إلى صديق راحل

ستشرق روحُك الغالية في أفق جديد، ما وراء حدود هذا العالم..

وستتألق للأبد في سماء المحبة والتضحية والوفاء.

وستقتات قلوب محبيك على مقومات حبكَ الأخوي المجيد الذي غرسته فيها، وتستقي من عصارة نفسك الزكية التي سكبتها من مسامات شخصك الفذ وشمائلك الرائعة.

قد تتساقط أوراق الخريف وتذوي أزاهير الحقول، لكنها تهجع إلى حين منتظرة شمس الربيع الدافئة ونسائم الصيف المحيية لتعود بحلة جديدة وبهاء نضير.

لا لن تعيشَ بعيدا لأنك سكنتَ قلوبنا منذ زمن بعيد.. وستبقى بيننا.. في أمانينا وذكرياتنا وأحلامنا الندية. ولن يقوى الموت على ملاشاة حضورك الأنيس من حنايا عواطفنا التي احتضنتك ومشاعرنا الوالهة التي اتقدت بنار إخلاصك الذي عز نظيره.

الوحشة قد تتسرب إلى قلوبنا لأن يد المجهول اقتطفت زهرتنا الناضرة، لكن حري بنا أن نتعزى حيث زهرتنا الغالية ستتفتح من جديد في رياض الأبدية حيث الروح والريحان، ولن تذبل بتلاتها الغضة بعد الآن، بل ستزداد إشراقاً ونضرة لأن الأشعة الخفية ستغلفها بالسناء مثلما ستتناثر عليها أنداء الخلود وتفعمها بديمومة البقاء.

سنراكَ في ابتسامات الأطفال وعيونهم الصافية.. وفي الليالي القمراء سنعاين طيفك الحبيب.. أما النجوم الصامتة فستروي لنا حكايات مشوقة عنك.. والطيور ستشدو ألحاناً رخيمة لروحك الطيبة.. وهكذا سنشعر بقربكَ وسنعرف أنك ما زلتَ معنا كما كنت قبل الرحيل!

سترافقنا وإن لم تبصرك أعيننا، وسنحس بكيانك الخالد في مهجنا وخلجات قلوبنا التي تنبض بحبك الدافىء.

تموت؟ كيف تموت وروحُك تخفق بين ضلوعنا وترف في أجفاننا؟!

لقد ذهبتَ متنزهاً في حدائق الأبدية وتركتنا نحلم بعودتك في ليالي الشتاء وأمسيات الصيف وأعراف الورود المتضوعة بالعطر الهامس.

وها أنتَ ما زلتَ كريما وحميماً مثلما كنتَ شجاعاً ومتمرساً بمناقب الأريحية ونقاء الوجدان.

لقد غلبتْ عليك إغفاءة الفجر فرحتَ في سبات ذهبي عميق تحلم بمجالس السمر مع ربعك ومحبيك، متنقلاً بين حقول السلام وواحات السكون، حيث الهديل والترتيل وأريج الخزامى والصنوبر.

أجل، ارتحلتَ كتنهدة عميقة في خمائل الورود.. وبقيتْ ذكراك العاطرة تعزينا وتعيد إلى أذهاننا ليالي الأنس التي زرعنا في هدأتها أغانينا وأحاديثنا العذبة التي ما زالت متماوجة في أرجاء الذاكرة وماثلة للمخيلة بكل جلاء.

لقد اندمجتْ نفسك الحبيبة في أعماقك القصية، وودعتَ عالم المحسوسات لتتذوق رحيق الانعتاق من قيود المادة وتتنفس عبير الفضاء اللامتناهي الذي يزخر بعبق المسرات الفائقة التي تتعطش إليها نفوس المتعبين من كوابيس العيش وهموم الحياة.

لعلكَ تمشي بيننا دون أن نراك، وتحدثنا همساً عن آيات الصداقة وروائع المحبة وجمال الحقيقة.

ما زلتَ حياً تسري مع أمواج الأثير، وتطلع مع إطلالة الفجر وتتفتح مع رياحين البراري، وترنو من عيون الزنابق وأهداب الأقحوان.

لقد أطبقتَ جفنيك عن مرائي هذه الدنيا، بيد أنك تبصر الجانب الرقيق من الوجود وتعاين الرؤى التي احتجبت عن أبصار الناس..

لا لن تنتصر أيها الموت.. فحبيبنا سيظل سابحاً في بحار اليقظة الروحية متحدياً الفناء.

لقد تحررت شعلة الحياة من الهيكل المتهدّم، وها هي تومض وترتعش بالأمل المشع بمنأى عن رماد السنين وحطام الزمن.

ها هي أجنحة الروح تشتد وتمعن تحليقاً في أجواز الإنعتاق. لقد أفلت الطائر الثمين من أقفاص الحس وعاد إلى الحرية التي طالما تاق لامتلاكها بعد طول عناء.

عبثا نحاول ارتياد ما وراء القمم الأرجوانية البعيدة ونحن في هذه الأجساد.. ننادي وليس سوى الصدى من مجيب.. يلهبنا الأمل فنتشوق لاستقصاء السر الأعظم من الشفاه التي أطبقها الصمت الأبدي، لكن عيوننا لا تبصر اللا منظور وآذاننا لا تلتقط موسيقى الأفلاك ولا تسمع أنغام الكائنات الطوباوية المترنمة بأمجاد النور.

سلاماً أيتها الحياة التي تبعثين التجدد في كل شيء وتلهمين الخواطر السامية في الأفكار المتناغمة مع إيقاعك العظيم. وتحية إلى تلك الروح التي تعانق المجد وتصافح يد الخلود.. وهنيئاً لأبناء النور الذين تضيء قلوبهم أقباس المحبة ومشاعل الأمل اليافع.

أما نحن الذين نشرب كؤوس العيش المترعة بالحسرات وتعتمل التنهدات السخينة في صدورنا المكدودة فلنا أملٌ أن نرتشف يوماً من ينابيع النعيم المشعشعة وتجفف عبراتِنا أنسامُ اليقين.

لقد ارتحل صديقنا إلى الجزيرة البيضاء حيث الشمس لا تغيب والانطباعات العليا تبقى دائمة التجدد..

ارتحل إلى حيث أنهار اللجين وتلال الأرجوان والربيع الدائم المرصع بالأزاهير التي لا يعتريها ذبول.. إلى حيث سيمفونية الألوان التي لم تشهدها بعد هذه الأرض.

ألا فلتزح ستارة الشكوك، ولتتبدد المخاوف ولنبصر الحقيقة بعيون صافية لا تحجبها غيوم الارتياب ولا يعميها تناقض الثنائيات.

إلى أين تنطلقين أيتها الروح ذات الجوهر اللطيف؟

هل إلى المروج الزمردية التي ما خطرت عليها أقدام بشر؟

أم ترتادين الأفلاك الزرقاء ما وراء إدراك الحواس؟

أو لعلك تغوصين في محيط اللهب البرتقالي وبحيرات الأوبال!

أتراكِ تسدلين حجاباً على الماضي البعيد وتنفضين عنك سبات الغيبوبة الأرضية، مسترجعة قواكِ الكاملة الكامنة في ذاتك السرمدية؟!

لن يقوى الردى على محو صورتك من سجل الوجود لأن شرارة الحياة هي نواتك الجبارة.. ولن يمسّك العدم لأن بقاءك هو حقيقة لا تقبل الجدال، وما عداها أوهام أوهى من الفقاقيع وثنائيات أقل ثباتاً من سراب البوادي.

وها أنتِ لا تزالين حية ندية، تبزغين مع الأصباح البنفسجية حيث لا ظلام ولا ظلال.. بل يقظة أعذب من الكرى في الجفون، وأحلى من الأحلام الذهبية.

وسنشهد ولادتك الجديدة في روعة السكينة وجمال الطل المعتلق بنبت الحقول.. وها هي مدركاتك الجديدة تودّع قيود هذا العالم لتستقبل زخم التيارات القدسية التي ستغسلك من طبيعتك الترابية وتشحنك بقوى وأحاسيس ما ورائية تليق بأبناء الخلود.

محمود عباس مسعود