك الأفلام مرة ثانية لتذكرته على الفور. فتلك الذاكرة المقدسة الكامنة في داخلك هي دائمة التعرف على الإختبارات السابقة. وحالما ترى المَشاهد الأولى تستعيد أحداث القصة بكاملها وتقول: "أوه، لقد رأيت هذا الفيلم من قبل، وأذكر كيف كانت النهاية."

كيف يتسنى لنا تذكر الصور المتحركة بكل تفاصيلها مع أننا قد رأيناها منذ سنين؟ لأن كل الأحداث مسجلة في الدماغ. فحالما تضع إبرة الذهن على اسطوانة اختبار ما (أو تقوم بتشغيل جهاز الأقراص الذهنية المضغوطة)، تبدأ ذاكرتك باستعادة ذلك الإختبار ثانية.

قدرة الذاكرة الباطنية تأتي من الله وهي غير قابلة للخطأ. إنها لا تنسى أبداً. ذاكرة الشخص العادي لا تستطيع استيعاب كل الاختبارات مرة واحدة. لكن الذاكرة المقدسة الكامنة تحتفظ بكل شيء في آن واحد وعلى الدوام. لذلك فإن الذاكرة الجيدة أو الضعيفة هي مجرد قناعة ذاتية. الإنسان أقنع نفسه أن ذاكرته ضعيفة فلذلك يمتلك ذاكرة ضعيفة. ومع ذلك فليس من السهل القفز من هذا الإعتقاد إلى نقيضه. الحاجة تمس إلى مجهود كبير كي تقنع ذاتك أن ذاكرتك هي بالفعل مظهر لذاكرة الله المقدسة الكلية التذكر.

إن أعظم ذاكرة بشرية ليست سوى شعاع من وعي الله المطلق المدوّن فيه كل مغامرات البشر وكل صور ومظاهر الحياة الأخرى.

حكاية الخلق الإلهي هي حكاية رائعة ومدهشة! كيف أتى الله إلى الوجود بكل الكائنات الموجودة على هذه الأرض؟ وكيف يعمل من وراء الحجب والستائر ليعيدنا إلى وجودنا الحقيقي به؟ مستحيل أن تسعفنا لغة البشر في تقديم وصف شامل للمغامرة الكونية لخليقة الله وتقاطعاتها الدقيقة مع المغامرات الفردية لأعداد لا تعد ولا تحصى من بني البشر.

نجد أن متوسط عمر الإنسان حوالي السبعين عاماً، في حين متوسط عمر التمساح من ستين إلى مائة عام. أما شجرة الخشب الأحمر فتعمّر لألفي عام. متوسط عمر الجمل هو من خمسين إلى ستين عاماً، والحصان حوالي ستة وثلاثين عاماً على أكبر تقدير. من البديهي إذاً أن كائناً ما قد حدد هذه الأعمار المتعددة. ومع ذلك فإننا نسمع عن بعض اليوغيين العظام ممن عاشوا لمئات السنين. أحد هؤلاء هو العظيم باباجي الذي أعلم علم اليقين أنه عاش على مدى قرون وهو ما زال حياً في جسده ويتمتع بشباب تام. كما أن ترايلانغا سوامي عاش قرابة الثلاثة قرون: فهو ولد في عام 1601 وتوفي عام 1881 ميلادية (بل أن هناك من يقول أن عمره تجاوز الثلاثة قرون!) وبالإضافة إلى عمره الخارق للعادة فقد اشتهر بمعجزاته. أما وزنه فكان حوالي 130 كيلوغراماً مع أنه نادراً ما كان يتناول الطعام. بل غالباً ما كان يتأمل لأيام بطولها متربعاً فوق مياه نهر الغانج، أو يظل مستتراً أحياناً لفترات طويلة تحت الأمواج. وكثيراً ما كان يشاهد مستلقياً دون ثياب ودون حراك في حرارة الشمس اللاهبة فوق الصخور الحارقة. وتجاهله الإعتيادي لقوانين الطبيعة كان مذكـّراً دائماً لكل من رآه أن التوحد مع الوعي الإلهي هو أسمى القوانين على الإطلاق.

وكما ورد في مذكرات يوغي: السيرة الذاتية فإن عظماء القديسين الذين استيقظوا من حلم الخداع أو الوهم الكوني وتحققوا أن الكون هو مجرد فكرة في العقل الإلهي يستطيعون أن يفعلوا ما يرومونه بالجسد، عالمين بأنه ليس سوى شكل من القوى المركـّزة أو المجمّدة. ومع أن علماء الطبيعة يدركون الآن أن المادة ليست سوى نشاط محبوس، فإن المعلمين كاملي الإستنارة قد قطعوا شوطاً متقدماً في مجال ضبط المادة وانتقلوا من النظري إلى التطبيقي.

فعلا أن الحقيقة أروع من الخيال. بإمكاننا أن نتصور أنه تحت الظروف الملائمة، وإن لم يكن هناك تبذير للجوهر الحيوي أو السائل المنوي، ومع توفر التغذية المناسبة والتفكير السليم، يمكن إبقاء الجسم البشري حياً لوقت غير محدود. السائل المنوي يحتوي على طاقة حيوية مركزة، فإن لم يُسرف تظل القوة كامنة به ويمكن استخدامها لتعزيز الصحة الجسدية والحيوية والنفسية إضافة إلى الإبداع العقلي والنمو الروحي.

ملاحظة للمترجم: وفي هذا الوارد يقول الرئيس أبو علي ابن سينا:

اجعلْ غذاءكَ كلَ يـــــــوم ٍ مرة ً واحذرْ طعاماً قبلَ هضم ِ طعام ِ

واحفظ ْ منيَّكَ ما استطعتَ فإنهُ ماءُ الحياةِ يُراقُ في الأرحـام ِ

الضغوط على الجسد هائلة. عندما تعلق الفأرة في المصيدة يخفق قلبُها بسرعة تفوق كثيراً المعدل الطبيعي. وعندما يعجز الشخص عن دفع فواتير الحساب يفعل قلبه بالمثل! وهكذا يأخذ القلق النفساني ضريبته ويسدد ضربته! كما أن هناك أنواعاً أخرى للإجهاد. يقال أن التجارب المعملية أثبتت أنه لو تم التخلص من الضوضاء في المدن فلربما زاد ذلك بمعدل عشر سنين في أعمار المواطنين. ومع ذلك فإننا نعيش في عالم مدهش. أما الذين لا هم لهم في الحياة سوى الأكل والشرب والنوم والاستمتاع بأطايب العيش فحظهم قليل من معرفة عجائب الحياة البشرية.

المغامرة تبدأ بالكفاح الذي تمر به الروح لدخول الرحم وقت الحمل. ففي العالم الكوكبي أو الأثيري توجد ملايين الأرواح التي تحاول جاهدة العودة إلى الأرض عن طريق دخول الخلايا المخصبة لاندغام الجراثيم المنوية بالبويضات وقت الحمل. وسواء كان الروح قديساً أم خاطئاً، وما لم يكن قد بلغ التحرر النهائي، فهناك رغبة قوية للتجسد ثانية على الأرض. عند الحَمل يومض ضوء في الأثير فيدخله أحد الأرواح لمجرد اتحاد الخلايا المنوية بالبويضة. لقد نازعَ الإنسان لولوج الرحم، لأن هناك أرواحاً كثيرة تسارع للدخول. والذين فازوا هم أنت وأنا وأنتم. ولم يكن فوزاً سهلاً!

حقاً أن هناك منازلَ كثيرة عند الله. فالمستويات الأثيرية العليا أو السفلى، المكوّنة من نور شفاف وطاقات حيوية هي الجنة (أو النار) التي تذهب إليها الأرواح بعد موت الجسد المادي. إن مدة الإقامة هناك تـُقرر مسبقاً بحسب كارما الشخص. وما دام للإنسان رغبات مادية لم تتحقق، أو كارما أرضية (نتائج الأعمال السابقة التي لم يتم استهلاكها) فينبغي أن يعود الإنسان للتجسد على الأرض كي يتابع تطوره في طريقه نحو الله.

بعد دخول الرحم يتساءل الروح: "ماذا فعلتُ؟ لقد كنتُ طليقاً لفترة طويلة، متحرراً من الجسد البشري المقيَّد والمقيِّد، أنتقل بيسر وسهولة على صفحة الأثير في جسم نوراني، وها أنا الآن قد علقت ثانية في شكل مادي."

ومع ذلك يتعود تدريجياً على هذه الحالات الجديدة إبان الشهور التسعة في الرحم. ذلك هو العقاب: تسعة شهور من العيش في زنزانة معتمة يُحتم عليه فيها التنفس من خلال شخص آخر، والحصول على الغذاء والدم من خلال الإعتماد على الدورة الدموية لشخص آخر. يكون الروح والحالة هذه عالة على غيره، يصرخ لله: "أخرجني من هذا السجن! لا أستطيع أن أرى، لا أستطيع أن أسمع، إنني مقيّد."

إن كان هناك من جحيم أو مَطهَر فهو تلك الأشهر التسعة في جسم الأم: عجز تام وسط الظلام، وتقييد في نقطة واحدة كالشجرة مع بعض ذكريات الماضي المتواردة، ثم فترات من النوم. وعندما تعاود ذكريات الماضي الجنينَ يرتقص باذلاً جهوداً جبارة في جسد الأم. لقد قمتُ بتحويل وعيي إلى هذه الحالات لما قبل الولادة وأعرف ما أقوله.

نوم الجنين ويقظته في جسم الأم لا يتوقفا على نومها ويقظتها. حركة الجنين المدفوعة بالإرادة هي ناجمة عن تذكر الروح لماضيها. وهكذا يتحرك بقلق في بطن الأم إلى أن يتملكه الإعياء فيخلد للنوم. بعدها يستيقظ لبعض الوقت ويتحرك ثانية. يشعر بالجوع وبإشباع جوعه عن طريق الغذاء المنتقل إليه عن طريق دم الأم.

الوليد يسمع نوعاً ما الاهتزازات الصادرة عن ضربات قلب الأم ودورتها الدموية، وهذه الأصوات تجعله على دراية بجسمه فيتوق للتحرر. وهكذا فإن مغامرة الروح الأولى هي صراع بين فكرتين: أمنية العودة إلى الأرض في صورة بشرية والرغبة في التحرر من الشكل البشري المقيّد للروح.

يبدأ غلاف الروح البشري (الجسد) كالسمكة بذنب دقيق. بعدها تتطور تلك الصورة إلى شكل حيواني ملتف في الرحم. وكما أسلفنا تتوارد بعض ذكريات الحياة الماضية فيتحرك الجنين حركة ضئيلة. ويشتد الصراع مع نمو الجنين إلى صورة بشرية في جسم الأم فتصرخ الروح "أخرجني". وعندما تصبح الإرادة قوية جداً يولد الطفل. الأطفال الخدّج (المولودون بعد فترة حمل تقل عن 37 أسبوعاً) هم أرواح ذوو إرادة قوية وعناد كبير . فهم لا يريدون البقاء لتسعة شهور في جسم الأم ولذلك يولدون أبكر من المعتاد.

يأتي الرضيع إلى هذه الدنيا باكياً لأنه كما يقول الحكماء العارفون تتذكر النفس تجسداتها السابقة ولا ترغب بفكرة العودة إلى الأرض ثانية لتعاني ضروب الكفاح البشري من جديد.

{عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثـقِيلِ فَأَصْبَحَتْ بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ

تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى بِمَدَامِـــــعٍ تهْمِي وَلَمَّا تُقـْْلِــعِ}

وفيما يتعلق بهذه الذكريات هناك أيضاً وضع التوسل الذي يضم به الجنين يديه قبل قدومه إلى العالم كما لو كان يبتهل: "أتوسل إليك يا رب بأن لا تمنحني ولادة أرضية ثانية."

التعليل الفسيولوجي لبكاء المولود هو أن الرئتين يجب أن تنفتحا لتبتدئ عملية التنفس، وأن صرخة المولود الأولى هي مجهود لتشغيل الرئتين وابتداء نسمة الحياة. عندما يولد الطفل يبدأ التنفس، والروح التي كانت شبه نائمة تصبح كائناً حياً بحياة مستقلة. كثيرون يعتقدون من قبيل الخطأ أن الروح تدخل الجسد وقت الولادة، ولكن لم لو تكن الروح هناك فعلا لما تكوّن الجسم من الخلايا الأصلية الدقيقة. فلو فارقت الروح الجنين قبل الولادة لجاء المولود ميتاً.

جسم الإنسان مكوّن من ستة عشر عنصراً مادياً أساسياً يسندها وينعشها تسعة عشر عنصراً من الطاقة الشفافة التي تمثل جوهر الجسم الأثيري الموجود داخل شكل الإنسان المادي. وهذا الجسم الأثيري هو مصدر الحركة والنشاط في الجسم المادي. وعناصر الجسم الكوكبي التسعة عشر هي أمور فكرية وعاطفية وحيوية. والمركـّبات التسعة عشر هي الذكاء والذات (الأنا) والشعور والعقل الظاهر (الوعي الحسي) وخمس أدوات للمعرفة هي الأقسام المقابلة لحواس النظر والسمع والشم والذوق واللمس، وخمس أدوات للفعل هي نظيراتها الفكرية للقوى التنفيذية المتعلقة بالتناسل والإفراز والنطق والمشي والمهارة اليدوية. وخمس أدوات لقوة الحياة مُنحت القدرة على القيام بوظائف الجسم الخاصة بالتبلور والامتصاص (تمثيل الطعام بعد هضمه) والتخلص من الفضلات والاستقلاب أو الأيض (تحويل الغذاء في الجسم إلى مادة حية أو استخدامه لتزويد الطاقة) والدورة الدموية. وهذا الغلاف الكوكبي الشفاف ذو التسعة عشر عنصرا يبقى بعد فناء الجسم الفيزيقي ذي الستة عشر عنصرا من العناصر الخشنة. هذه العناصر يمكن تحويلها كلها إلى وعي بحت بممارسة أساليب اليوغا المتطورة.

عندما يولد الطفل تطرف عيناه لمرأى النور، يسمع الأصوات، يشم ويتذوق ويتنفس. الأصوات تبدو طبيعية بالنسبة له ويدرك أنه يحيا في جسد مادي من جديد. مقاومته السابقة للولادة تتوقف مع تنفسه للمرة الأولى. وعندما يطغى عليه الوهم بأن "الوجود" يعتمد على الجسد والتنفس ينجذب نحو العالم المادي ويتعود عليه تدريجياً.

ومع مرور الزمن يبذل الطفل مجهوداً كبيراً للتحكم بجسمه. فكم من مرة تراه يدفع يديه وقدميه في الهواء في محاولة للتكيف مع الجسد! هذا يتم بتوجيه من اللاشعور عن طريق تذكر الروح لماضيها. الذاكرة موجودة دوماً. الإنسان يخشى الموت غريزياً لأنه يتذكر المرات العديدة التي عانى بها تلك التجربة، كما يخشى الألم أيضاً لأنه تألم كثيراً من قبل.

عندما ينمو المولود إلى طفل صغير يخضع لتأثير الأبوين والأقرباء. كل واحد يريده أن يكون مختلفاً، بما في ذلك رفاقه الأشقياء الذين يريدونه أيضاً أن يكون مثلهم ويماشيهم في سلوكهم وتصرفاتهم! ووسط هذه الصراع يشعر الطفل بضغوط كثيرة. ومع ذلك فإن الصغار الذين يحصلون على قسط كبير من الحرية يقولون متأسفين فيما بعد: "يا ليت أهلي أخبروني عن النتائج المؤذية لسلوكي، إذ لو فعلوا فلربما كنت أحسن حالاً مما أنا عليه الآن."

كثيرة هي المجاهدات السيكولوجية والنفسية التي يحتم على الشخص أن يمر بها قبل أن يصبح شاباً. في تلك المرحلة يزداد نشاط الحواس ويكون الشاب أو الفتاة في معركة كبيرة مع النفس. الصراع مع الحواس شيء كبير، والنصر المبين بالنسبة للشباب هو انتصارهم على غرائزهم وكبح أهوائهم الجامحة.

رائع أن يكون الإنسان حياً، ولكن هناك عوامل عديدة بانتظار الفتك به. المغامرة مع الحيوانات المفترسة في أفريقيا هي لا شيء مقارنة بمغامرة الحياة نفسها. ولا توجد مغامرة في التاريخ تفوقها متعة وتشويقاً. الإنسان يعرف بفضل عقله كيف يحصّن ويحمي نفسه من الحيوانات الضارية لكنه لا يعرف كيف يصون ذاته من عاداته السيئة ونتائجها الضارة. إن ألد أعداء الإنسان هي نفسه. فأكثر من أي عدو، وأكثر من الجراثيم الفتاكة والقنابل المدمرة أو أي تهديد آخر يجب أن يخشى الإنسان نفسه عندما يكون على خطأ. عندما يعيش الإنسان بجهل مطبق بطبيعته الروحية ويسمح لعاداته السيئة بالسيطرة عليه يصبح عدو نفسه. وأفضل طريقة للفوز في معركة الحياة هذه هي مصادقة الإنسان لنفسه. ذاتُ الإنسان المتطورة روحياً هي صديقه وأما الذات غير المتطورة فهي عدوه.

من السهل أن نتصور أنفسنا ذاهبين لاستكشاف بلد متوحش مجهول. فإن كنا نزمع الذهاب بالسفينة ينبغي لنا أخذ قارب نجاة معنا بحيث إن غرقت السفينة يمكننا استعمال القارب فننجو بأنفسنا. ولكن في كثير من تجارب حياتنا يوجد تسرّب في قارب نجاتنا بالرغم من اتخاذنا لكل الإجراءات الإحترازية.

في دغلٍ يعجّ بالحيوانات المفترسة تستطيع أن تتخذ الحيطة والحذر إزاء تلك الوحوش، لكن قهر المخاطر الرقيقة الدقيقة هي أصعب بكثير. كيف للشخص أن يحمي نفسه من ملايين الجراثيم الدائمة الوجود حولنا. نظن أننا في مأمن عندما نحتاط للأخطار التي نستطيع رؤيتها وسماعها، لكن عتادنا غير كاف لحماية أنفسنا من الجراثيم. في الدورة الدموية تقاتل الكريات البيضاء هذه الجراثيم باستمرار. العقاقير لا تفلح إلا في تخديرها. كريات الدم البيضاء هي الجنود التي تتصدى لها وتفتك بها. إن كان دمك ضعيفاً فلن يقدر هؤلاء "الجنود" على مساعدتك. في رئات العديد من الأشخاص الآمنين المطمئنين تكمن عصويات السل الضارية، على أهبة الإستعداد للإنقضاض على مضيفها والقضاء عليه. الطبيعة تشكل حاجزاً واقياً لصد هجمات تلك الجراثيم، لكن مفعول ذلك الحاجز لن يدوم طويلا إن عجز الجسم عن المقاومة. هذا الصراع لا يتوقف في غابة الحياة غير المنظورة في داخلنا. لو أنك فحصت طعامك بالمجهر لما تذوقت الطعام. فالجراثيم تقيم فيه وليمة عامرة، وأنت تبتلعها كلها! حتى الماء الذي تشربه مليء بتلك العضويات الحية. لا يوجد نباتي واحد في العالم لأن الكل يلتهم ملايين الجراثيم كل يوم. فهل سيكف الإنسان إذاً عن تناول الطعام؟

ولكي يعبر الإنسان غابة الحياة بسلام يجب أن يجهّز نفسه بالأسلحة الملائمة وأن يكون جندياً جيد التدريب. مَن لا يعرف الطريقة الصحيحة لحماية نفسه يفقد حياته بسرعة. أما الحكيم المستعد لكل الإحتمالات من مرض وأفكار غير منسجمة وعادات سيئة وقـَدر عاتٍ وكارما غير مستحبة فينتصر في هذه المغامرة التي يلزمها الحذر والسهر وبعض الأساليب والطرق التي تمكننا من منازلة وقهر أعدائنا الباطنيين الأشد بأساً وشكيمة من أي عدو خارجي.

ومع مواصلة مسيرة الحياة نتعلم أساليب أفضل للتغلب على علل ومسببات أمراضنا الجسدية والنفسية والخلقية والروحية. وعندما نتخطى بسلام الأمراض الجسدية والصراعات النفسية نستطيع عندئذ القول أن الحياة كانت بالفعل مغامرة رائعة. ولكن ليس من الحكمة القول أن الحياة حلوة قبل إحراز النصر الحقيقي. وما لم يبلغ الإنسان المراحل الأخيرة وتتحرر نفسه في الله فالحياة لم تنته بالنسبة له. يجب أن يصعد في الروح وعندها ستكتمل آخر حلقات المغامرة.

عندما يرى الشخص شخصاً آخر متألما يحمد الله لأنه لا يمر بتلك التجربة الخاصة. ولكن من يدري فقد يكون دوره التالي. إن احتمالات الأذى للجسم كثيرة لا حصر لها، ولذلك يجب أن يكون الإنسان يقظاً ومستعداً لكل الإحتمالات والمفاجآت.

العالِم يقول: "تناول الغذاء النافع المغذي واتبع قوانين الصحة كي تحمي نفسك من الجراثيم." والسياسي يقول: "كونوا جنوداً شجعان كي تحموا أنفسكم وبلدكم من أعدائكم."

إننا نعيش فعلا في عالم غريب. وحتى الأمهات اللاتي تضرب بهن الأمثال في المحبة والحنان والتضحية يتم تدريبهن لقتل أولاد الآخرين. يا للفظاعة! ولكن بعض الخير يأتي أحياناً من الحروب، فهي تنزع منا الجبن وخور العزيمة.

غابات الحياة وأدغالها تموج بالأعداء من أمراض وفقر وتألم وعادات سيئة ورغبات خاطئة. وهناك أيضاً أمور كثيرة يجدر ملاحظاتها وقواعد ينبغي مراعاتها بحيث تصبح الحياة لا تطاق فيما لو حاولنا الإحتفاظ بها كلها في الفكر. التعقيدات باتت تطغى على كل نواحي الحياة وأصبح الناس كما لو أنهم في حالة من التنويم المغناطيسي. ولذلك آن الأوان لكي يحاول الإنسان أساليب مختلفة ويفعّل طاقات العقل وإمكاناته التي لا حصر لها.

لقد وهبنا الله وسيلة مدهشة للحماية. إنه العقل الأقوى من الرشاشات والكهرباء والغازات السامة أو أي دواء. وهذا العقل ينبغي تنشيط قواه وتقويته. إن قسطاً هاماً من مغامرة الحياة يكمن في التحكم بالعقل وإبقائه منضبطاً ومتناغما مع الله على الدوام. وهذا وحده سر من أسرار الحياة الناجحة السعيدة.

ومع أن الإنسان يستعمل وسائل وأساليب الشفاء المادية لكن ينبغي أن لا يضع ثقته فيها بل بقدرة الله من ورائها. ويجب أن نسأل الله كي يمنحنا الفهم والإرادة كي لا نتكل على الدواء بل نعتمد عليه وعلى قوة العقل بالدرجة الأولى.

الإنسان لم يُلقـَّن كيفية بلوغ تلك الحالة النفسية التي تتأتى بتمرين قوى العقل وبتناغمه مع الله بواسطة التأمل. ولكن يجب أن يصبح العقل تحت سيطرتك التامة قبل محاولتك نكران المادة ووسائل العلاج المادي. وما لم تملك ذلك فمن الأفضل اتخاذ الخطوات المنطقية لمساعدة الجسم. عندما يستطيع الإنسان القبض على الجمر الحي المتوهج دون أن تحترق يده يستطيع عندئذ نكران المادة والقول بأن العقل هو كل شيء، وإلا فالمادة موجودة ويجب التعامل معها ومع قوانينها بطرق منطقية وعملية.

كما أن الله قد منحنا سلاحاً لا يُقهر نستطيع بواسطته التخلص من كل الأحزان والآلام، إنه سلاح الحكمة الذي نحصل عليه بالتوافق مع الله. فأسهل طريقة لقهر المرض والخيبة والبلايا هو أن نكون في توافق دائم مع خالقنا.

الناس هم كالأطفال الصغار في أدغال الحياة، مضطرون للتعلم من اختباراتهم ومتاعبهم الشخصية، متعثرين بين خنادق وحُفر المرض والعادات السيئة. يجب أن نطلب العون مراراً وتكراراً وأن نحاول في أن تكون أفكارنا وأعمالنا منسجمة مع الله وقوانينه التي لا تتغير أبدا.

عندما تظلم الدنيا في عينيك وترضك صعوبات العيش تذكر أن الله قريب منك واشعر بأنك آمن مطمئن في قلعة حضوره. وبالرغم من كفاحك على دروب الحياة وتعرضك لكل المؤثرات الفتاكة، تذكر أنها ليست لتدميرك بل لتمتحن إيمانك وتصحي قواك الهاجعة. يجب أن نصمد في معركة الحياة وننازل كل الشرور المحيطة بنا لنهدمها ونهزمها بالقدرة الكلية للحضور الإلهي في داخلنا. وعند الإنتهاء من مغامرة الحياة سنقول: يا رب لقد كان من الصعب الإعتصام بالشجاعة ومواصلة الكفاح حتى النهاية، لكن القدرات التي منحتها لنا كانت أكبر من مخاوفنا، وبفضل تلك القوى العظيمة تغلبنا وأدركنا أننا مخلوقون على صورتك الإلهية. إنك سيد الأكوان وحاضر في كل مكان فممَ نخاف ومن نخشى ما دمت معنا؟!

ما أن يدرك الإنسان أنه أصبح كائناً بشريا حتى تتكاثر مخاوفه، ويبدو أن لا مخرجا منها. ومهما كانت الإحتياطات التي يتخذها تبقى هناك ثغرات تتسلل من خلالها الأخطاء. لا طمأنينة فعلية إلا في الله ولا سلام بدونه. وسواء كنا في أدغال أفريقيا أو في ساحات الحرب أو بين أنياب الفاقة والفقر يجب أن نهمس لله: إنني في مصفحة حضورك الذي لا يقهر يا رب! أزحفُ متقدماً في ميادين وجبهات الحياة. وأشعر أنني في حماك وحمايتك!

ما من سبيل آخر للأمن والأمان. استخدم العقل والمنطق في كل ما تفعله وضع كامل ثقتك في الله. الله يهتم بكل الذين يهتمون به ويحترمون قوانينه ويقبل كل الذين يتوجهون إليه بقلوبهم وأرواحهم فيفيض عليهم ببركاته ويجعل مددهم متواصلاً لا انقطاع له.

كثيرون سقطوا ضحايا المرض ووقعوا فريسة العادات الرديئة ولم ينتشلوا أنفسهم. لا ينبغي القول أن لا سبيل للإفلات والنجاة من أشراك الحياة المنصوبة في كل اتجاه. المحن والمصاعب التي تعترض الإنسان هي موقوتة وتتوقف على تصميمه وتفعيل إرادته للتغلب عليها الواحدة بعد الأخرى. الإخفاق لفترة زمنية محددة لا يعني الفشل في معركة الحياة. رجل النجاح والظفر يؤكد لنفسه دائماً وأبداً بأنه أقوى من الظروف وهو لا يخشى شيئاً ما دام مع الله وما دام الله معه، ويدرك في قرارة نفسه أن الحياة والموت هما حالتان مختلفتان من حالات الوعي.

لقد خلق الله كل شيء ليمتحننا وليظهر خلود الروح الكامن في نفوسنا. تلك هي مغامرة الحياة وغايتها الوحيدة. إن مغامرة كل إنسان هي فريدة من بابها، ويجب أن يكون على أهبة الإستعداد لمواجهة كل مشاكل الصحة والعقل والنفس بالفهم والإرادة والإيمان بالله، مدركاً أن روحه لا تموت مهما حدث للجسد. حقاً أن السلاح – أي سلاح – لا قدرة له على الفتك بتلك الروح. لا النار تحرقها ولا الماء يغرقها لأنها صورة الله الواحد الأحد.

رائع أن ندرك أن الموت ليس نهاية، إذ مع هذه المعرفة نكتسب قوة نفسية وتحرراً من الوهم. عندما يهجم المرض ويتوقف الجسم عن العمل تظن النفس أنها ميتة لكن الله يلمسها ويؤكد لها بأنها ما زالت على قيد الحياة. الجندي في ساحة المعركة تصيبه قنبلة أو شظاياها فيصرخ: "لقد قـُتلت يا إلهي." لكن الله يجيبه: "بالطبع لا! ألستَ تخاطبني؟ لا شيء يقوى على القضاء عليك. إنك نفس خالدة، وإنك تحلم بأنك ميت." عندها تدرك النفس أن تجربة الإنتقال من الجسد بالموت ليست مريعة كما يتم تصويرها. الوعي المحدود لوجود النفس داخل الجسد هو المسؤول عن التفكير بأن فقدان الجسد هو نهاية كل شيء، في حين أن النفس حية لا تموت لأنها صورة الله الحي القيوم.

اليوغيون الصادقون قادرون على ضبط العقل تحت كل الظروف. عندما يبلغ المريد تلك المرحلة يصبح حراً ويدرك أن الحياة هي مغامرة مقدسة. لقد برهن الأنبياء والعظماء عن هذه الحقيقة، إذ لم يقو شيء على المساس بنفوسهم الكبيرة والطاهرة. لقد تمتعوا بالحب الإلهي إلى أقصى حد.. وذلك الحب بالذات هو العنصر الأكثر تشويقاً وديمومة في مغامرة الحياة.

الحب البشري لا معنى له ما لم يكن راسخاً في حب الله غير المقيد بشروط. الشاب والفتاة يقعان في الحب وبعدها يقعان في الكراهية. الغرام البشري ناقص ومقيد بالكثير من الشروط بينما العشق الإلهي كامل ولا انتهاء له.

ستكتمل فصول مغامرة الحياة هذه فقط عندما يقهر الإنسان الأخطار والأخطاء بقوة إرادته وبقوة عقله، تماماً مثلما فعل العظماء. عندها سينظر إلى الماضي ويقول: "تلك الإختبارات كانت مزعجة ومحفوفة بالمخاطر وكدت على وشك السقوط، لكنني الآن آمن في ذاتي بعد أن فتح الله بصيرتي وأفاض عليّ بالمعرفة المقدسة."

نستطيع القول أن الحياة مغامرة رائعة عندما يقول لنا الله أخيراً: "لقد انقضت كل تلك الإختبارات المريرة المريعة. إنني معكم للأبد، ولا شيء يمكن أن يلحق بكم الأذى بعد الآن."

يتقوى عقل الإنسان بمصارعة الأمراض والمصاعب وقهر الصعوبات الواحدة تلو الأخرى. إن كل ما يوهن عقل الإنسان هو ألد أعدائه، وكل ما يقويه هو مرفأ سلامه. اهزأ بالمصاعب والنوائب التي تأتيك.

(وبكلمات أبي القاسم الشابي):

{سأعيشُ رغمَ الــــداء والأعداءِ كالنسر فوقَ القمةِ الشمّــــاءِ

أرنو إلى الشمس المضيئةِ هازئاً بالسحبِ والأمطار والأنواءِ}

لقد بيّن لي الله أن هذه الحياة هي مجرد حلم. وعندما تستيقظ في الله ستتذكرها كحلم عابر من الأفراح والأحزان ليس أكثر.

وستعلم عندها أنك خالد طوال الأبد.. في الله الواحد الأحد.

والسلام عليكم