ذكريات الرحى

الإستيقاظ المبكر يذكرني بأيام الطفولة والشباب، وبالسنين التي قضيتها في القرية وبالبساطة الفطرية التي كانت تميز الحياة آنذاك.

وأكثر ما أذكر سروات الفجر أو ما قبل الفجر أحياناً إلى كرم الشعاف الذي ما زالت ذكراه معتلقة في الشغاف.. بصحبة الوالد المرحوم طيب الله ثراه.

فالسكينة العجيبة التي كانت تغلف الطبيعة كانت تتحدث بفصاحة إلى النفس وتوحي لها بوجود مستويات رقيقة شفافة حيث الأمن والطمأنينة والسلام والتفتح.

كنا نسير في تلك الهدأة التامة والنجوم الساهرة الزاهرة ترصع قبة الفضاء اللامتناهي كأنها الدراري وقد نثرتها يد غير منظورة في المنفسح السحيق. وكان لتلك النيرات حديثها الصامت ووحيها الناطق.. وكانت لتلك الومضات الحية انعكاسات وجدانية وتجاوبات عميقة الغور لازمت أحاسيسي حتى اليوم.

وما أن كنا نصل إلى مطحنة عبد الهادي حتى يبدأ طير الصباح بإرسال تغاريده البديعة وكأنه يحيي اليوم الجديد ويعرب عن بهجته بديمومة وتجدد الحياة. وكانت تلك الأناشيد الباكرة بمثابة تسبيحات عفوية تطلقها حتى الطيور بهمة وسخاء تحية لينبوع الحياة الذي لا ينضب، والذي لا يفتأ يبعث روح التجدد في الأرض وما عليها.

وما كنا نقترب من الحرش الذي كنا نسميه (الهيش) ونتوارى بين أشجار السنديان والزعرور حتى تزداد جوقة الصباح الموسيقية أنغاماً وكأن أربابها المجنحة تتبارى في إظهار الفن الأصيل على حقيقته.. ذلك الفن الذي يعصى على التقليد. ويا لمتعة الآذان التي كانت تصغي بانتباه عميق لتلك التوقيعات البديعة التي تسري إلى خلايا الجسم ودقائق ذراته فتشحنها بتيارات النشوة وكأنها إكسير الحياة.

ثم ما زلت أذكر تلك الرائحة العطرية المميزة التي كانت تتضوع لدى اجتيازنا نقطة معينة في طريقنا إلى الكرم، بمحاذاة شجرة الأجاص التي كنا ندعوها (النجاصة). ويا لها من رائحة نقية تنعش الأنفاس وتبهج الخاطر. لكن مصدرها العجيب ظل بالنسبة لي سراً لم أقف عليه، ولا أدري إن كان ذلك الأريج الخالص ما زال كعهدي به.

ألا ما أجمل الحياة وما أنقى مظاهرها! ويا ليت الإنسان يتعلم البساطة والنقاء والصفاء من الحياة وتعبيراتها التي لا تقع تحت الحصر.

ها نحن نقترب من المرقب، وما أعذب وقع هذا الإسم على قلبي! وقد اكتملت يقظة الطبيعة وأشرفت الشمس على البزوغ من وراء هضبة الشعاف. وما هي إلا دقائق حتى يسطع النور كسيل من ذهبٍ منصهر فيغمر البطاح والوهاد ويزيّن رؤوس الشجر بتيجانه ذات الألق المتوهج.

نواصل السير حتى نبلغ الكرم وكأنه صديق حميم يرحب بنا ترحيباً ودياً ويستقبلنا بصنوف عديدة من الأعناب الشهية التي لم أذق عنباً بنفس العذوبة والنكهة المميزة منذ ودعت القرية قبل عشرات السنين.

ولا زلت أذكر كل دالية (ديّارة) ونوع ولون ثمرها. ويا لها من تجربة قوية التأثير انطبعت في كياني وظلت مترسخة على مدى الشهور والأعوام. ومن أجمل ما أذكره عناقيد العنب الأسود أول النضج، وكيف أن لون الحصرم كان يتحول تدريجيا إلى لون أرجواني ضارب إلى الحمرة، وأخيراً تكتسب القشرة الخارجية لحبات العنب خضاباً أسود يحاكي الأبنوس صفاء ولمعاناً.

وفي الجلّ الشمالي كانت كرمة (الحلواني) بعناقيدها الكبيرة وعنبها المستدير ذي النكهة الممسّكة. وأذكر أن أول مشوار لي إلى الكرم كان في سن الخامسة، وقد أطعمني شقيقي حمد رحمه الله من ذلك العنب وقال لي (هذا خوخ). وكم استطيبت ذلك (الخوخ) الشهي!

وأذكر أيضاً أنه كانت هناك تينة صغيرة بمحاذاة الحد الغربي للكرم وشجرة زعرور أبيض بنكهة تفاحية وحولها عريشة كنا نستظل بفيئها أحياناً وننام فيها أحياناً أخرى.

كم كان من السهل آنذاك التفاعل العفوي مع الطبيعة بما فيها من سحر وعبقرية وطاقات لا حد لها ولا انتهاء! فالطبيعة بأشكالها ذات التنوعات المدهشة هي التي أوحت لشاعرنا الخالد أبي القاسم الشابي أفكاره المجنحة ورحلاته التأملية فقال مترجماً أحاسيسه وانطباعاته:

كذلكَ قالتْ لي الكائناتُ

وحدثني روحها المستتر!

لا بد أن القرية قد تغيرت كثيراً، وقد سمعت أنها أصبحت مدينة صغيرة ذات نبض متسارع يختلف كثيراً عن نبض قرية الماضي البعيد حيث الأماسي الوادعة والأصباح الندية.

لحظات نادرة من عمر الزمن أمضيتها في الطبيعة الغنـّاء، حيث صدى أناشيد الحقول والكروم والأشجار ما زال مترددا في أودية الذاكرة، بين هضاب الشوق وتلال الحنين.

أما كرم الصفحى الطيب الذكر فكم كنا نبتهج بالذهاب إليه أيام الصيف عند الصباح وقد امتلأ الجو بضباب رقيق كنا ندعوه (الندى) يحمل في ذراته قوة سحرية تطيّر النوم من الأجفان وتنعش خلايا الجسم بتيار لذيذ، فنحمل السلال ونسير على الدرب الترابي وكأننا نكاد نطير من الفرح دون أن نعرف لماذا كل ذلك السرور!

نصل إلى الكرم عن طريق المدخل الأمامي المعهود وكأننا دخلنا جنات النعيم. فنفرح لمرأى التينات المباركة وقد ثقل حمل أغصانها من أكواز التين البشاري والأحمر وغيرها. ولأن الكرم كريم حسب المثل الدارج فقد كنا نتناول ما طاب لنا من دانيات القطوف ذات الرحيق السكري الأشهى من العسل. وبعد تلك الترويقة الحلوة كنا نشرع في القطف وملء السلال. فأحدنا كان يتسلق التينة وآخر يدني الأغصان المثقلة إما باليد أو بالإستعانة بقضيب الحديد ذي الرأس المعقوف (الشِلف) وخلال برهة قصيرة كانت السلال تمتلئ، ولربما قطفنا أكثر مما تسع له السلال فكنا ننقله إلى الجهة الشمالية من الرُجمة المستطيلة بمحاذاة شجرة السنديان ونسطحه أي نضعه على الأحجار الملساء قصد تجفيفه، لنعود بعد أيام وقد جفّ فنلمه ونعود به إلى البيت ليؤكل فيما بعد إما مجففا أو مطبوخاً بالدبس، وبتعبير أحد الذوّاقة ’يا حلوّلوّ‘!

ولا زلت أذكر الرمانة التي في وسط الكرم وليت لي القدرة البلاغية على وصف زهورها الحمراء – الزهرية المعروفة بالجلـّلنار. وكأن أزهى وأبدع الألوان تجسدت في تلك الزهور الرائعة التي كانت تنطق بفصاحة ويقين عن الجمال الإلهي الصاعق الذي يتراءى لنا لفترات وجيزة ثم يحتجب خلف ستارة المرئيات ليعود ويبرز ثانية في موسم جديد وبحلل بهية بديعة. وكأنه يستحث البدائه والقرائح كي تبحث عنه في رياض الروح وخمائل الوعي حيث ورود الإدراك لا تذوى والثمار المعنوية لا تنقطع.. وحيث اليقينيات تتحول حقائق ناصعة باهرة تتحدى الارتياب وتسخر من الشكوك.

ولا زلت أذكر كرم المعقرات وكم كنت أستمتع بالعمل في ذلك الكرم المحبب إلى القلب لا سيما وقد اشتغلت ذات يوم لساعات طويلة مع شقيقي محمد وشقيقنا المرحوم حمد الذي كنا نبتهج للعمل معه وننذهل لإرادته الصلبة وهمته الجبارة. فيما بعد قمت بمساعدة شقيقي فوزي ببناء حائط من الجهة الجنوبية. وبالفعل كان الذهاب إلى كرم المعقرات من أمتع النزهات حيث الخلود للسكينة والتلذذ بمرائي الطبيعة وأحياناً الاستسلام لتهويمات من وراء هذا العالم. ما أعذب الطبيعة بينابيعها الثرة المتدفقة عطاءً وسخاءً لا يعرف التقتير!

أما كرم المرقب فلم يكن فرحي به يقل عن فرحي بكرم المعقرات حيث صرفت مع شقيقي فوزي أياماً سعيدة في العمل به وجني ثماره الشهية. وقد كنا نذهب إليه مرة كل يومين أو ثلاثة أيام في الصيف فتنشرح صدورنا لمرأى العنب والبنادورة والقثاء (المقثى)، بل لمرأى الكرم نفسه وكأنه قريب حميم يزخر بالمحبة والعطاء. وكان موقعه أيضاً رائعاً للغاية. فالمرقب الأبدي كان يحرسه من جهة الغرب، وكان يطل على الشعاف والقليب، وتظل تربته ندية تتحدى الجفاف.. تلك التربة التي لامستها يدا الوالد المرحوم.. فسقياً لتلك الأيام السعيدة ذات الذكريات الصافية كدموع الطفل واللذيذة كالإغفاءة للجفون الناعسة.

لعل هذه الخواطر تترجم ما أحس به نحو الأرض والوطن والمحبين من الأهل والأصدقاء. وهذه الأحاسيس ستبقى تتماوج كزهر الربى في حقول الوجدان وتومض كالنجوم القصية الدائمة التألق، وتتهادى كالأطياف في دنيا الأثير.

وقد تبيّن لي أن السعادة الحقة لا تكمن في تكديس الأموال والسعي اللاهث وراء حطام هذه الدنيا المتراقصة كالسراب في قلب الصحراء.. بل في التناغم الروحي مع قوانين الحياة الخالدة المتصلة بضمائرنا، والعمل الشريف الدؤوب في كل ما يرضي الله والضمير ويخدم الإنسان ويقوي النفس ويغذيها بقوت الأخلاق والآداب. فمع راحة الضمير يأتي صفاء الذهن وطمأنينة النفس، فتنجلي براقع الوهم وتشرق شمس السعادة وتندحر فلول الظلام.

أما الحقول النضيرة في فصل الربيع فلها حكاية ممتعة، حيث الطيور الجذلانة تملأ الأجواء بزقزقتها وشدوها الرخيم. وحيث النسائم الرقيقة تهب على الرياض المغتبطة فتداعب أزهارها الحالمة وكأنها تسقيها شراباً أثيرياً منعشاً فتنتشي وتترنح برؤوسها المتوجة وقد صبغت حمرة الخفر وجناتها الصقيلة وخدودها الوردية الناعمة.

وقد نلمح فراشة تبسط جناحيها وترفرف هائمة من زهرة إلى أخرى محاولة ارتشاف رحيقها والتمتع بألوانها الطيفية.

كل شيء يتحدث في تلك الحقول.. النور يبسم والأقحوان يرنو برموشه البيضاء.. وشقائق النعمان تتفتح بتلاته بصمت وتستقي ما طاب لها من أمواج النور وذرات الندى.. فينفح الأجواء بأريجه العابق المتضوع من قلبه النقي.

أما الورود أو الزهور الصفراء المعروفة قاموسياً بالبهار، فقد كانت تبسط بساطاً زاهياً تنبثق منه أمواج متناهية الدقة تحمل الفكر المستهام على جنح الخيال وتنقله إلى آفاق كوكبية تزخر بالمعاني وتشرق بالسناء وأحلام الجمال.

ها نحن نسير سيراً وئيداً على البساط الزمردي المرصع بآلاف الزهور. ومن حولنا الأشعة الدافئة تسكب لهفتها وحنينها بحرارة في قلب النبات فتنقل إليه حب السماء للأرض وما عليها.

ألا ليت الفنانين العصريين يستلهمون مادة فنهم من الطبيعة ذات الفن الأصيل الذي لا نظير له. فالفن تعبير وجداني عن حالات نفسية ينبغي أن تكون راقية تبعث على الإعجاب. والفنانون المبدعون هم قلائل لأنهم غير مقلدين ويربؤون بأنفسهم عن الإسفاف إلى منحدرات ضحلة إما جافة أو تستجمع مياهاً آسنة لا تصلح إلا للتبخر والتلاشي.

هذا أقوله لأننا كل يوم نسمع (بمطرب) جديد تحيط به الألقاب البراقة مثل (مطرب الشباب) أو (مطرب الجيل) أو (المطرب اللامع).. وما أن يشرع بإظهار فنه ’الموهوب‘ حتى يقول السامعون ’نيّال الأطرش‘. ومع ذلك تراه يمعن في الزعيق ويتفنن في تعابير الوجه واليدين محتسباً أن الكائنات العليا قد تخيرت صوته ’الملائكي‘ لتجلو روائع فنها وتهديه تحفة للسامعين! وهذا بالطبع ينطبق على الكثير من (المطربات العصريات).

الفن رفيق الروح والقلب الذي يرفع أفكارنا ومشاعرنا ويطير بها على جنح الأشواق إلى دنيا ساحرة من البهجة والجمال ليعود بنا وقد تنقت أفكارنا من منغصات هذا العالم وتحررت نفوسنا من قيودها القوية التي تشدها إلى الأرض شداً. لكن النفوس المرهفة تبقى دائمة الحنين إلى ما وراء حدود هذا العالم، حيث الطمأنينة والشفوفية والأحاسيس النقية المتناغمة مع سيمفونية الوجود التي تستميلنا للتقرب من منابع الوحي ومصادر الإلهام.

ولمصطبة بيتنا في الرحى أيضا حكايتها. فها هي الشمس قد آذنت بالغروب وتوجت أشعة الأصيل هامات البيوت والتلال المجاورة، وتصاعد دخان المواقد القروية معلناً أن أكلة المجدرة على الطريق.. وعما قليل ستمسي القبة الزرقاء مرصعة بالنجوم أو مفضضة بأشعة القمر، وسيعم الهدوء أرجاء القرية.

ها قد بسطنا بعض الفرش على المصطبة ذات الجو العابق بطمأنينة المساء وكلنا شوق لسهرة مؤنسة تبعث في النفس الراحة والمسرة وتغسل من القلب الهموم وأسباب الكدر.

وعلى مقربة منا في أرض الدار ترقد العنزات بقناعة ورضاء وقد باتت تجتر علفها وتتنعم بالهدوء والسلام المحسوسين.

ويطل القمر بدراً من وراء هضبة الشعاف باستدارته الكاملة فنستقبله بالترحيب وقد رحنا نمعن تحديقاً في قرصه الفضي محاولين استجلاء ملامح ذلك الوجه الغامض بدهشة وسذاجة.

وإذ أنسى لا أنسى كيف كنا نتناول العشاء من صفحة أو صينية واحدة. فكانت الأيدي تتناوب عليها جيئة وذهابا وتتلقف ما لذ وطاب من تلك الأكلات الشعبية الشهية التي كانت المرحومة الوالدة تتفنن في تحضيرها. وهل في العالم كله أشهى من الأكلات المصنوعة بأيدي الأمهات؟!

وأحياناً كنا نتناول (تنشيفة) في آخر السهرة وتتألف غالباً من الخبز والبنادورة واللبن والمكدوس.. ومفتاح البطن لقمة! ونستمع لحكايا الشاطر حسن وحبيبة الرمان وأبو زيد وذياب ومرعي والزيناتي والجازية أم محمد، أي تغريبة بني هلال!

وهناك أماكن ارتسمت صورتها بكيفية لا تمحى في المخيلة.. والإنطباعات المبكرة تبقى محفورة ومحفوظة بوضوح وجلاء في صفحة الذاكرة.

فلننطلق نحو عين الحصوة. وهناك أغنية شعبية تشير إليها هي ( عَ عين الحصوة يا ما قيلنا..) إذ كانت عين الحصوة مصدر إلهام عجيب لكاتب هذه السطور. ففي وسط تلك البقعة من الأرض كان الماء ينبجس بغزارة وينساب صافياً رقراقاً في قناة ينبت على حافتيها النعنع البري والقرّة أي نبات الجرجير والقرّام الباسق مع بعض نباتات أخرى تبقى ناضرة شديدة الإخضرار طوال الصيف.

كل هذا أتذكره فيولـّد في نفسي حنينا لاهباً يتماوج عبر انعطافات الفكر ليعانق ذلك الوهج السديمي المنساب شوقاً في السواقي أو المتهادي نشوة على أجنحة النسائم.

وأذكر جلياً قطعان الأغنام والأبقار وهي ترعى الحقول المحصودة بينما أشعة الأصيل تسكب خيوطها الذهبية فتلف الوهاد والحقول بطبقة من ضياء، وكل ما في الطبيعة يتحدث بلغة السلام والجمال.

أما ساعة الغروب فلها ذكرى خاصة في نفسي، لأنني كنت أنتظر تلك الساعة بلهفة ظمأى دون أن أعرف السبب من وراء ذلك الشوق. وما أن تشرع الشمس بهبوطها الوداعي حتى تلتصق عيناي بذلك المشهد الوهاج. وتظل أحداقي شاخصة إليه والشمس آخذة في الاحتجاب، تحيط بها هالات كالذهب البرتقالي تحاكي حنين الروح لمراقي النور وآفاق الخلود.

وتختفي الشمس بعد أن تترك خلفها مناظرَ بديعة على خط الأفق وآثاراً عميقة في أغوار النفس.

بعدها نشرع بالعودة إلى القرية. فالنهار قد انقضى ومصباحه قد خفت نوره، وها هو روح السكون بدأ يلف ويغلف الطبيعة ويدمغها بطابع سحري عجيب كنا نحسه ولا نقوى على تعليله.

ما أروع ساعات الغسق وما أعذب ذكراها! ولعل الصغار أكثر قدرة على التجاوب والتفاعل مع تلك الظواهر العجيبة التي تتحدث حديثاً متواصلاً عن روائع الحياة وعظمة خالقها.

ومع أنني رأيت الكثير من المناظر الطبيعة الخلابة في دنيا الاغتراب، لكن ما رأيته وما أحسست به في قريتي الرحى إبان مرحلة الطفولة وبواكير الشباب يبقى اختباراً فريداً في تاريخ حياتي. وسأحتفظ بصورة القرية مثلما عرفتها وعشت فيها أينما وحيثما كنت في دنيا الله الواسعة.

أما ذكرى المرحومة والدتي فما زالت حية ً في أروقة الوجدان، مؤنسة كأنفاس الأمل، موحية روائع المحبة والتضحية والتحنان الزاخر. إذ تعلمنا منها الكثير بل أنها كانت مدرسة متكاملة لنا تلقنا في فصولها معاني الأدب ومبادئ الأخلاق واحترام أنفسنا والآخرين. لقد تميزت بسلامة الذوق وطيب السريرة مع ميل عفوي إلى البساطة في كل شيء. وكانت تشجعنا دوماً على الإعتماد على النفس وصرف الوقت في الأمور النافعة البناءة وتحاشي إلحاق الأذى بالآخرين ولو بكلمة عابرة.

وللوالد المرحوم أيضاً انطباعات دائمة في ذهني، إذ أمضى الوقت الأكبر من عمره في الجد والعمل الشريف. وقد كان جلوداً على التعب، شديد المحبة لعياله وأقربائه وربعه.. صادق القول، حر الضمير.. وكان أصدقاؤه يشتاقون لمحضره ويستمتعون بروح الدعابة التي كان يتحلى بها.

كما كان لرفاق والدي رحمهم الله مكانة خاصة في قلبي، فقد كانت الصداقة التي جمعتهم فريدة من بابها، إذ كانت المودة والاحترام صلة التواصل بينهم. فهم لم يغتابوا بعضهم مرة واحدة، بل كانوا مبدأيين في التعامل مع بعضهم وكأنهم أخوة بل وأكثر من ذلك.

ولأصدقائي منزلة خاصة في وجداني. وكم أجدني أعيش تلك الأيام السعيدة من شبابنا الغض وأتأمل عهد الصداقة الوثيق. ولعلهم ما زالوا يذكرونني مثلما أذكرهم وهل ستجمعنا الأيام ثانية؟! ولا يسعني إلا القول يا ليالي الأنسِ عودي واذكري رناتِ عودي (أو شبابتي).

والآن لنعد قليلاً إلى حرش السنديان، إذ له حكايا عذبة في خاطري. فقد كنت أقصده أحياناً فأتوغل في منعطفاته بين أشجاره الباسقة حتى لم أعد أسمع سوى صوت السكون يمازجه هديل شجي أو شدو رخيم. وكانت النفس تتحلل من قيودها إذ ذاك وترتفع بصورة لا شعورية إلى مواطن الجمال. كانت الساعات تمر كالدقائق وكأن الموجودات قد انعتقت من نطاق الزمن وراحت تترنم بأناشيد الخَلق الأول. وأحياناً كنت أخلد للسبات تحت شجرة ظليلة في جو من السكينة والأمن عند مسيل المِظلم، ولم أكن أدري آنذاك أن تلك النزهات المنفردة كانت بمثابة تتويج صامت لحقبة من عمري قبل ارتحالي عن تراب الوطن.

قيل أن التذكار سر كل تمتع وكل مسرّة.. هذا صحيح، لكن حياة المرء لا تنحصر في تذكارات عهد مضى دون إعطاء الحاضر حقه من الواجبات المفروضة من الواقع. فهذا العالم الذي نعيش فيه يقوم على أسس الواقعية وكل ما يمس حياتنا يتطلب منا اهتماماً خاصاً وتركيزاً دقيقاً. ومن واجبنا معالجة كل ما يتصل بحياتنا بحكمة ومنطق، بعيداً عن التهور والتطرف.. لكننا في نفس الوقت لا يمكننا أن نبقى قانعين بالجانب المادي من الحياة لأن طبيعتنا أصلاً هي غير مادية بالرغم من الوجود المادي الكثيف الذي نعيش فيه ويحيط بنا.

لهذا تمس الحاجة أحياناً للإبتعاد ولو بالفكر عن الخشونات المادية وقيودها الجبارة. فحرية المرء تكمن في أفكاره ما دام يحتفظ بقدر معقول من الصفاء والجرأة الأدبية. وقيود المرء أيضاً تكمن في أفكاره. وهذا الجوهر العجيب – أعني الفكر – هو الذي عن طريقه نرتفع إلى آفاق المعرفة واليقين والحرية، أو بواسطته ننحدر إلى مستويات دون المقام الإنساني والكرامة البشرية.

لقد وهبنا خالقنا حرية الإختيار للتفكير حسبما يحلو لنا، وبحسب نوعية تلك الأفكار نصنع مستوانا في هذه الحياة. فدوافعنا وتوجهاتنا الفكرية هي التي ترفعنا أو تخفضنا بحسب نوعية تفكيرنا، ولذلك قيل ’المرء يقاس بأفكاره ونواياه.‘

الحياة مدرسة وكلنا تلاميذ في صفوفها. فإن استغلينا الفرص المتاحة وبذلنا المجهود الصحيح لا بد أن نفرح وننجح في مدرسة الحياة.

وإن طويتُ صفحة أخرى نحو الماضي السعيد ونحو فصل الشتاء بالتحديد، أجد نفسي مع الأهل والأقارب والأصدقاء متحلقين حول الموقد، موقنين بكل جوارحنا أن النار فعلا هي فاكهة الشتاء، ويا لها من فاكهة تبعث الدفء في العروق! أما الموقد الريفي فكان إضافة إلى عمله الوظيفي كأداة تدفئة فقد كان أيضا وسيلة مناسبة لطهو الأكلات الشعبية من كشك ومغربية وشيش برك ومقصصة إضافة إلى تحميص الخبز على جانبيه وغلي الشاي عليه. حقاً لقد كان صديقاً حميماً بالرغم من دخانه الذي كان يستدر المدامع أحياناً، ومع ذلك كنا نحتمل ذلك الإزعاج متمثلين بالقول الدارج آنذاك: دخان يعمي ولا برد يطعن. وللأصدقاء أقول: سقا الله تلك الأيام عندما كان إبريق الشاي يجمعنا!

ومن ذكريات الشتاء.. الثلج.. تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تغلف الأرض بتلك الملحفة الناصة التي تبهر العين والنفس لا سيما إن أشرقت الشمس عليها فزادتها ألقاً ونصوعاً.

الأرض هنا الآن مكسوة بطبقة بيضاء مما يذكرني بقريتي وأهلي وأصحابي من جديد، مثلما تذكر الشاعر المهجري رشيد أيوب أيام زمان وطنه وأحباءه عندما تعاظم شوقه فراح ينشد:

يا ثلجَ قد هيجتَ أشجاني

ذكرتني أهلي وأوطاني!

بالله قل عني لجيراني

ما زالَ يرعى حرمة العهدِ!

كنا نستيقظ أحياناً دون معرفة مسبقة بحالة الطقس، وما أن نفتح الباب حتى نندهش لمرأى الثلج. وإن قـُدّر لنا أن لا نذهب للمدرسة في ذلك النهار يزداد فرحنا إذ ترقص قلوبنا بهجة وحبورا ونستبشر بيوم خالي المشاغل، ولا هم لنا إلا غرس الأحلام الندية في بساتين الطفولة والتمتع بمباهج الحياة البريئة في ظل الراحة والهناء.

ما أقوى تلك الانطباعات الشبيهة بالنجوم دائمة الوميض في سماء الذاكرة!

(وكم لنا في خاطر الليل من ضحكات.. تلاشت في لجة المجهول وظل صداها البعيد طيفاً سابحاً في دنيا الخيال!)

وتتسارع الأيام في سيرها الحثيث.. وتتعاقب الفصول.. وتزداد حياة الناس هموماً وتعقيدا.. ويتبختر الواقع بمتطلباته دائمة التجدد.. وتبقى السعادة منية النفس لا يمكن العثور عليها إلا في التناغم والانسجام مع المثل العليا التي لا يمكن الاستعاضة عنها أو حذفها من قاموس الحياة.

تحدثت عن ذكريات الشتاء، ولهذا الفصل وقع خاص في النفس لأنه يوحي بالتماس الدفء الداخلي حول موقد المشاعر المتأججة شوقاً وحنيناً إلى كل ما هو رائع وأصيل وبعيد عن التكلف والتعقيد.

ولقد كنت مغرما بجمع وجلب الحطب من الحرش وتقطيعه وتخزينه في أحد أركان المنزل المعروف بالقـُرنة التي كادت تمتلئ في إحدى السنين. وكان قلبي يشتعل فرحاً مع التهاب وقرقعة كل قطعة، لا سيما أن الوالد المرحوم كان يبارك تلك الجهود. وأذكر أننا كنا نشوي البطاطا في الطبقة السفلى من الفرن القروي أي الموقد ونسلق الشمندر على الموقد ونأكله مغمساً بالسكر مطبقين بذلك درساً عملياً من كتاب قراءة للصف الثاني الإبتدائي حيث كان بائع الشمندر ينادي بأعلى صوته: ’تعالَ يا بردان! طاب العسل طاب!‘

أرى أن الدنيا بأسرها مبنية على أسس الخير والمحبة والسلام والوئام، بالرغم من الشرور الكثيرة التي تعمل جاهدة على تعكير سكينة الحياة وقلب الموازين الصحيحة رأساً على عقب. ولكن مهما كانت تيارات الشر قوية وعاتية لا بد أن تحطم ذاتها في النهاية لأن الكون قائم على دعائم الحق والفضيلة والإنسجام.

لقد وهبنا الله الإرادة الحرة والضمير والعقل وقوة التمييز بين الصالح والطالح والمفيد والمبيد. والحياة معادلة دقيقة التوازن، ولها طريقة حل واضحة تعطي نفس النتيجة في كافة الأحوال والظروف، وبدون تلك الطريقة لا حلول ترجى مهما تعددت وتنوعت المحاولات.

إننا ننشد السلام والسعادة وراحة البال والرخاء والرضاء والحياة الخالية من الهموم والمتاعب. وهذه يمكننا تحقيقها إلى حد ما عن طريق الأفكار المتناغمة والقلوب المؤمنة والنفوس الذاكرة الشاكرة لمصدرها الذي منه الإنطلاق وإليه المآب.

شكراً يا قارئي الكريم على مرافقتي في هذا المشوار الوجداني بما فيه من شعاب ومنعطفات وعلى الإصغاء لهذا الحديث الودي الصامت. فهذه الخواطر تكبر وتزداد عمقاً بمرورك الكريم.. وإنني أبعث إليك بأمواج المحبة والأماني الطيبة عبر هذه السطور.

أما أنتِ يا قريتي الحبيبة فلا يسعني إلا أن أقول:

إن لم أعدْ يا رحى يوماً لأسكنك ِ ففي فؤادي طولَ العمر ِ سكناك ِ

والسلام عليكم

محمود عباس مسعود