ملكة الشرق غير المتوجة

إستر ستانهوب Hester-Stanhope

لماذا تركت بلادها وعاشت في الشرق الذي بهرته مثلما أذهلت أوروبا كلها؟

هي إستر ابنة إرل ستانهوب Earl Stanhopeالتي أحبت الشرق العربي فشدّت إليه الرحال في بداية القرن التاسع عشر وعاشت وماتت – كملكة غير متوجّة – بين الفلاحين السوريين – اللبنانيين حيث زارها الشاعر الفرنسي لامارتين بعد أن سمع بها وأعجب غاية الإعجاب بشخصيتها. اجتمع حولها جيش من البدو قوامه 40 إلى 50 ألف فرد لشدة إعجابهم بها.

إستر ستانهوب Hester-Stanhope هي امرأة إنكليزية شريفة ذات أطوار غريبة. ولدت في لندن في 12 آذار سنة 1776 وتوفيت في جونيه بإقليم الخروب من جبل لبنان في 23 حزيران سنة 1839.

كانت أكبر أولاد تشارلس ثالث إرلات ستانهوب من زوجته إستر ابنة إرل تشاذم.

دخلت في السنة العشرين من عمرها بيت عمها وليم فكان يعتمد عليها ويكاشفها بأسراره، واستمرت عنده إلى أن مات سنة 1806. وقبل وفاته أوصى بها الأمة الإنكليزية فعُيِّن لها مرتب سنوي قدره 1300 ليرة إنكليزية، غير أن ذلك المبلغ لم يكف لسد المصاريف التي كان يقتضيها مركزها وبذخها فانفردت في ويلز.

تركت انكلترا وطافت أوروبا وكانت حينئذ فتية نضرة جميلة غنية فقوبلت في البلدان التي زارتها بالتكريم والتعظيم اللذين تقتضيهما صفاتها. إلا أنها أبت الزواج مع أن خاطبيها كانوا من أهل الرفعة والشأن. وبعد أن زارت أكبر عواصم أوروبا لاح لها أنها تحصل في الشرق على مركز عظيم فسارت إلى القسطنطينية وأقامت فيها بضع سنين.

اختلف الناس في سبب خروجها من بلادها فذهب بعضهم إلى أن ما حملها على ذلك حزنها على جنرال إنكليزي شاب قتل في إسبانيا وكانت تحبه فأثـّر فيها موته تأثيراً شديداً حتى لم تطب لها الإقامة بعده في انكلترا.

ذهب آخرون إلى أن الذي حملها على ذلك إنما هو ميلها إلى القيام بعظائم الأمور وحب الشهرة. خرجت من القسطنطينية قاصدة سورية سنة 1810 في سفينة إنكليزية كان فيها قسم كبير من ثروتها وأنواع كثيرة مختلفة من الحلي والتحف، فلما وصلت السفينة إلى (جون مكري) تجاه جزيرة رودس صدمت صخراً فتحطمت على مسافة بضعة أميال من الساحل وغرقت أمتعة استير ستناهوب وأموالها ولم تنجُ هي من الموت إلا بعد عناء شديد فحُملت على لوح من ألواح السفينة إلى جزيرة صغيرة مقفرة.

بقيت في الجزيرة 24 ساعة لم تذق طعاماً ولم يكن لها منقذ ولا مجير، إلا أن جماعة من صيادي مرموريزا وجدوها في تلك الجزيرة في أثناء تفتيشهم على بقايا السفينة فساروا بها إلى رودس وهناك أخبرت قنصل انكلترا بأمرها.

لم يثن ذلك المصاب عزمها بل سارت إلى مالطة ومنها إلى انكلترا فجمعت ما بقي لها من المتاع وباعت قسماً من أملاكها بأبخس الأثمان وركبت سفينة ملأتها تحفاً نفيسة وهدايا ثمينة للبلدان التي عزمت على السياحة فيها، فلم يصادفها نوءٌ.

أتت اللاذقية فأقامت هناك وتعلمت اللغة العربية وقرّبت منها جميع الذين كان في وسعهم أن يجعلوا لها مع الطوائف السورية المتنوعة روابط وعلاقات. ثم تهيأت للتجوال في الأماكن التي يعز الوصول إليها من بلاد العرب والموصل والبراري للقيام باكتشافات جديدة.

لما تضلّعت من اللغة العربية وعرفت عادات الأهالي وطباعهم جهزّت قافلة كبيرة وحملت إلى البدو هدايا نفيسة على ظهور الجمال وطافت أنحاء سورية كلها فزارت القدس ودمشق وحمص وبعلبك وتدمر. ولما وصلت إلى تدمر اجتمع إليها كثير من قبائل البدو ومكنوها من الوصول إلى تلك المدينة، وكان عددهم حينئذٍ 40 إلى 50 إلفاً، وكلهم يتعجبون من جمالها ولطفها وأبهتها فجعلوها ملكة لتدمر وعاهدوها على أن جميع الإفرنج الذين يحصلون على حمايتها يمكنهم أن يزوروا بعلبك وتدمر آمنين على أرواحهم لكن بشرط أن يدفع كل منهم ضريبة قدرها ألف قرش، واستمرت تلك المعاهدة مدة طويلة سارية المفعول.

عند رجوعها من تدمر عزمت قبيلة قوية من البدو عدوّة لبدو تدمر على التعدي عليها غير أن أحد مرافقيها أنبأها في الحال بوقوعها في ذلك الخطر الجسيم فغذت السير ليلا وكانت خيلها من أجود الخيل، فاجتازت في مدة 24 ساعة مسافة طويلة وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة وأتت دمشق وأقامت فيها أشهراً عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد أوصاه بإكرامها وإعزازها.

صرفت زمناً طويلاً في التطواف والتنقل في البلاد الشرقية، وأصيب الأهالي بالذهول لِما شاهدوه من أعمالها وغناها فكانوا يعاملونها كملكة وكانت هي تحاول بحذقها أن تضاهي زنوبيا ملكة الشرق في أعمالها.

سنة 1813 استوطنت دير القديس الياس المهجور الواقع في جوار قرية عبرا على مسافة ساعة من صيدا فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تبنى في القرون الوسطى وأنشأت هناك بستاناً على نسق البساتين التركية فغرست فيه الأزهار وأشجار الفاكهة وكروماً وأقامت كشوكاً مزينة بالنقوش والصور العربية وجعلت للمياه أقنية من الرخام وعملت نوافير وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضاً.

كانت أشجار البرتقال والتين والأترج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالاً وبهجة. ولم يلبث ذلك الدير أن صار حصناً وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتجيرهم. وقد صرفت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بمترجمين سوريين وأوروبيين وحاشية كبيرة من النساء وجماعة من العبيد، وكانت تلبس لبس أمير وتتقلد السلاح وتدخن.

جمعتها علاقات ودية وسياسية مع الباب العالي وعبد الله باشا والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان والشيخ بشير جنبلاط ومشايخ البدو في براري سورية وبغداد. ثم اتخذت لها مسكناً في بيت أخذته من رجل دمشقي غني واقع على مرتفع يعرف بظهر جونيه نسبة إلى قرية جونيه التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان على مسافة 8 أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت وأقامت حوله جنينة وسوراً وبقيت فيه إن أن توفيت.

ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها، فبات دخلها السنوي 30 أو 40 ألف فرنك، وكان مع ذلك كافياً لسد المصاريف التي تقتضيها حالها غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر وخمدت محبة الأهالي لها لتوقف حصولهم على هداياها، فأصبحت منفردة وتضاءلت علاقاتها مع الناس، لكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحيّر العقول لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها. ولم تأسف على ما فات ولا على العالم أجمع، ولم يحزنها ترك خلانها أو نقصان ثروتها وتقدّم العمر بها، فأقامت وحدها من دون كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا.

لم يكن عندها صديق يؤانسها ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط مجموعة من الجواري والعبيد صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون ببستانها وخيلها ويسهرون عليها من الأخطار. وقد تحقق أن ما امتازت به من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئاً عن طباعها فقط بل عن مبادئها... وقد جمعت بين الحقائق وعادات شرقية خرافية، لا سيما غرائب فن التنجيم وعجائبه. وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق وأذهلت أوروبا كلها. كان الأهالي يطلقون عليها إسم الست الإنكليزية وتعرف عند الإفرنج بلايدي ستانهوب Lady Stanhope.

لما عزم ابراهيم باشا على فتح سورية سنة 1832 اضطره الأمر إلى أن يطلب إليها أن تكون على الحياد، ويقال أنه بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت العديد من الفارين وكانت تتعاطى في التنجيم وغيره من الفنون السرية، وتمسكت ببضع عقائد غريبة فلم تعدل عنها حتى مماتها.

في السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في انكلترا ما كان من أمرها وإسرافها فقطعوا عنها الإمدادات المالية فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بمسعى من رجل يعرف باللغمجي، فتوفيت ولم تقدر على وفائها. وهكذا فالذين كانوا يحسبون أن في القرب منها ربحاً لهم آل الأمر إلى خسارتهم.

ويقال أن ضيقاتها المالية وما حدث فيما بعد بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، سبّب لها خوفاً أدّى إلى مرض عضال قضت بهِ نحبها، ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج بل أحاط بها جماعة من خدّامها من أهل البلاد فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية.

عند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت ومعه القس وليم تومسن الأمريكي إلى جونيه لأجل دفنها، ودُفنت في البستان المجاور لدارها. وقد روى الأهالي عنها قصصاً كثيرة غريبة تكاد تكون من الخرافات ولا يوثق بها. وقد كتب الدكتور ماريون الذي بقي عندها بضع سنين كطبيب لها سيرة حياتها بالانكليزية في 3 مجلدات، وكتب أيضاً قصة أسفارها في 3 مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة.

زارها كثير من السياح الأوروبيين ومن جملتهم الشاعر الفرنسي المشهور لامارتين، إذ أثناء وجوده في سورية سنة 1832 يطوف في نواحيها ويتفرج على بلدانها ومناظرها رغب في زيارة تلك السيدة إلا أنه كان في ذلك الوقت من أصعب الأمور على الإفرنج أن يقابلوها، لا سيما الإنكليز، حتى وإن كانوا من أقربائها. فبعث إليها لامارتين رسول سوري بالرسالة الآتية ترجمتها:

"سيدتي، من سائح مثلك في الشرق وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سورية منذ مدة مع عائلته وهو يحسب أن يوماً يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءهُ زائراً من أجمل أيام سياحته وألذها. فإذا شئتِ أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك وقولي لي إن كان ينبغي لي أن أتوجّه وحدي أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك. وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سبباً لتكلفك ما يزعجك في عزلتك، فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية ومحاسن الانفراد ولذلك لا يسوؤني البتة رفضك مقابلتي بل أتلقى ذلك بالتوقير والإحترام..."

في 30 أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها سار إليه طبيبها ودعاه إلى جونيه فذهب مع الدكتور ليونردي وموسيو برسفال ولما صلوا أنزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها ولا أثاث فيها، ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم لأنها لم تكن تقابل الناس قبل الساعة الثالثة بعد الظهر. فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها.

قال: كان الظلام قد خيّم عليها فلم أتمكن بسهولة من أن أتبيّن هيئتها اللطيفة المؤذِنة بالهيبة والجلال وذلك الوجه الأبيض الصبوح، فنهضتْ وهي في زي الشرقيين ودنت مني ومدّت إليّ يدها مسلّمةً عليّ فأمعنت بها النظر وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السنون محوه. نعم إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الشباب لكن متى كان الجمال في القد وملامح الوجه والعظمة والجلال يطرأ عليه تقلبات باختلاف مراحل العمر، إلا أنه لا يزول تماماً وهذا كله يصدق على لايدي ستانهوب.

كانت تلبس عمامة بيضاء وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون، طرفاها مرسلان على كتفيها، وعلى جسمها شال من الكشمير الأصفر وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض كمّاهُ متدليان وهو مشقوق عند الصدر يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد تصل إلى عنقها وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ. وكان في رجليها خفان تركيان أصفران وهي تحسن لبس ذلك جميعه كأنها قد تعودته منذ صغرها.

بعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد وكلفت نفسك مشقات السفر لترى ناسكة فأهلا بك وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر. غير أن رسالتك أعجبتني ووددت أن أعرف إنساناً يحب الله والطبيعة والإنفراد، وذلك نفس ما أحبه. وقد لاح لي أيضاً أن نجمينا متحابّان وأننا نتوافق في المشرب ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني وقد توسمت فيك عندما رأيتك أموراً تجعلني لا أندم على رغبتي في مشاهدتك. ولما سمعت وقع قدميك وأنت داخلٌ خالجتني نفس تلك الخواطر فاجلس ودعنا نتحدث لأنك قد صرت لي صديقاً.

فقلت لها يا سيدتي وكيف تشرفين بهذا اللقب رجلا لا تعرفين اسمه ولا سيرته؟

قالت: نعم إنني لا أعرف ظن الناس فيك ولا ما فعلت في المدة التي صرفتها بينهم، غير أنني قد عرفت حالك أمام الله ولا تحسبني مجنونة كما يسميني العالم في الغالب لأن صدري قد انشرح لك فلا أستطيع أن أخفي عنك شيئاً. وقد نشأ في الشرق علم ضاع الآن في بلادكم غير أنه لم يزل باقياً إلى الآن في البلاد الشرقية وقد تعلمته وأتقنته. فإنني أرصد الكواكب وأدرك أسرارها. فكل منا ولدٌ لنار من تلك النيران السماوية التي تولت أمر ولادتنا. وتأثيرها إما حسن وإما رديء، وهو يظهر في عيوننا وجباهنا وهيئتنا وأسارير أيدينا وشكل أرجلنا وحركاتنا ومشينا، وبذلك عرفتك حق المعرفة كأننا معاً منذ قرن كامل مع أنني لم أرَك إلا منذ بضع دقائق.

فقلت باسماً: مهلاً يا سيدتي! إنني لا أنكر ما أجهل ولا أقول أنه لا يوجد في الطبيعة المنظور وغير المنظورة التي تتجاذب فيها الأشياء وترتبط بعضها ببعض كائنات كالإنسان دون الكائنات الكبرى، تحت سلطة كائن أعظم منها كالكواكب والملائكة. إلا أنني لا أحتاج إلى وحي تلك الكائنات لأعرف نفسي التي هي عبارة عن فساد وسقم وشقاء.

وأما أسرار مستقبلي فأحب أن لا أعرفها وعندي أنني أجدّف على الله الذي أخفاها عني إذا طلبت إلى مخلوقٍ أن يوضحها لي. فأمرُ المستقبل بيد الله وإني لا أعتقد إلا فيه وفي الحرية والفضيلة.

قالت: اعتقدْ ما يحلو لك، أما أنا فأرى أنك خلقت تحت سلطة ثلاثة نجوم سعيدة قادرة صالحة فأعطتك مثل تلك الصفات، وهي تسوقك إلى غاية يمكنني أن أكاشفك بها الآن إذا شئت ذلك. وقد أرسلك الله إليّ لأنير عقلك وأنت من الرجال الذين حسُنت نواياهم وطابت سريرتهم وسيستخدمك الله للقيام بأعمال عجيبة يريد أن يجريها بين الناس... وهل ترى العالم في سياسته ودينه ومعاملاته كامل الإنتظام ولا تشعر بما يشعر به العالم أجمع من أنه لا بد من مخلـّصٍ ننتظره ونطير شوقاً إليه؟

قلت: أوافقك ذلك وأن العالم أجمع محتاج إلى الإصلاح وأني أتوقع أكثر مما يتوقع كل الناس قدوم مصلح يقوّم المسالك ويرشد الناس إلى سواء السبيل... وأطلت الكلام في هذا الباب فقالت: اعتقد كما تشاء أما أنا فعندي أنك من الرجال الذين كنت أنتظرهم وقد أرسلتك إليّ العناية الإلهية وسيكون لك دور كبير في العمل المزمع حدوثه، وسترجع إلى أوروبا إلا أن أوروبا قد مضى زمنها وبقي لفرنسا وحدها أن تقوم بعمل عظيم وستشترك فيه ولم أعلم كيف يكون ذلك، لكنني إن شئت أذكرهُ لك في هذا المساء عندما أستشير أنجمك ولم أعرف إلى الآن أسماءها كلها، إذ رأيت منها أكثر من ثلاثة. فهي أربعة وخمسة وربما كانت أكثر ولا شك أن عطارد من جملتها فهو يهب العقل نوراً واللسان طلاقة وأنت شاعر لا محالة لأن في عينيك والقسم الأعلى من وجهك ما يدل على ذلك.. إلى أن قالت: فاشكر الله على هذه النعمة لأنه قلما وُلد رجل تحت سلطة أكثر من نجم وندر من كان نجمهُ سعيداً. أو إذا كان سعيداً فقلما يخلو من تأثير نجم آخر خبيث يقاومه. أما أنت فقد كثرت نجومك وأجمعتْ كلها على خدمتك، وهي تتعاون على ذلك. فما اسمك؟ فذكرت لها اسمي.

قالت: هذه أول مرة سمعت به. ثم ذكرت لها ما نظمته من الشعر وأن إسمي مشهور عند أهل العلم في أوروبا إلا أنه لم يتمكن من اجتياز البحار والجبال حتى يصل إلى الشرق. قالت: سيان عندي كونك شاعراً أو غير شاعر، فإنني أحبك ولي فيك أمل وقد تحقق أننا سوف نلتقي ثانية، فإنك سترجع إلى الغرب ولكن لا تلبث أن تعود إلى الشرق فإنه وطنك.

قلت: إن لم يكن وطني فهو ميدان أفكاري. قالت: دع عنك المزح فإنه وطنك الحقيقي ووطن آبائك وقد تحققت ذلك الآن فانظر إلى رِجلك فإنها أشبه برِجل رَجل عربي. وما زلنا نتحادث حتى دخل عبدٌ فخرَّ على وجهه ساجداً أمامها ويداهُ على رأسه، وخاطبها بكلمات عربية لم أفهمها فالتفتتْ إليّ وقالت قد هُيئ لكم الطعام فاذهب وكل. أما أنا فلا آكل لأن عيشتي عيشة نسكية فأغتذي بالخبز والثمار عندما أحس بالجوع، ولذلك لا ينبغي لي أن أُكرِه ضيفي عل مجاراتي.

قبل أن أفرغ من تناول الطعام استدعتني إليها، فلما حضرت وجدتها تدخن بقضيب طويل واستحضرت لي قضيباً آخر لأدخن أيضا، وكنت قد رأيت أجمل نساء الشرق وأظرفهن يدخنَّ مثلها فلم أستغرب ذلك، وكان الدخان ينبعث من شفتيها اللطيفتين على شكل أعمدة فتتعطر به الغرفة.

تحدثنا في أمورها وأطلت التفكير فتبيّن لي أنها أشبه بالساحرات القديمات المشهورات، أو هي أشبه بسيرسة معبودة القدمين وأن عقائدها الدينية، وإن كانت غامضة، فهي مقتطفة بحذق من أديان مختلفة... زد على ذلك التصورات البعيدة الغريبة الناشئة عن فكر مشغوف بالشرق ومتوقد بطول العزلة والإنفراد، وبعض إيضاحات أوضحها لها المنجمون العرب. فإن تصورت ذلك كله انجلى لك شيءٌ من هذا السر العظيم المستغرب الذي يميل الإنسان لتسميته جنوناً ليتخلص من مشقة البحث وإمعان النظر فيه. والحق يقال أن هذه المرأة ليست مجنونه، إذ للجنون علامات واضحة تظهر في العينين وليس له أثر البتة في تلك الألحاظ اللطيفة. كما يظهر الجنون أيضاً في الكلام، فإن صاحبه كثيراً ما ينقطع عن الحديث فترى فيه اختلالاً وشططاً. أما حديثها فسامي المعاني، رمزي، متسلسل، مترابط، متناسق وقوي. وفي اعتقادي أن جنونها اختياري وأنها تعرف نفسها حق المعرفة ولها أسباب تحملها على التظاهر بما قد تظاهرت به.

وما أخذ القبائل العربية المجاورة للجبال من العجب من حذقها وبراعتها يدل دلالة واضحة على أن التظاهر بالجنون هو وسيلة لبلوغ بعض مآرب. ولا يخفى أن سكان أرض أُجريت فيها العجائب وكثرت فيها الصخور والبراري، وتلونت تصوراتهم بألوان جوّهم لا يصيخون سمعاً إلا إلى كلام نبيٍ أو إلى كلام من كان كالليدي ستانهوب، فإنهم يميلون إلى فن التنجيم والنبوات والوحي وما أشبه. وقد عرفت الليدي المذكورة ذلك واتضحت لها الحقيقة لما هي عليه من قوة الحذق، ولكن ربما ساقتها القوة المذكورة كما هو الغالب في أمثالها إلى الإهتداء إلى مذهب وضعته لغيرها.

وبعد أن جالت هذه التصورات في فكري قلت لها لا ألومك إلا على أمر واحد وهو أنك حسبتِ للحوادث حساباً فعاقك ذلك عن الوصول إلى مركز كان في طاقتك أن تصلي إليه. فأجابت: إنك تتكلم كمن يعتقد اعتقاداً صحيحاً في الإرادة البشرية ويشك في فعل القدر. فقوتي على حالها لم تتغير غير أنني أنتظر سنوح الفرصة ولا أجدّ في طلبها، وقد أمسيت وحدي مهجورة بين هذه الصخور المقفرة، عرضة لجَسور قد يطرق منزلي فينهب أمتعتي وحولي جماعة من الخدم الخائنين والعبيد الجاحدين، وهم ينهبونها في كل يوم ويتهددون حياتي أحياناً. وفي المدة الأخيرة لم ينجني من الموت الأحمر إلا هذا الخنجر (وأرته إياه) الذي اضطرني الأمر إلى استخدامه لأدفع عني عبداً لئيماً تربى في بيتي.

ومع ذلك كله تراني سعيدة وألاقي النوائب بقولي "الله كريم"، وأتوقع المستقبل الذي أخبرتك به، ويا حبذا لو كنت تتحققه مثلي.

وبعد أن دخنـّا كثيراً وشربنا القهوة التي كان يأتي بها العبيد كل ربع ساعة مرة، قالت لي: هلمّ فإني سأسير بك إلى مكان مقدس لا يدخله أحد من البشر وهو بستاني. فدخلناه وجلسنا فيه مسروري الفؤاد لأنه من أجمل البساتين الشرقية التي رأيتها. وكنا من وقت إلى آخر نجلس في الكشوك (العرائش) براحة وواصلنا الحديث الذي كنا قد بدأناه.

لبثنا مدة على هذه الحال، ثم التفتت إليّ وقالت: إذا كان القدر قد ساقك إلى هذا المكان وما بين نجمينا من اتفاق يمكنني من مكاشفتك بأمورٍ أخفيها عن كثيرين من بني البشر. سأريك بعينيك عجيبةً من عجائب الطبيعة لا يعرف مستقبلها إلا أنا وأتباعي، وهي التي ذكرها الأنبياء الشرقيون منذ قرون عديدة... ثم فتحت باباً من أبواب البستان يشرف على حوشٍ صغير فوقع نظري على مهرتين عربيتين جميلتين من أطيب أصل وأكمل شكل. فقالت لي هيا بنا فأريك هذه المهرة... فأمعنت بها النظر ورأيت فيها من غرائب الطبيعة... وكان لها في مكان المنكبين تجويفاً عميقاً واسعاً يشبه السرج التركي بحيث يخيل للناظر إليها أنها وُلدت مسرجة. وقرب ذلك السرج شيء أشبه بركابين فيمكن ركوبها من دون سرج صناعي. ولاح لي أن تلك المهرة أحست بما لها من المنزلة والإعتبار عند الليدي ستانهوب وعبيدها، وبما سيكون من أمرها في المستقبل، وقد عهدت سياستها إلى سائسين عربيين يسهران عليها ليلا ونهاراً ولا يفارقانها لحظة.

وبالقرب منها مهرة أخرى بيضاء أجمل منها، تشاركها فيما لها من المنزلة عند الليدي المذكورة وهي كأختها. وفهمت من كلام مضيفتي أنه وإن كان مستقبل المهرة البيضاء دون مستقبل المهرة الثانية فهوي سريّ ومهم، وإن كانت لم تقل لي ذلك قولاً صريحاً...

ثم أمرتْ السائسين أن يأخذا المهرتين إلى مرج خارج السور ففعلا. وبعد أن أطلتُ النظر فيهما وتأملت محاسنهما رجعت إلى الدار وطلبت إليها بإلحاح أن تأذن لمسيو برسيفال بمقابلتها فإنه كان صديقي وتبعني رغماً عني وأقام منذ الصباح ينتظر صدور الإذن بمقابلتها، وهي تبخل عليه بذلك. فأجابتني إلى طلبي بعد التردد مدة ودخلنا جميعاً غرفتها لنصرف فيها ليلتنا، فأقمنا ندخن ونشرب القهوة، وبعد مباحثة طويلة دارت بيننا في أمور السياسة ونظام الحكومات انتقلت أنا إلى أمور أخرى.. فسألتها عن سائحين أو ثلاثة من أصحابي مرّوا بها من 15 سنة فأدهشني كلامها عن اثنين منهم لأنني رأيتها مصيبة في حكمها كل الإصابة. ومن العجب العجاب أنها وصفت بحذق وبلاغة لا مزيد عليهما واحداً من ذينك الإثنين كنت أعرفه حق المعرفة، مع أنه من أصعب الأمور أن يعرف إنسان طباعه من أول وهلة، لأن ظاهره يخدع أبعد الناس عن الإنخداع . ومما أذهلني أيضاً قوة ذاكرتها لأن السائح المذكور لم يصرف عندها إلا ساعتين ومضى بين زيارته لها وزيارتي 16 سنة كاملة. فمما لا شك فيه أن العزلة تجمع قوى النفس وتقوّيها. وقد تحقق ذلك الأنبياء والقديسون وأكابر رجال الدنيا والشعراء، فكانوا يطلبون البراري والقفار أو يعتزلون الناس وهم بينهم.

كما تكلمنا عن بونابرت وعن مواضيع أخرى بحرية تامة. وما زلنا على تلك الحال إلى أن مضى أكثر الليل. قال ولما حان الإفتراق ظهر الحزن والكدر على وجهينا، فقالت لي: لا تودّعني لأننا سنلتقي مراراً في هذه السياحة ونلتقي كثيراً في سياحات أخرى لم تخطر لك ببال بعد، فاذهب واسترح واذكر أنك قد تركت صديقة في قفار لبنان.

ثم مدّت إليّ يدها فوضعت يدي على قلبي على عادة العرب مودعاً وكان ذلك خاتمة اجتماعنا."

هذا ملخص ما دار بينها وبين لامارتين من الكلام والمقام يضيق دون ذكره بالتفصيل.

أما بيتها في جونيه فقد استولى عليه بعد وفاتها صاحبه الدمشقي الذي مات بعدها بقليل فانتقل إلى ابن له وحيد.. شنق نفسه فأخذت امرأته تبيع كل ما يمكن بيعه من أدوات البناء خوفاً من أن يؤخذ البيت منها.

وهكذا عجّلت بخراب تلك الدار الجميلة حتى أمست الآن خاوية على عروشها يأوي إليها البوم وينعب فيها الغراب، وكذلك تكاد آثار الضريح الذي أقيم لها تمحى، وهكذا لم يبق لتلك المرأة التي حاولت أن تضاهي ملكة الشرق، ولا لأعمالها أثر إلا في بطون التواريخ التي حفظت ذكرها ليكون عبرة لمن يعتبر وتذكرة لأولي الألباب.

والسلام عليكم

المصدر: دائرة معارف البستاني – طبعة 1878

إعداد وتحديث مصطلحات: محمود عباس مسعود