مسيرة الموحِّد

تأليف: جون بونيان

ترجمة بتصرف:  محمود عباس مسعود

الحلقتان: الأولى والثانية


الحلقة الأولى

كلمة في هذا الأثر

ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب باللغة الإنكليزية سنة 1678 بعنوان  Pilgrim’s Progress (سياحة الحاج) تأليف جون بونيان.

في عام 1675 تم إيداع مؤلفه السجن عقاباً له على إلقاء محاضرات دينية مغايرة للسياسة الكنسية المعمول بها في بريطانيا آنذاك. وأثناء وجوده في السجن قام المستر بونيان بتدوين كتابه هذا الذي أصبح فيما بعد من أشهر الخوالد الكلاسيكية في العالم، لا بصفته كتاباً دينياً بل كعمل أدبي رائع ترجم إلى أكثر من مائة لغة من لغات العالم الحية.

وبحسب معرفتنا توجد ترجمة له باللغة العربية قام بها المعلم بطرس البستاني في منتصف القرن التاسع عشر بعنوان (سياحة المسيحي). إنما تلك الترجمة هي قديمة وبعض مصطلحاتها يشوبه الغموض.  هناك أيضاً تداخل وتشابك في أحداثها بحيث لا يتمكن القارئ أحياناً من الربط بسهولة بين تفاصيلها.

لذلك فقد قررت إخراج هذه الترجمة العصرية لهذا الكتاب الخالد ببعض التصرف. أقول ببعض التصرف لإن الإلتزام التام بحرفيته قد لا يساعد على تقبّل بعض محتوياته. وحرصاً على الإنتفاع من الأفكار الجوهرية التي يحتويها الكتاب فقد سمحت لنفسي بانتقاء عبارات وتعبيرات أكثر ملاءمة لروح العصر من مثيلاتها القديمة التي لم يعد من الممكن تذوقها أو التفاعل معها.

المسيرة هي رحلة رمزية قام بها أحد الباحثين عن الحقيقة، وفيها من المتعة بقدر ما فيها من الفائدة للذين يقرؤون بين السطور ويبحثون عن الدرر المخبوءة في مناجم الفكر العالمي.

رجاء من القارئ الكريم عدم الإستنتاج بأنني أدعو إلى اتباع النهج الذي اتبعه (الموحد) في هذه المسيرة. فالباحث عن الحقيقة يمكنه أن يجدها حيث هو، دونما حاجة إلى التجول والإنتقال والسفر والترحال. وبعبارة الصحابي الجليل سلمان الفارسي (المكان لا يقدس أحداً) لأن فهم الإنسان هو الأساس ووجدانه قدس الأقداس.

 

أتوجه بشكر خاص للأستاذ الكبير عبد الحفيظ جباري من الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب للفت إنتباه الزملاء المترجمين والأدباء إلى ترجمتي المتواضعة لمسيرة الموحد.

 

محمود عباس مسعود - الولايات المتحدة

 

بداية المسيرة

ذات مرة وبينما كنت سائراً في متاهات هذه الدنيا أبصرت مغارة فاتجهت نحوها وأويت إليها. وعندما جلست فيها لأستريح من عناء السفر غلبني النعاس فغفوت ورأيت في حلمي رجلا يرتدي أسمالاً بالية وعلى ظهره حمل ثقيل، وفي يده كتاب يطالع فيه. وإذ واصل القراءة في كتابه أجهش في البكاء ولم يقوَ على تمالك نفسه فصاح قائلا: ما العمل يا ناس؟!

بعد ذلك عاد إلى بيته وحاول ضبط عواطفه كي لا تشعر زوجته وأولاده بقلقه، لكنه لم يتمكن من المحافظة على هدوئه فصارحهم بما يدور في ذهنه ويحس به في أعماقه. وقال لهم أن حمله الثقيل قد هدّ حيله وأوهن عزيمته وأنه متأكد من أن مدينتهم ستصبح طعماً للنار وسيتعرض كل ما بها ومن فيها للفناء والدمار.

هنا دُهش أفراد أسرته لكلامه واعتبروا أن عقله مصاب بالإجهاد، أو أن شبحاً تراءى له فسبب لأفكاره كل هذه البلبلة. ومع حلول الليل أخذوه إلى فراشه على أمل أن يصفو ذهنه المشوش ويجد راحة مما يعانيه. لكن مخاوفه تضاعفت وازداد قلقه عن ذي قبل.

في الصباح ذهبوا إليه ليستطلعوا وضعه ويطمئنوا عليه فقال لهم: "لقد ضاقت الدنيا في وجهي وتراكمت عليّ الهموم". ثم راح يكمل حديثه الذي بدأه الليلة الماضية.

حاول أهل بيته التعامل معه بكيفية أخرى على أمل إقناعه في التخلي عن أوهامه. فعبسوا في وجهه وراحوا يستهزئون به ثم لجأوا إلى الوعيد والتهديد، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل. أما صاحبنا فكان يختلي بنفسه بين الحين والآخر فيسأل الله أن يهديهم ويفتح بصائرهم.

وبين الفينة والأخرى كان يتجول في الحقول يقرأ أحياناً وأحياناً يتأمل وظل على تلك الحال أياماً بطولها. وذات مرة أبصرته سائراً والكآبة

تعلو محياه، يقرأ في الكتاب الذي في يده ثم يبكي ويقول: ما هي الطريقة الصحيحة للتعرف على الله كي أتحرر من القيود التي تقيدني والأصفاد التي تكبلني؟

كما رأيته يجيل نظره في هذا الإتجاه وذاك كمن يريد الإنطلاق والهروب مما هو فيه. لكنه بقي في مكانه نظراً لعدم معرفته للمكان الذي ينبغي الذهاب إليه والسبيل المفضي إليه.

ورأيت في تلك الأثناء رجلا يدعى (المرشد) فاقترب منه وسأله عن سبب بكائه، فأجابه: يا سيدي أبكي على جهلي بالله وعدم معرفتي للحقيقة. وأحياناً يغلب عليّ الوجد لأهل الله فيحن قلبي إليهم ويكتسحني شوق جارف للقائهم. لكن للأسف لا أعرف أين هم ولا الطريق الذي يوصلني إليهم.

قال له المرشد: هل ترى ذلك البصيص في تلك البقعة البعيدة؟

أجاب: على ما أعتقد أبصره.

قال: إذاً اتجه إليه في خط مستقيم دون أن تحيد قيد أنمله عنه. وعندما تصل إليه ستجد هناك باباً. اقرع الباب وستعرف ما ينبغي عمله.

قال صاحب الحلم: بعد ذلك رأيت ذلك الإنسان الذي كان يدعى (الموحّد) وقد راح يعدو بهمة كبيرة. وما أن ابتعد قليلاً عن بيته حتى أبصرته زوجته وأولاده فنادوه محاولين إعادته إلى بيته لكنه سدّ أذنيه وأوسع خطاه وهو يقول: لن أرضى عن الحياة الأبدية بديلا.

لم يلتفت إلى الخلف بل واصل الجري حتى بلغ ذلك المكان. وخرج أيضاً جيرانه وأصدقاؤه فرأوه يعدو بأقصى سرعة. بعضهم كان يستهزئ به وآخر يتهدده في حين كان البعض الآخر يطلب منه العودة.

من بين هؤلاء كان اثنان أحدهما يدعى (المُقاوم) والآخر (المطاوع)، فجريا خلفه محاولين إعادته قسراً. ظلا يعدوان خلفه حتى لحقا به فقال لهما:  يا صاحبيّ ما الذي تريدانه مني؟

أجاباه: نريد أن نعود بك إلى بيتك.

قال: مستحيل لأنكما – مع احترامي ومودتي لكما – تعيشان في مدينة الجهل وتجهلان ذلك. فالجهل موت يا أصحاب. ويا ليتكما تضعان أيديكما في يدي وتسيران معي إلى حيث أنا منطلق.

أجابه المُقاوم: هل تريدنا أن نتبعك ونترك أهلنا وبيوتنا؟

قال: إن الذي تتركانه لا يقارن بالذي أطلبه. وإن تبعتماني فستكونان شريكيَّ في الكنوز التي في الإنتظار. وهناك ما يكفي ويزيد. فهيا معي وستتأكدان من صدق ما أقوله.

أجاباه: وما هو ذلك الكنز الذي هجرت كل شيء في الدنيا من أجله؟

قال: أطلب إرثاً لا يزول ولا يتطرق له الفناء. وهذا الإرث موجود في السماء ومحفوظ لكل من يطلبه بصدق وهمة. وسيعطى لطالبيه عندما يبذلون المجهود اللازم في سبيله ويبرهنون عن استحقاقهم له. أما إن كنتما تشكان في قولي فالدليل إلى ذلك الكنز موجود في كتاب الحكمة هذا ولكما أن تتأكدا بنفسيكما مما أقوله.

قال المُقاوم: دعك من الكتاب ومن طول الحديث، فقط اخبرنا إن كنت ستعود معنا أم لا.

قال: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. وها أنا قد وضعت قدميَّ على الطريق ولن أعود.

فقال المُقاوم لرفيقه: والحالة هذه نعود ونتركه لأنه مجنون على ما يبدو، وهناك الكثير من هذا الصنف ما أن يخطر ببالهم أمر حتى يصدقونه ويعتبرونه الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الجدل.

قال المطاوع: يا أخي لا تتحامل عليه فهو إن كان صادقاً فيما يقول فمستقبله يكون أفضل من مستقبلنا، وبصراحة أنا أحبذ رفقته.

قال المُقاوم: يا سبحان الله! يبدو أن عدد الحمقى آخذ في الازدياد. ضع عقلك في رأسك يا رجل ودعنا نعود لأنك لا تدري إلى أين سيأخذك هذا المعتوه.

فقال الموحد للمطاوع:  تعالَ معي يا أخي. اصحبني وسيكون نصيبك أكثر مما سمعت بكثير.

فقال المطاوع للمقاوم: لقد اقتنعتُ يا أخي بقول الموحّد وفي نيتي مصاحبة هذا الإنسان الطيب وجَعل حظي مع حظه.

ثم التفت إلى الموحد وسأله: هل تعرف يا صاحبي الطريق المفضي إلى ذلك المكان السعيد؟

قال: إن رجلاً كريماً يدعى المرشد طلب مني التوجه إلى باب صغير هو أمامنا، ومن هناك نعرف ما ينبغي عمله للوصول إلى الطريق.

قال المطاوع: إذاً هيا بنا، وانطلقا مسرعين.

أما المُقاوم فقال: حسناً، أعود والعود أحمد من رفقة المجانين!

قال صاحب الرؤيا:

بعد عودة المُقاوم أبصرت الرجلين يسيران بهمة عالية، وقد سأل الموحد المطاوع: كيف همتك يا أخي؟ إنني سعيد جداً برفقتك لي ولو شعر المُقاوم ما أحسه في أعماقي وشاركني تفاؤلي بتلك المغامرة العظمى لما قصف راجعاً ولما سفـّه رأيي واستخف بنا كما فعل.

فقال المطاوع: هل لك أن تخبرني الآن عن تلك الكنوز التي في انتظارنا وما هو السبيل لامتلاكها؟

قال الموحد: إن تصوري لها في ذهني أسهل عليّ من شرحها لك بلساني. ولكن بما أنك مهتم في التعرف عليها فبإمكانك أن تقرأ مواصفاتها في كتابي هذا.

المطاوع: وهل تعتقد أن مواصفات كتابك دقيقة ومطابقة للحقيقة؟

الموحد: نعم. فمصدرها موثوق لا ترقى إليه الشكوك ولا يتطرق إليه الباطل.

المطاوع: عظيم! ولكن ما هي بالضبط تلك الكنوز؟

الموحد: مملكة من النعيم لا انتهاء لها وحياة خالدة للتمتع بتلك المملكة إلى أبد الآبدين!

المطاوع: وهل هناك أمور أخرى؟

الموحد: أمجاد عتيدة وأنوار ربانية أشد سطوعاً من نور الشمس في عز الظهيرة.

المطاوع: شيء رائع يا أخي، وماذا غير ذلك؟

ا لموحد: لا يوجد هناك حزن ولا دموع بل أفراح ومباهج يعجز اللسان عن وصفها.

المطاوع: ومن سنقابل هناك ومع من سنكون؟

الموحد: نكون مع الملائكة الأطهار والأولياء الصالحين والقديسين الأبرار الذين تبهر رؤيتهم الأنظار. كما نلتقي بالكثيرين ممن سبقونا إلى ذلك النعيم المقيم، وهم أرواح طيبة لا يأتينا منهم إلا الخير. ولأنهم متقدمون جداً في الروحيات فهم يخطرون أمام عرش الرحمن الذي يكلأهم بعين الرضا والقبول كونهم من المقربين.

المطاوع: يا له من كلام يبهج الخاطر ويحرك أعماق المشاعر. فهل فعلاً بالإمكان الحظوة بذلك النعيم وما هو السبيل إليه؟

الموحد: إن دلائل ومؤشرات كل ذلك مذكورة في هذا الكتاب، ومن يرغب في بلوغ ذلك النعيم يحصل عليه مجاناً ما دام يطلبه من كل قلبه وعقله وروحه.

المطاوع: والله يا أخي يكاد قلبي يخرج من صدري من شدة الفرح بهذه الوعود. فهيا بنا نسرع نحو مقصدنا المبارك.

قال صاحب الرؤية:

ما أن انتهيا من الحديث حتى اقتربا من نقعة موحلة وسط ذلك المكان تدعى مغاصة القنوط فسقطا فيها وراحا يجاهدان للتخلص منها وقد تمرغا بالوحل. ولسوء حظ الموحد فقد غاص بفعل حمله الثقيل فدبت الشكوك في نفس المطاوع وندم أشد الندم على هذه المغامرة غير المحسوبة وقال للموحد: أهذا هو النعيم الذي لم تتوقف عن الحديث عنه ووصف روائعه؟ فإن كانت هذه البداية فكيف ستكون النهاية؟ إن قـُدر لي أن أخرج حياً من هذا المستنقع فسأسامحك بكل تلك الكنوز وسأعود من حيث أتيت غير نادم.

وما لبث يحاول التخلص من تلك المغاصة حتى تمكن أخيراً من انتشال نفسه بفعل جذبة قوية يحدوه حب البقاء. فيمم وجهه شطر بيته وهو يلعن الساعة التي قبل بها برفقة الموحد الذي لم يره بعدها أبداً.

أما صاحبنا الموحد فبقي وحده في تلك المغاصة الرهيبة. لكنه لم يفقد الأمل ولم يفت هذا السقوط في عضده. وكان همه الأوحد بلوغ ذلك الباب حتى ولو دفع حياته ثمناً لذلك. وكان يدرك في قرارة نفسه أن السبيل إلى الحياة الأبدية لا بد أن يمر عبر طرق محفوفة بالأهوال والمخاطر، في حين أن الدرب الرحب الممهد الذي يسلكه أغلبية الناس يفضي إلى الهلاك. وبقي على هذه الحال من التخبط لكنه لم يتمكن من الخروج من المغاصة نظراً لحمله الثقيل.

ووسط ذلك الكفاح المضني أقبل نحوه رجل يدعى المجير في الشدائد، فقال له: ماذا دهاك.. وماذا تفعل هنا؟

أجابه: إن رجلاً يدعى المرشد نصحني بالسير على هذا الطريق ودلني على الباب كي أنجو من جحيم الجهل. وأثناء السير سقطت في هذه البقعة الموحلة.

قال المجير: ولماذا لم تتبين مواقع أقدامك بدقة أثناء سيرك؟

قال: استولى عليَّ الخوف فالتمست درباً مختصراً ووقعت هنا.

فتقدم منه المجير وقال له ناولني يدك. فمدها إليه فأمسك بها وأخرجه وسار به بعيداً عن المغاصة ثم طلب منه أن يمضي في حال سبيله.

قال صاحب الرؤيا:

فاقتربت من المجير وقلت له: يا سيدي، إن كانت هذه المغاصة عثرة في الطريق الموصل إلى الباب الضيق فلماذا لا يتم ردمها حتى لا يسقط المسافرون فيها؟

قال: إنها بالوعة تتسرب إليها الشكوك والآلام والأوهام الناجمة عن الجهل ولهذا السبب تدعى مغاصة القنوط، لأن الجاهل ما أن يستيقظ من غفوته ويدرك حالته اليائسة حتى يشعر بالألم النفساني ويغوص في هموم عميقة وكثيفة ويستولي عليه اليأس والقنوط، ولذلك سميت مغاصة القنوط. وقد حاول الناس تجفيف هذه المغاصة على مدى قرون لكنها بقيت على حالها. وهذه المغاصة الخبيثة ابتلعت الكثير من التعاليم المقدسة المستجلبة من المملكة السماوية لأن حاملي تلك التعاليم كانوا ضعفاء الإيمان واهني الإرادة.

أصحاب الرأي يقولون أن تلك التعاليم هي أفضل السبل لتجفيف هذه البقعة الموحلة الموحشة، ومع ذلك ما زالت على حالها بالرغم من كل الجهود التي بذلت في سبيل إصلاحها. إنما توجد وسط المغاصة بعض الصخور التي من يحسن الوصول إليها بحذق بالغ يتمكن من الخلاص من أوحالها الخانقة. لكن ما أن يسقط الإنسان فيها يروح يتخبط في الأوحال حتى تختفي تلك الصخور بفعل الهيجان والاضطراب. وحتى إن ظهرت له بعد ذلك لا يتمكن من الوصول إليها جراء ما قد يصيبه من الدوخة والغثيان فتلطخه الأوحال. ولكن إن تمكن من الخروج ودخل من الباب وجد أن الأرض جافة وجيدة.

قال ثم رأيت المطاوع وقد وصل إلى بيته فأتى جيرانه للوقوف على أمره. فمنهم من اعتبره حكيما لأنه تبصر العواقب وتخلى عن تلك المغامرة. وكان هناك من اعتبره أحمقاً لأنه عرّض حياته للخطر بمرافقته للموحد. وكان فريق آخر يهزأ به لأنه تخاذل بعد الجرأة وارتد على أعقابه جراء تجربة بسيطة. وقد أحس بالخجل وسطهم لكنه تماسك وظل يحاورهم فتوقفوا عن التحامل عليه وراحوا يغتابون الموحد ويلومونه على تصرفه الأخرق.

قال بعد ذلك رأيت الموحد وهو يسير وحيدا فصادف في مفترق الطريق رجلاً يدعى الحكيم الدنيوي، كان يعيش في مدينة ذات شأن تسمى الفطنة البدنية تقع على مقربة من مدينة الموحد. وكانت كل المناطق المجاورة قد عرفت بخروج الموحد وتداول الناس قصته حتى سمع فيها ذلك الحكيم. فعندما قابل الموحد قال: ما هو مقصدك يا أخي؟

الموحد: إني في طريقي إلى ذلك الباب الضيق الذي أمامنا حيث أأمل في معرفة الطريقة التي تخلصني من حملي الثقيل هذا.

الحكيم الدنيوي: وهل تقبل نصيحتي؟

الموحد: بكل سرور ما دامت نصيحة مفيدة فأنا بحاجة لكل مشورة سديدة.

الحكيم الدنيوي: أنصحك يا أخي أن تلقي عن ظهرك هذا الحمل الباهظ لأنك لن تتمكن من التمتع بمسرات الحياة وخيراتها التي وهبها الله لك إلا إذا فعلت ذلك.

الموحد: هذا ما أرغب فيه ولكن لا طاقة لي على التخلص منه بنفسي. ولا يوجد في مدينتنا من هو قادر على تخليصي منه. ولهذا فأنا سائر في هذا الدرب لأتحرر من هذا العبء الثقيل.

الحكيم الدنيوي: ومن الذي طلب منك أن تنطلق على هذا الطريق لتتخلص من الحمل؟

الموحد: شخص رفيع القدر يدعى المرشد.

الحكيم الدنيوي: بئس النصيحة نصيحته.  ففي الدنيا كلها لا يوجد ما هو أصعب وأشد خطراً من هذا الطريق الذي نصحك بالسير عليه، وسوف تلمس ذلك بنفسك إن أنت واصلت سيرك. ويبدو لي أنك وقعت في مغاصة القنوط لأنني أرى آثار الوحل على ثيابك. إنما يجب أن تضع في الإعتبار أن هذه المغاصة هي أولى العقبات وأسهلها، فالآتي أعظم. لذلك اقبل مشورتي حيثني أكبر منك سناً وأغنى تجربة. ويبدو لي أنك إن واصلت مشوارك على هذا الطريق فستختبر جوعاً وإرهاقاً وألماً وعرياً وظلاماً. بل وقد تعاني طعنات السيف وتمزقك الأنياب والمخالب. وباختصار ليس أمامك إلا الويل والدمار والفواجع والأهوال. فبالله عليك كيف تزج بنفسك في هذا المعترك الرهيب عملاً بنصيحة شخص غريب؟!

الموحد: ثق يا صاحبي أنني لن أنحرف عن هذا الطريق قيد أنملة حتى ولو أصبحت طعاماً للوحوش والغربان.

الحكيم الدنيوي: وما هو دليلك على أن هناك من يريحك من حملك ويهبك الراحة والطمأنينة اللتين تنشدهما؟

الموحد: دليلي هو كتابي هذا الذي فيه التعاليم العرفانية المباركة.  وأنا مذ قرأت عن الحياة الروحية وأقطابها الأماجد شعرت بميل قوي لعمل ما بوسعي كي أحيا تلك الحياة وألتقي بهؤلاء الأقطاب.. أركان الحق السرمدي.

الحكيم الدنيوي: أستنتج من كلامك هذا أنك بالفعل إنسان مجذوب تعيش على الأوهام. ألم تسمع من أهل الرأي والعارفين أنه لا توجد حياة سوى هذه الحياة التي نحياها وأن الإنسان يزول بزوال الجسد؟ لا بد أنك وقعت في ما وقع به ذوو العقول الضعيفة الذين يتعاملون مع مسائل وهمية هي بالأصل فوق مستواهم، ونتيجة لذلك يحملون أحمالاً فوق طاقتهم رغبة منهم في الحصول على أشياء افتراضية لا وجود لها إلا في أفكارهم الموهومة.

الموحد: إنني أعلم جيدا ما أطلبه وهو الراحة من حملي الثقيل هذا.

الحكيم الدنيوي: وهل يعقل أن تسير على هذا الطريق المحفوف بالمخاطر التماساً للراحة مما أنت فيه؟ يا ليتك تسمع لي وتعمل بمشورتي وسأدلك على أقرب السبل لتحقيق مبتغاك، دون أن تعرض نفسك للأهوال التي في الانتظار. فالأمر يتوقف عليك ولعلك تراجع حسابك وتصغي إلى صوت العقل.

أثـّرت كلمات الحكيم في نفس الموحد فقال له: وهل بإمكانك فعلاً أن تدلني إلى غايتي وتحقق مبتغاي؟

أجاب الحكيم الدنيوي: بكل تأكيد. ففي تلك البلدة التي تدعى قرية الآداب يوجد رجل يدعى القانوني وهو على جانب كبير من سعة الصدر والفهم الغزير والسيرة الحسنة. إنه حجة في رفع الأحمال عن كاهل المتعبين أمثالك. هذا الرجل العظيم له باع طويلة في مساعدة الناس وله قدرة فائقة على علاج ذوي العقول المخضوضة بفعل أحمالهم الثقيلة. فاذهب إليه على الفور وستجد عنده ما تطلبه. إنه لا يبعد عنك سوى مسافة قصيرة. فإن وجدته كان به وإلا فعنده ولد طيب يدعى أبا اللطف وهو غاية في الرقة والدماثة وبإمكانه مساعدتك كوالده في التخلص من حملك الثقيل. وبعد التحرر من حملك فإن لم ترغب في العودة إلى مدينتك بإمكانك عندئذ أن تجلب إليك زوجتك وأولادك فتعيشوا معاً بين هؤلاء الأناس الطيبين في ذلك المكان الرحب حيث ستلقى مع أحبائك الكرم وحسن الضيافة وتعيشوا بأمن وطمأنينة من الهموم التي لا وجود لها عند هؤلاء الكرام.

قال صاحب الرؤيا:

ذلك الحديث وجد وقعاً في نفس الموحد فقال في نفسه: إن كان الأمر حسبما يقول فالأفضل لي أن أعمل بنصيحته. وقال للحكيم: أين الطريق يا سيدي إلى بيت ذلك الإنسان الفاضل؟

فأجاب الحكيم: سر باتجاه ذلك التل الذي تراه وأول بيت تصله هو بيته.

وعلى الفور انحرف الموحد عن طريقه الأول وسار على الدرب الذي دله عليه الحكيم الدنيوي إلى أن اقترب من ذلك التل وإذا به عالٍ جدا وهناك ما يشبه الجسر المعلق الذي على وشك السقوط فخشي أن يتقدم خوفاً من أن يسقط الجسر عليه، كما خيّل إليه أن حمله قد أصبح أثقل من ذي قبل ورأى جمراً يخرج من ذلك التل فخشي أن يحرقه وراح يرتجف والعرق يتصبب منه بغزارة، فندم أشد الندم على عمله بنصيحة ذلك الحكيم الدنيوي وامتلأ حزناً وكآبة.

وإذ هو على تلك الحال رأى المرشد مقبلاً نحوه فشعر بالإحراج والإرتباك. فاقترب منه المرشد ونظر إليه نظرة عطف وخاطبه معاتباً:

 ما الذي أتى بك إلى هنا يا أخي الموحد؟

لم يعرف الموحد كيف يجيبه بل ظل واقفا بصمت أمامه.

المرشد: ألست أنت نفس الرجل الذي رأيته يصيح ويولول قرب مدينة الجهل؟

الموحد: نعم يا سيدي، أنا هو بذاتي.

المرشد: ألم أدلك يا أخي على الطريق المفضي إلى الباب الضيق؟

الموحد: أجل يا أخي.

المرشد: فكيف انحرفت عنه بهذه السرعة؟

الموحد: بعد خروجي من مغاصة القنوط قابلت رجلاً أكد لي بأنني سأجد في تلك القرية شخصاً يحررني من حملي الثقيل.

المشير: وما هي أوصاف ذلك الرجل؟

الموحد: بدا لي أنه إنسان فاضل، تحدث معي بإسهاب وأقنعني أخيرا بتبني وجهة نظره، فوجدت نفسي في هذا المكان ورأيت الجسر المعلق فخفت أن يسقط عليّ ويؤذيني.

المرشد: وما الذي قاله لك ذلك الرجل؟

الموحد: استعلم مني عن السبب من سيري بمفردي على هذا الطريق وسألني عن أسرتي كما حذرني من مخاوف ومخاطر شتى في انتظاري على الطريق. وأكد لي أن ما أبتغيه يمكن تحقيقه عن طريق شخص موجود في هذه القرية. فصدّقت كلامه وتوجهت نحو القرية إلى أن وصلت إلى هذا المكان فوقفت محتاراً لا أدري ماذا أفعل.

فقال المشير مستشهداً: "البار يحيا بالإيمان وإن رجع عن طريقه لن يرضى الله عنه"

ثم أردف قائلا: الطريق الذي دلك عليه الحكيم الدنيوي هو درب الشقاء. لقد يسر الله لك مشورة صالحة فلم تعمل بها وابتعدت عن طريق السلام محبذاً طريق الهلاك.

فسقط الموحد عند قدمي المرشد وقال: يا حسرتي نبذت المشورة ولم أعمل بها. فأمسكه المرشد بيده ورفعه قائلا:

عليك يا أخي بتعزيز إيمانك والامتثال لإرادة الله العلي القدير. اعتصم بحبل الله وثق  بالروح الأمين إن أردت أن تنجو من بحر الهلاك الفظيع والموت المريع.

واستطرد المرشد قائلا: استمع إليّ جيداً يا أخي الموحد فأطلعك على حقيقة ذلك الإنسان الذي ضللك وحقيقة صديقه الذي أرسلك إليه.

هذا الذي ضللك هو الحكيم الدنيوي، وقد أطلق عليه هذا اللقب لاهتمامه الكلي بأمور هذا العالم. وهو يعيش في قرية الآداب. أما لماذا يحب الأمور الدنيوية فلأنها تعفيه من مجاهدة النفس حق جهادها. وكونه ذا ميول مادية بحت فإنه يحاول دائماً صرف الناس عن سبيلهم القويم الذي ارتضوه لأنفسهم والإنحراف بهم عن مقصدهم النبيل.

أما بالنسبة لمشورته فتنطوي على ثلاثة أمور شريرة يجب أن ترفضها رفضاً قاطعاً. تلك الأمور هي: ثنيك عن درب الخلاص ومحاولة إقناعك بعدم جدوى تهذيب النفس والتغلب على ميولها وأهوائها، وأخيراً إرسالك إلى هذا الدرب المؤدي إلى الهلاك.

فأولا وقبل كل شيء يجب أن ترفض قبول مشورته لأنك إن قبلتها تكون قد خالفت مشورة الله واستبدلتها بمشورة حكيم دنيوي سيء القصد.

إعلم يا أخي أن الله يأمرنا بالدخول من الباب الضيق وهو نفس الباب الذي طلبت منك الذهاب إليه. فما أضيق الباب وأعسر الطريق الذي يفضي إلى الحياة الأبدية وما أقل الذين يسيرون عليه!

وهذا الحكيم هو جاهل ولأنه كذلك فقد صدك بحيلته عن بلوغ ذلك الباب ونصحك بدلا من ذلك في السير على هذا الطريق الذي يقودك إلى الهلاك.

ثانياً، يجب أن ترفض رأيه رفضاً قاطعاً لأنه يريد ثنيك عن ضبط النفس الذي لا سبيل إلى بلوغ المراد بدونه.

ثالثاً، يجب أن ترفض استدراجك إلى الطريق المفضي إلى الموت. كما يجب أن تعلم أنه غدر بك وأرسلك إلى شخص لا قدرة له على إنزال حملك عن ظهرك. أما بخصوص هذا القانوني الذي أرسلك إليه فهو رجل دنيوي مثله، وهو واحد من قوم مستعبدين للمخاوف والشهوات لا قدرة لأحد منهم على تحرير شخص آخر لأنهم كلهم مقيدون بأهوائهم التي لا حصر لها. واعلم أن القانوني لم يتمكن بعد من إعتاق شخص واحد فلا تغتر به ولا تعقد عليه الآمال. وخلاصة القول فالحكيم الدنيوي كذاب والقانوني مخادع وابنه أبو اللطف منافق، ولا يمكن لأحدهم أن يساعدك أو يسدي لك أقل خدمة.

ما أن نطق المرشد هذه الكلمات حتى تطلع إلى السماء وصاح بصوت عظيم قائلا "والله على ما أقوله شهيد".  فخرج من التل الذي كان يقف الموحد تحته كلمات ونار، فاندهش الموحد وتعجب مما رآه. أما الكلمات فكانت:

مبارك من يسمع كلام الحق ويعمل به فإن له حياة أبدية.

فندم الموحد أشد الندم وراح يبكي ويلعن اللحظة التي التقى فيها بالحكيم الدنيوي، ويلوم نفسه على تصديق أباطيل ذلك الدعي وانحرافه عن الطريق السوي. وقال للمرشد:

يا سيدي هل ما زال لي رجاء بعد كل هذا؟ وهل ما زال باستطاعتي المضي إلى الباب الضيق؟

أجابه المشير: ما من شك أنك اقترفت خطأ كبيراً في انحرافك عن الطريق الضيق وسيرك على الدرب المحظور على أمثالك. ومع ذلك فمتى وصلت إلى الباب سيسمح لك البوّاب بالدخول منه، فهو طيب القلب ويحب مساعدة المحتاجين للعون. إنما أنصحك بعدم الإستماع بعد الآن لأي حكيم دنيوي.

بعد ذلك تأهب الموحد للرجوع فودعه المرشد ودعا له بالتوفيق، فانطلق بأقصى سرعة لا يلوي على شيء ولا ينظر إلى أحد ولا يجيب سائلا. وكم كانت فرحته كبيرة عندما وجد نفسه من جديد على الطريق الذي غادره، فواصل السير بهمة عالية حتى وصل إلى الباب الضيق. وكانت عليه العبارة التالية (من يقرع الباب يأتيه الجواب). فراح يقرع الباب ويقول:

إني قصدتُ بابكــمْ    وأطلبُ جوابَـكمْ

تكرموا وافتحوا لي   وليفتـــح اللهُ لكمْ

فتقدم منه شخص مهيب اسمه الكريم وسأله قائلا: من أنت، ومن أين أتيت، وماذا تبغي؟

قال: إنني آتٍ من مدينة الجهل وقاصد مدينة النور وقد سمعت أن الطريق يمر من هذا الباب فهل تسمح لي يا سيدي بالدخول؟

قال: أهلا وسهلا، على الرحب والسعة. وفتح الباب فدخل الموحد. وما أن وضع رجله داخل الباب حتى اختطفه الرجل بسرعة كبيرة. فقال الموحد: خير إن شاء الله! لماذا فعلت ذلك يا سيدي؟

أجابه الكريم: يوجد مقابل هذا الباب برج يسكن فيه الدجّال وأعوانه، وهم يراقبون كل الداخلين عن كثب ليرموهم بسهامهم الحادة لعلهم يصرعوهم عند الباب.

قال الموحد: هذا أمر مخيف إنما سررت لتكرمك بإنقاذي. فجزاك الله خيراً وأحسن لك وأجزل لك الثواب. ثم سأله البواب عن هوية الشخص الذي نصحه بالذهاب إلى الباب، قال: لقد طلب مني المرشد كي آتي إلى هنا وأقرع الباب. ثم قال لي أنك ستخبرني بما ينبغي لي أن أفعله.

أجاب البواب: إبشر! أمامك باب مفتوح لا قدرة لأحد على غلقه.

قال الموحد: ونعمى بالله! لقد أصبحت أشعر الآن أنني على وشك جني ثمار أتعابي ومحني.

قال البواب: ولماذا جئت لوحدك؟

أجاب الموحد: لم أجد من بين أهلي وجيراني من له الهمة والثبات على مرافقتي.

البواب: وهل عرف أحد من قومك بمجيئك؟

الموحد: نعم. أولاً رأتني زوجتي وكذلك أولادي، ثم عرف جيراني بنيتي فحاولوا إقناعي بالعدول عن نيتي والعودة إلى قريتي فلم أطاوعهم بل مضيت في حال سبيلي.

البواب: هل تبعك أحدهم محاولا ردّك؟

الموحد: نعم. لقد تبعني المقاوم والمطاوع إلى أن يئسا من عودتي فعاد المقاوم غاضباً. أما المطاوع فقد رافقني لمسافة بسيطة.

البواب: ولماذا لم يواصل المشوار معك؟

الموحد: سقطنا أثناء سيرنا في مغاصة القنوط وما أن تمكنا من الخروج منها حتى قفل صاحبي راجعاً وهو يقول: الله يبارك لك في كل ذلك النعيم الذي في انتظارك.

البوّاب:  ويحه! وهل استخف بالمملكة السماوية بهذه البساطة لدرجة أنه لم يقوَ على احتمال تجربة بسيطة في سبيلها؟

الموحد: لقد تكلمت بالصدق عن المطاوع ولو تكلمت بنفس الكيفية عن نفسي لاتضح أنني لا أختلف عنه. فهو عاد إلى بيته أما أنا فتحولت من درب الخلاص إلى درب الهلاك لأنني عملت بمشورة الحكيم الدنيوي.

البواب: وهل التقيت به؟ وهل نصحك بالذهاب إلى صاحبه المنافق القانوني  كي يخلصك من حملك؟

الموحد: نعم يا سيدي. وهذا ما حدث بالضبط. فما أن وصلت التل الذي يسكن القانوني بمحاذاته حتى خشيت أن يسقط عليّ الجسر المعلق.

البواب: ذلك التل هو فخ الموت، وقد قضى على ألوف مؤلفة من الراغبين، ولولا فرارك لكنت الآن في عدادهم.

الموحد: أجل. ولولا رحمة الله الذي أرسل لي المرشد لما تمكنت من الوصول إلى هنا. فحمداً لله والشكر له الذي امتنّ علي بالوصول إلى هذا المكان المأمون ولم يحاسبني على تهاوني غير المبرر.

البواب: لا بأس. فنحن لا ندين أحداً على ما بدر منه قبل مجيئه إلى هذا المكان. ومن يلجأ إلينا نسعفه ولا نرده خائبا. هيا سر معي يا موحد فأدلك على الطريق الذي يجب أن تسلكه. فهو ذلك الطريق الضيق الذي تراه أمامك. ذلك الطريق فتحه الأنبياء والأولياء الصالحون الذين يهمهم أمر أحبتهم البشر الراغبين في الخلاص من قيود وأوهام هذا العالم. الطريق مستقيم ولا ينبغي أن تحيد عنه إن أردت الوصول إلى مقصدك.

الموحد: ألا يوجد فيه منعطفات ومنعرجات يتيه فيها الغريب؟

البواب: بالطبع هناك طريق واسع يتشعب منه، لكنه طريق غير سوي فاحذر السير فيه بل واصل السير على طريقك المستقيم.

قال صاحب الرؤيا:

ثم رأيت الموحد يطلب من البواب أن يرفع حمله عنه إن كان بمقدوره ذلك لأن الحمل كان لا يزال فوق ظهره. فقال له البواب: اصبر يا رجل فإن الله مع الصابرين ومتى وصلت إلى مكان الخلاص سيسقط الحمل تلقائيا عن ظهرك. فتأهب الموحد للانطلاق فقال له البواب: عما قليل ستصل إلى بيت الشارح فاقرع الباب وسيريك ما تيسر له من الأمور العجيبة. فاستكثر الموحد بخيره وودعه منطلقاً إلى بيت الشارح حتى وصله.

قرع صاحبنا الباب وإذ بصوت يقول: من الطارق؟

أجاب الموحد: إني مسافر وقد طلب مني أحد معارف صاحب هذا البيت كي أجيء إليه وأرجو مقابلته.

حضر صاحب البيت وقال للموحد: ما الذي تريده مني؟

قال الموحد: لقد خرجت من مدينة الجهل والهلاك طالباً مملكة النعمة والنور وقد طلب مني البواب كي آتي أليك لتزودني بما أحتاج إليه في مشواري الطويل.

قال الشارح: أدخل عليك أمان الله وسنقوم بعمل ما بوسعنا لمساعدتك فيما تحتاجه.

ثم طلب من مساعده كي يضيء له شمعة ويأخذه إلى غرفة منفردة ليبيت فيها.

ما أن دخل الغرفة حتى أبصر على أحد جدرانها صورة لرجل مهيب يتجه ببصره إلى السماء وقد أمسك بيده كتاب ونور الحق يشع من عينيه. وقد بدا محاطاً بهالات من المجد الرباني.

فقال الموحد: صورة من هذه يا سيدي؟

أجاب مرافقه: هذه الصورة هي لرجل عظيم لا يمكن مقارنته بباقي الرجال. أما عيناه الشاخصتان إلى السماء والكتاب الذي يحمله في يده فدليل على أنه من أقطاب الحق العارفين بالأسرار السماوية. وله القدرة على تقديم العون لكل من يلتمسه بنية صادقة وإرادة طيبة. هذا الرجل المبارك جاهد نفسه حق جهادها ففاز بإكليل الظفر الذي تراه مضفوراً فوق رأسه.

واعلم أن سيد المكان الذاهب أنت إليه قد أوكل إلى صاحب هذه الصورة أمر حماية السائرين على الطريق. فلا تنخدع بالمظاهر بعد الآن ولا تغتر بالكلام المعسول. وإن صادفتك تجربة على الطريق تذكر صاحب الصورة والتمس شفاعته وسيزول الخطر بعونه تعالى. وإياك أن تقبل بعد الآن من يتطوع لأن يكون مرشدك  لأن العالم يغص بالضالين المضللين. أما الدجالون فهم أكثر من الهم على القلب. فانتبه جيدا وكن واعياً لكل ما يعرض لك أو يعترض سبيلك.

بعد ذلك أخذ بيده وسار به إلى غرفة كبيرة على أرضها طبقة كثيفة من الغبار لأنه لم يتم كنسها منذ عهد بعيد. فنظر الموحد إليها وقد تعجب من حالتها. في تلك الأثناء طلب الشارح من أحد الأشخاص كي يقوم بكنسها، وما أن بدأ بذلك حتى تطاير الغبار بكثافة بحيث كاد الموحد أن يختنق. فاستدعى الشارح خادماً وأمره أن يقوم برش أرض الغرفة بالماء. فما أن رشه حتى انقطع الغبار. وهنا سأله الموحد: لماذا كل هذا الغبار يا سيدي؟

أجاب الشارح: هذه الغرفة تمثل قلب الإنسان الذي لم يتطهر بالتعاليم المباركة. والغبار هو رمز الجهل والتعلق بالأمور الدنيوية. أما الذي قام بالكنس فهو كناية عن الشريعة بينما الذي رش الماء هو الأمل بالخلاص باتباع التعاليم المقدسة.  أما هيجان الغبار دون تنظيف الغرفة فمعناه العلوم والتعاليم السطحية التي لا قدرة لها على تنقية القلب من أسباب الجهل، بل أنها تساعد على استدامة الجهل وإبقائه في النفس. أما زوال الغبار بفعل الماء المرشوش فذلك كناية عن التعاليم الروحية التي إن دخلت القلب ترطبه وتزيل منه الجهل وتطهر روح الإنسان وتجعلها مؤهلة لتقبل المجد الإلهي.

قال صاحب الرؤيا:

بعد ذلك رأيت الشارح وقد أمسك بيد الموحد وأخذه إلى حجرة فيها شابان جالسان على كرسيين، إسم الكبير الملل وإسم الآخر الصبر. وقد بدا الإنزعاج واضحاً على الكبير في حين كان الصغير مطمئن البال. فاستفسر الموحد عن سبب انزعاج أحدهما وهدوء الآخر، فقال الشارح: إن سيدهما يريد تأخير ثواب الكبير حتى مطلع السنة القادمة وهو لا يتحلى بالصبر فلذلك تراه مضطرباً بفعل لجاجته وإلحافه بعكس رفيقه الطويل البال.

قال ثم رأيت رجلاً وقد أحضر أموالاً كثيرة في كيس فوضعها أمام الملل فأخذها بسرور بالغ وراح يضحك على الصبر لأنه لم يحصل على المال نظراً لطول باله.  ولكن ما لبث الملل أن بدد أمواله فلم يبقَ معه سوى الكيس الفارغ.

ثم قال الموحد للشارح: أرجو أن تزدني إيضاحاً يا سيدي.

الشارح: الملل هو كناية عن أهل الدنيا. فهو يريد أن ينال أجره في نفس العام، أي في هذا العالم إسوة بالدنيويين الذين لا طاقة لهم على الإنتظار لثواب المستقبل، أي الآخرة. وهم بذلك يحبذون العمل بالمثل "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة" ولا  تهمهم كل التأكيدات الإلهية عن نعيم وخيرات العالم الثاني. ومثلما رأيت فإن الملل بعزق كل أمواله مثلما تتبدد خيرات هذه الدنيا، على عكس الصبر الذي أجّل جزاءه إلى المستقبل.

الموحد: يبدو لي أن الصبر أكثر حكمة لأنه  يتطلع إلى المستقبل وينتظر الأفضل فيحصل على المكافآت السَنية في الوقت الذي لا يكون في يد صاحبه سوى كيس فارغ.

الشارح: أجل، وعلاوة على ذلك فإن مكافآت العالم الآتي لا تزول بينما بضاعة هذا العالم فانية لا دوام لها. ولا ينبغي للملل أن يسخر من الصبر لمجرد نيله مكافآته أولا، في حين يحق للصبر أن يفتخر لنواله ثوابه لاحقا. ولهذا فإن الغني المتنعم الذي لا يشارك الغير في أمواله يستوفي استحقاقاته في حياته، أما الصابر فله التعزية الأبدية.

قال الموحد: يبدو لي أن الانتظار خير من التعجيل.

فأجاب المفسر: صدقت، فالأمور المنظورة محدودة بالزمان والمكان أما غير المنظورة فهي أبدية وغير مقيدة بزمان أو مكان. ولكن نظراً للتقارب الملموس بين رغبات الإنسان والأمور الحسية والتباعد بين أماني الروح وأشواقها المستقبلية يغتر الإنسان بالدنيا وبضاعتها ويزهد بالآخرة وأمجادها العتيدة.  لكن الحكماء يحسنون التمييز ويطبقون القول المأثور:

 (واللبيبُ اللبيبُ من لا يغتر بكون مآلهُ للفسادِ).

 وهم بذلك يجتهدون ويجاهدون لبلوغ الحالات العليا واستعادة فردوسهم المفقود. واعلم أيها الموحد أن الإيمان هو حياة الأبرار الذين بالإيمان يحيون وعلى ربهم يتوكلون.

قال: رأيت بعد ذلك الشارح وقد أخذ الموحد إلى مكان ذي حائط وبجانب ذلك الحائط نار مشتعلة وإلى جانبها رجل ينضح عليها كميات كبيرة من الماء كي يخمدها ومع ذلك فهي تزداد اضطراماً.

قال الموحد: ما معنى ذلك يا مولاي؟

أجاب الشارح: هذه النار هي النعمة الإلهية التي تعمل عملها المبارك في القلوب والنفوس بفعل الإيمان. والذي ينضح الماء عليها ليطفئها هو إبليس. أما لماذا تزداد اشتعالاً كلما صب الماء عليها فهذا ما ستعرفه بعونه تعالى. ثم سار به إلى الجانب الآخر من الحائط فرأى رجلا يحمل وعاءً من الزيت يصب منه خفية على تلك النار.

فقال الموحد: وما هذا يا سيدي؟

قال: هذا هو السيد المبارك أو الروح الأمين الذي يحفظ بزيت النعمة والبركة نار الإيمان المقدسة مشتعلة في قلوب المريدين. وبفضل ذلك الزيت تبقى البركة محفوظة في نفوس ذوي الأشواق الروحية اللاهبة مهما حاول الشيطان إطفاءها بماء الوهم والتضليل. أما جلوسه خلف الحائط فهو كناية عن أن الواقع تحت طغيان التجارب والوساوس لا يعرف كيفية عمل النعمة الخفية في نفوس المؤمنين.

قال صاحب الرؤيا:

ثم رأيت الشارح وقد أخذ بيد الموحد وسار به إلى مكان رائع في وسطه قصر فخم منظره بهجة للنظر. ففرح الموحد برؤيته وشاهد أناسا يخطرون على سطحه بحلل من الزمرد الأخضر والياقوت الأزرق فطار شوقاً للذهاب للإنضمام إليهم. فسأل الشارح قائلا: هل من سبيل للدخول إلى القصر؟

فأخذه الشارح إلى بابه وإذ بأناس كثيرين يقفون عند الباب يهمّون بالدخول فلا يقدرون. وكان قرب الباب رجل في يده سجل وفي اليد الأخرى قلم يدوّن أسماء كل من يدخل من الباب. وكان أيضاً عدد كبير من الحراس المسلحين يقفون عند الباب ويحاولون إيذاء الداخلين بشتى الطرق. ونظراً لمنظرهم المرعب فقد تحاشى الواقفون سطوتهم وراحوا يتراجعون عن الباب خوفاً وجزعاً.

هنا دُهش الموحد من ذلك المشهد ووقع في حيرة من أمره.  وبينما هو على تلك الحال رأى رجلاً قد دنا من الكاتب وطلب منه أن يكتب إسمه في السجل فكتبه. عندئذ تقلد ذلك الرجل سيفه ولبس درعه وخوذته وهجم هجمة شرسة على الحراس فبادلوه الهجوم بمثله ودارت بينهم معركة حامية الوطيس. وقد جُرح كما جرح العديد من أولئك الأشرار الذين كانوا يحاولون صده عن الدخول. وتلك هي الحال مع كل من عقد العزم على بلوغ الأمجاد العليا والحظوة بالنعيم الأبدي. إذ مهما اعترض سبيله من العوائق لا يقف عندها ولا ينكص على أعقابه بل يستعين بالله ويكافح كفاح الأبطال حتى يحقق غايته السامية التي هي غاية الغايات وذروة الإنجازات.

ظل ذلك الشجاع يصول ويجول كالأسد الهصور حتى شق له طريقاً في وسط الحرّاس وانطلق مسرعاً نحو القصر فتعالت أصوات الترحيب والتهليل من الموحدين الذين في داخله وعلى سطحه وهم يقولون:

يا زائــــراً أهلا بكَ             بوركتَ والنعمة ْ لكَ

هيّا تفضّل بالدخولْ             فالمجدُ في انتظـاركَ

فدخل القصر وابتهج به أهله فألبسوه ثياباً كالتي يرتدونها. أما الموحد فقد كان يرى تلك المشاهد ويسمع ذلك الكلام ويبتسم فرحاً بكل ما رآه وسمعه وقد شعر أنه فهم معنى تلك الرموز.

بعدها قال للشارح: اسمح لي يا سيدي بالمغادرة.

أجاب الشارح: سأدعك تنطلق بعد أن أريك أشياءً أخرى.

فأخذه إلى حجرة مظلمة فيها رجل محبوس داخل قفص حديدي. كان منظره يوحي بالكآبة والانقباض ونظره متجه إلى الأرض وهو يتنفس بصعوبة والحزن قد خيّم عليه.

قال الموحد: وما هذا يا سيدي؟

أجاب الشارح: إسأله وهو يخبرك بنفسه.

فقال الموحد للسجين: من أنت يا صاح؟

قال: إنني لم أعد كما كنت من قبل.

قال: وكيف كان حالك من قبل؟

أجابه: كان الناس يعتبرونني موحداً فاضلا وكنت أعتبر نفسي مؤهلا للمستويات الروحية العليا. وكنت أهنئ نفسي لأن مستقبلي الروحي مضمون.

قال: وكيف ترى حالك الآن؟

أجاب: الآن أجد نفسي بلا أمل ولا رجاء. فإنني – كما تراني – محبوس في زنزانة اليأس مثلما أنا محبوس أيضا بين قضبان هذا القفص حيث لا أمل لي في النجاة. ويا لها من حالة مزرية!

قال الموحد: وكيف صرت إلى ما أنت عليه الآن؟

أجاب: لم ألتزم بالمبادئ التي قطعتها على نفسي وتهاونت في ضبط النفس. وفي الوقت الذي كان الناس يعتبرونني طيب السيرة والسريرة كنت أجري وراء الشهوات الدنيوية بكل ما أوتيت من قوة ولا أقيم للقيم وزناً في نفسي، بل كنت أسخر من الملتزمين بالطريق الروحي وأتهمهم بضيق الأفق. وفي السر كانت تجمعني علاقة متينة مع الشيطان الذي كان يزور أحاسيسي بوتيرة متكررة فأستقبله على الرحب والسعة بدلا من طرده. أخيراً تحجر قلبي ولم أعد قادراً على التوبة وتغيير المسار. وتلك هي قصتي.

فقال الموحد للشارح: ألا يوجد أمل لهذا المسكين يا سيدي؟

أجاب الشارح: إسأله وهو أعرف الناس بنفسه.

فقال له: أليس من رجاء لك يا أخي وهل ستظل مقيداً إلى الأبد في هذا السجن؟

قال: نعم هكذا سأبقى، إذ انقطع حبل الرجاء بالنسبة لي.

قال: كيف تقول ذلك يا رجل والله سيد المراحم وينبوع الشفقة؟

قال: لقد أدرت ظهري له وكفرت بنعمه فحرمت نفسي من راحة الضمير ومن الأمجاد العتيدة.

قال: وكيف سمحت لنفسك بالإنحدار إلى هذا المستوى الأليم؟

قال: بفعل إيهام الناس بأنني من الصالحين في الوقت الذي كنت أتكالب فيه على شهوات هذا العالم وملذاته ومكاسبه المحرمة.  أما الآن فأحس بها تنهش لحمي وتلسعني كالعقارب والأفاعي.

قال: ألا يمكنك الآن أن تتوب إلى الله وتعود إليه كونه أرحم الراحمين وأكرم الكرماء؟

قال: لقد أظلم فكري ولم أعد أعرف كيف أتوجه وأشعر أنني أعيش في تعاسة لا تنتهي.

فقال الشارح للموحد: خذ العبرة يا أخي من حال هذا البائس ولتكن لك مذكراً بعمل ما ينبغي عمله الآن قبل فوات الأوان.

قال الموحد: إي والله يا سيدي فهي بالفعل حالة يائسة بائسة. فالله يقويني ويعينني على السهر والتأمل والصدق وتهذيب وضبط النفس فكراً وقولا وعملاً  علني أجتاز هذه المرحلة بسلام.

ثم سأل الموحدُ الشارحَ: يا مولاي، هل آن الأوان للمضي في حال سبيلي.

أجاب الشارح: انتظر حتى أريك شيئاً آخر بعدها يمكنك الإنصراف.

 قال صاحب الرؤية:

ثم رأيت أن الطريق الذي كان ينبغي للموحد أن يسلكه محاطاً بسور عالٍ يدعى سور النجاة. وكان حمل الموحد ما زال على ظهره. فركض وهو ينوء بحمله وواصل الركض بمشقة حتى اقترب من جبل على قمته صورة صاحب الأيادي البيضاء والهالة الذهبية وهو يمد يده مرحّباً. فواصل الجري حتى وصل إلى تلك الصورة وإذا بالحِمل قد انحلّ رباطه وسقط عن ظهره متدحرجاً إلى سفح الجبل حتى وصل إلى باب مغارة فاختفى ولم يعد يبصره.

ولا تسل عن الفرحة التي غمرت الموحد إذ كاد يطير من شده الغبطة بسقوط الحمل عن ظهره. فشكر الله العلي القدير وقال بقلب ملؤه الفرح والإبتهاج: حقاً لقد أعطاني مولاي راحة بعد التعب وطمأنينة بعد الخوف.

وصرف بعض الوقت وهو لا يكاد يصدق أنه تحرر من حمله الثقيل. وكان يحمد الله عوداً على بدء ويهنئ نفسه على ما أصابه من نعمة شعر أنه لا يستحقها. وقد غلب عليه الشوق فسالت دموعه حارة وغزيرة على خديه. وبينما هو على تلك الحال أقبل عليه ثلاثة أشخاص يشعّون ضياءً سماوياً فرحّبوا به قائلين: أهلا برجل الله ويا هلا بمقدمك السعيد!

وابتدره أحدهم بالقول:  غفر الله ذنوبك يا أخي.

أما الثاني فقد نزع عنه أسماله الرثة وألبسه رداءً رائعاً. في حين وضع الثالث علامة خير على جبينه وسلـّمه صحيفة عليها ختم وطلب منه أن يحملها إلى الباب السماوي ويسلـّمها للبواب.

فيما بعد واصل الثلاثة سيرهم. أما الموحد فقد غمرته أمواج البهجة ولم يتمالك نفسه فراح يشدو بفرح عظيم:

        قد كان حملي ثقيلاً      وكادَ يقصمُ ظهري

        وكدتُ أفقدْ رجائي      وقلتُ قـُضيَ أمـري

       حتى بلغتُ مكانـــاًً     وجدتُ فيـــه سروري

       فأ ُنزِلَ الحملُ عني      بفضل المولى القديرِ

قال صاحب الرؤيا:

ثم أبصرت في الحلم أن الموحد واصل سيره حتى بلغ وادياً فرأى عنده ثلاثة رجال يغطون في نوم عميق وهم مقيدون في أرجلهم. وكان أحدهم يدعى السذاجة والثاني الخمول والثالث الغرور.

وما أن رآهم الموحد حتى توجه نحوهم وصاح بهم: أيها الرجال! إنكم كالنائم في قارب متهالك وسط بحر هائج مائج. كيف يمكنكم النوم والخطر يحيط بكم من كل جانب؟ فالبحر عميق والمخاطر جمة. هيا استيقظوا ودعوني أساعدكم على تخليص أنفسكم من قيودكم. ألا تعلمون أنكم بحالتكم هذه تعرّضون أيضاً أنفسكم للخطر من سباع البر التي لن تتورع عن مهاجمتكم ونهش لحومكم؟!

فنظروا إليه نظرة بلهاء وقال له السذاجة: أي خطر تتحدث عنه يا رجل، ولماذا التهويل وتهبيط الحيطان بهذا الشكل؟ لست أرى ما تراه من مخاطر مزعومة.

وقال الخمول: اتركني في حالي حتى أنام وأشبع نوماً.

وقال الغرور: يجب عدم التدخل بشؤون الآخرين.

ثم عادوا للنوم ومضى الموحد في طريقه متأثراً غاية التأثر لأن هؤلاء الأشخاص واقعون تحت الخطر ومع ذلك فلم يسمحوا له بتقديم المساعدة لهم ولم يشكروه على نصيحته وعلى ما عرضه عليهم من خدمة.

وبينما هو سائر يفكـّر بهؤلاء الأشخاص إذ أبصر رجلين يحاولان التسلق على الحائط الشمالي للطريق الضيق. وكان أحدهما يدعى المشرّع  والآخر المرائي. فلما اقترب منهما سلـّم عليهما وسألهما: من أين حضرتكما وما هو مقصدكما؟

أجاباه: لقد وُلدنا في بلد المجد الزائف وإننا في سبيلنا إلى المملكة السماوية لننال الثواب الأعظم.

قال: ولماذا لم تدخلا من الباب الرئيسي الذي في أول الطريق؟ أما سمعتما أن من لا يدخل من الباب بل من الشباك فهو لص وحرامي؟

أجاباه: إن جميع أهل بلدنا يستبعدون الطريق إلى الباب ويجدون أن تسلق الحائط أسهل وأقرب.

قال: ألا تظنون أن صاحب المدينة التي نحن إليها ذاهبون لا يرضى بهذا الأسلوب المغلوط للدخول إلى مدينته؟

قالا: اطمئن ولا تشغل بالك بهذه المسألة. فهذا الأسلوب نحن متعودون عليه أباً عن جد منذ أكثر من ألف عام.

قال: هل يعني تقادم العهد بهذه العادة يجعلها مشروعة؟

قالا: بكل تأكيد! فالعادة إن مر عليها هذا الزمن الطويل تصبح مقبولة عند كل القضاة إسوة ببعض أصول الشرع. زد على ذلك أن لنا الحق في "العمشقة" على الحائط مثلما أنت لك الحق في الدخول من الباب. فلا تفخر علينا يا صاح ولا تهنئ نفسك كونك أفضل منا.

قال: أنا أمشي بحسب إرادة مولاي، أما أنتما فتسلكان بحسب أوهامكما ولذلك يعتبركما سيد البيت لصّين. وقد لا تجدان أمناً في نهاية الطريق ولا تصيبان حظاً سعيداً أو قبولاً حسناً فتخرجان مطرودين من المكان.

لكنهما لم يرغبا في مواصلة الحديث معه فقالا له: ليتدبر كل منا شأنه وليهتم كل واحد بنفسه.

قال: فمضى كل واحد في حال سبيله وتوقفوا عن الكلام، لكن الرجلين قالا للموحد:

بالنسبة للطقوس والفرائض فإننا نحفظها مثلك، والفرق الوحيد بيننا وبينك هو هذا الثوب الذي ترتديه والذي لا بد أن بعض معارفك تحسنوا به عليك لتستر عريك.

فقال: الطقوس والفرائض لن تخلصكما ما دمتما لا تدخلان من الباب. أما ردائي هذا فقد وهبه لي سيد المكان الذي أنا متجه إليه ليس لأستر به عريي كما تزعمان بل هو علامة القبول الحسن من ذلك السيد الكريم. والكلام بسركما لم أكن أملك من قبل سوى بعض ثياب رثة. علاوة على ذلك فإنني أغبط به نفسي لأنني إن بلغت باب المدينة سيستقبلني سيد المكان بالترحاب كونه أعطاني هذا الرداء هبة مجانية عندما نزع عني تلك الأسمال البالية. وإن أنتما تفرستما في جبيني لرأيتما سمة وضعها أحد الصالحين عندما سقط الحمل الثقيل عن ظهري.

كما أعطاني صحيفة مختومة أبتهج بقراءتها أثناء سفري. ومتى وصلت إلى الباب السماوي أقدمها كبطاقة تخولني القبول والدخول. وإنني متأكد من أنكما لا تملكان شيئاً من هذا لأنكما لم تدخلا من الباب.

هنا نظر الرجلان في وجهيّ بعضهما فلم يجيباه بل راحا يضحكان من كلامه ويستهزئان به.

قال: بعد ذلك رأيتهم يواصلون السير ولم يعد الموحد يخاطبهما بل راح يحدث نفسه ويقرأ في صحيفته فيجد بها تعزية وراحة.

وأثناء انطلاقه رأى رجلين يركضان أحدهما يدعى الخوف والآخر الشك. فقال لهما: لماذا أنتما على هذه الحال؟

أجاب الخوف: كنا في طريقنا إلى المدينة السماوية وعندما صعدنا ذلك المرتفع رأينا أنه كلما تقدمنا خطوة كلما ازداد الخطر أمامنا ومن حولنا فقررنا العودة إلى بلدنا.

وقال الشك: رأينا في طريقنا وحشين كاسرين يترصدان عابري السبيل ولم نكن متأكدين ما إذا كانا في غفلة عنا فننجو منهما أم منتبهين لنا فيفترساننا ويسحقا عظامنا.

أحس الموحد ببعض الخوف لدى سماع هذا الكلام لكنه استعان بالله وأسرع الخطى تاركاً الرجلين ينحدران من الجبل.

قال صاحب الرؤية:

بعد ذلك رأيت الموحِّد يصعد الجبل بخطوات وئيدة. ثم راح يزحف على يديه وركبتيه لشدة انحدار الجبل إلى أن وصل إلى شجرة مورقة كان صاحب الجبل قد غرسها وسط الطريق ليستظل بها المسافرون ويستريحون تحت أغصانها من الإعياء.

قعد الموحد تحت تلك الشجرة المباركة وأخرج صحيفته وراح يقرأ فيها بكل مسرة وينظر بفرح لثوبه الفاخر فغلب عليه النعاس وغط في سبات عميق حتى المساء وقد سقطت الصحيفة من يده. وفجأة وقف رجل بجانبه وأيقظه من نومه قائلا له: ما هذا الكسل يا رجل؟ استيقظ! لماذا لا تذهب إلى النملة فتلاحظ عملها وتتعلم الحكمة منها؟!  

وما أن سمع الموحد هذه الكلمات حتى نهض للفور وراح يسرع في مشيه إلى أن وصل الجبل وأبصر فيه قصراً منيفاً. فسار نحو القصر لعل أصحابه يقبلون به ضيفا. وبينما كان على مسافة ميل من القصر دخل في خندق وكان الظلام قد خيّم على المكان فراح يتأمل ذلك الخندق فرأى نمرين قريبين منه فارتعب وقال: يا سبحان الله! ها قد حدث لي ما حدث للخوف والشك ودفعهما إلى الرجوع. أما النمران فكانا مقيدين بسلاسل لم يرها، فطغى الخوف عليه وتأهب للرجوع لأنه لم يرَ أمامه سوى الموت.

وكان للقصر بواب يدعى اليقظ فأبصر الموحد قد انحرف عن الطريق وفي نيّته الرجوع. فصاح به قائلا: هل أنت خائر العزم إلى هذه الدرجة يا رجل؟ لا تخف من النمرين فهما مقيدان وقد وُضعا في هذا المكان لامتحان إيمان المريدين وكشف الذين لا إيمان لهم. امشِ وسط الطريق ولن يصيبك أذى؟

قال: فعاد الموحد إلى الطريق وهو يرتجف من الخوف وكان النمران يزمجران عليه لكنهما لم يتعرضا له بأذى. وما أن ابتعد عنهما حتى راح يصفق بيديه ابتهاجا وواصل السير حتى بلغ باب القصر وكان بوابه اليقظ جالساً عند الباب.

سلـّم الموحد على البواب وقال له: ما هذا القصر يا سيدي وهل يُسمح لي بقضاء ليلتي فيه.

قال: لقد ابتنى صاحب هذا الجبل قصره هذا لراحة المسافرين وأمنهم.

فدخل صاحبنا القصر وإذا بشخص إسمه الفطين قد استقبله وأكرم وفادته وراح يرحب به ويتبادل الحديث معه.

قال الفطين: هات اخبرني ما حدث لك وما اعترض سبيلك في طريقك إلينا.

قال: من جملة ما رأيت ثلاثة رجال أحدهم يدعى السذاجة والآخر الخمول أما الثالث فيدعى الغرور، نائمين على قارعة الطريق مقيدين بسلاسل من حديد. كما قابلت أيضا المشرّع  والمرائي وهما يحاولان دخول المدينة بالتسلق فوق الحائط فنبهتهما إلى غلطهما وبأنهما لن يفلحا في مسعاهما. عدا عن ذلك فقد واجهتني صعوبات جمة في صعود الجبل. وبالفعل لولا هذا البوّاب الطيب الجالس عند الباب فلربما كنت عدت من حيث أتيت. إنما أشكر الله على وصولي إلى هذا المكان بالسلامة وأشكرك أنت أيضا يا مولاي على استقبالك لي.

قال: وقد عنَّ للفطين أيضاً أمور أخرى أراد أن يسأل الموحد عنها، فقال له الموحد: سل ما شئت يا أخي.

قال: ألا تذكر أحياناً مدينتك التي تركتها وراءك؟

قال: نعم أذكرها إنما بحسرة على حال ساكنيها. وكان بودي الرجوع إليها إنما أشتاق مدينة أفضل منها هي المدينة السماوية.

قال: وهل اختلف أسلوب حياتك الآن عن أسلوب حياتك الماضي؟

قال: إنني في كفاح متواصل مع الجسد وشهواته التي كنت وأهل مدينتي نقدسها. لكن هذه الأمور أعتبرها الآن حيوانية أكثر مما هي إنسانية، بل وتبعث على الإشمئزاز والنفور. ولقد صممت على عدم التفكير بتلك الأشياء بعد الآن بالرغم من المقاومة القوية التي أجدها في اتباع الفضيلة.

قال: وما هي أفعل طريقة لقهر الوساوس الشيطانية؟

أجاب الموحد: أتصور أنني في حضرة الصالحين، أقرأ معهم فصولاً روحية وأردد إسم الله المبارك.

قال: وهل ترفعت عن هذه المسائل خوفاً من العقاب؟

قال: لا. فالله يجب أن نحبه ولا نرهبه. إنما أكرمت نفسي عن الشهوات إكراماً لله ومحبة به. فالتفكير بالله وبأوليائه الصالحين يطرد من القلب الشهوات ويملؤه بالبركات.

فقال الفطين: أحسنت أيها الموحد فإنك بالحقيقة تحمل محبة في قلبك وكرامة في نفسك.

بات الموحد تلك الليلة في القصر وفي الصباح التالي نهض باكراً ليواصل السير فطلب منه الفطين كي يؤجل السفر إلى يوم غد، وقال: إن كان الجو صافياً اليوم فسأريك الجبال الرائعة التي تمنحك تعزية وابتهاجاً. فقبل منه وبقي معه. وعند الضحى صعد به إلى سطح القصر وطلب منه أن ينظر نحو الجنوب. فنظر وإذا بمدينة في غاية الروعة مشيدة على جبل ومزدانة بالبساتين والكروم وكل أصناف الأشجار والأزهار والرياحين تجري فيها الأنهار وتتدفق منها الينابيع البديعة المنظر. فأعجبته تلك المدينة أيما إعجاب وسأل الفطين عن إسمها فقال له إن تلك المدينة تدعى المسرات المباركة وهي ترحب بكل السائحين إلى الأعتاب القدسية. وقال له: إن أنت وصلتها فباستطاعتك أن ترى منها باب المدينة السماوية.

 

الحلقة الثانية

 

قال وفي صباح اليوم التالي استكثر الموحد بخيره واستأذنه في الرحيل، فأخذه إلى بيت العتاد وقلـّده درعاً من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. ثم انطلق في حال سبيله فواكبه حتى الباب، فسأل الموحدُ البوّاب إن كان قد مرَّ عليه أحد السياح.

أجابه: نعم، مرَّ بي أحدهم.

قل: وهل عرفت إسمه؟

قال: إسمه الأمين.

قال: هذا ابن قريتي وجاري وقد أتى من مسقط رأسي. فهل تعرف أين يمكن أن يكون الآن؟

قال: أعتقد أنه بلغ سفح الجبل.

فأجابه الموحد: بارك الله بك وغمرك بنعيمه.

ثم انطلق ومعه رفيقه حتى وصلا إلى المنزلق وأراد السير في الوادي.

فقال الموحد:  يبدو لي أن هبوط الوادي عسير كصعود الجبل!

أجاب الفطين: هذا صحيح. إذ على المرء أن ينزل إلى وادي التواضع تماماً كما أنت نازل الآن دون أن تزل قدمه.  ولهذا السبب أتيت لأكون معك.

فاستعان الموحد بالعلي القدير وراح ينزل إلى الوادي بحذر بالغ.  وبالرغم من احتراسه الشديد فقد انزلق أكثر من مرة.

قال: ثم أبصرت أن ذلك الإنسان الطيب ظل مواكباً للموحد إلى أن وصل سفح الجبل. وهناك أعطاه رغيفاً وقطعتين من الجبن وبعض الزبيب وودعه داعياً له بالخير والبركة.

أما صاحبنا الموحد فسار في باطن الوادي مسافة قصيرة وفجأة ظهر له مارد لعين يقال له الباطش.  فلما أبصره الموحد ارتجف قلبه هلعاً وراح يشاور نفسه هل يعود من حيث أتى أم يتوكل على الله ويواصل سيره؟ وخاف إن هو عاد أدراجه فقد يرميه الباطش بسهام تمزق جسمه وتقضي عليه. أخيراً سمّى بالله وقرر أن يواجهه.  ثم استجمع قوته وسار حتى التقى ذلك المارد الباطش وكان منظره يثير الرعب في النفس وعليه ثوب شبيه بالحراشف الخشنة، وله جناحا تنين وأرجل دببة، ويقذف من فمه الواسع الشبيه بفم الضباع ناراً ودخاناً.

فلما اقترب الموحد منه نظر الباطش إليه نظرة استخفاف وازدراء وقال: باختصار وبدون مقدمات، من أين أتيت وإلى أين قاصد؟

أجاب الموحد: أتيت من بلدة الهلاك وأنا في طريقي إلى المدينة السماوية.

قال: معنى ذلك أنك من رعاياي لأن البلدة التي ذكرتها والمنطقة بأسرها هي لي وأنا ربها وملكها. فكيف تجرأت على الهروب من سيدك الملك؟ ولولا أملي بأنك ستقصف راجعاً وتعود كسابق عهدك إلى خدمتي لخبطتك خبطة لا يقوم لك من بعدها قائمة.

قال الموحد: صحيح أني ولدت في مملكتك تلك، لكن لما تأكد لي أن خدمتك جهد ضائع عملت بوحي العقل وهدي الضمير كما يفعل الحكماء وفارقتك غير آسف.

قال: أنت تعلم جيداً أن الملوك لا يسمحون لأحد من رعيتهم بالخروج عنهم طوعاً واختياراً. ولماذا كل هذا التذمر من خدمتي؟ عد إلى ما كنت عليه وأعطيك عهداً بأن أضاعف أرباحك وأحقق لك كل ما يشتهيه قلبك وتهفو له نفسك.

أجاب الموحد:  يشهد الله وأنبياؤه أنني قد فارقتك فراقاً أبدياً وتوجهت بكل كياني لله، والرجوع إليك بالنسبة لي هو أمرٌ مستحيل.

قال الباطش: يا حيف عليك! يبدو لي أنك استبدلت السيئ بالأسوأ. ولكن بالرغم من إصرارك هذا لا بد أن تعود إليّ من كل قلبك. اسمع ما أقوله لك وابشر بكل ما تريد.

قال الموحد: فات الأوان يا سيد الهوان. إذ عقدت مع الله وأنبيائه عهداً أبدياً وأقسمت على طاعته وخدمته ما دمت حيا، فهيهات أن أخلف وعدي أو أنكث عهدي، إن العهد كان مسؤولا.

قال الباطش: يا رجل كان بيننا عِشرة عمر ويعز عليّ أن نفترق. صحيح أنك غدرت بي وتركتني. لكني مستعد أن أصفح عنك إن طاوعتني وعدتَ معي.

أجاب الموحد:  عاهدتك وأنا حديث السن وقليل التجربة. أما الآن فقد تبدلت الأحوال وإني واثق من أن السيد الرب الذي أسير في دربه هو وحده القادر على تحريري منك ومسامحتي لوضع يدي في يدك في فترة من حياتي.  بل وأقول لك أنني أرغب في خدمته والسير في طاعته حتى ولو أعطيتني الدنيا وما عليها.  فلا تحاول استمالتي لأنك إن فعلت تكون كمّن يناطح صخرة ليوهنها.

فأجاب الباطش: هذا الذي تعتصم بحباله لم يخلـّص أحداً من قبضتي. أما أنا فكما تعلم فقد خلصت الكثير من أعواني من يده ويد مواليه حتى ولو كانوا في السجون وراء القضبان. واعلم أن الموحدين شرواك ممن يتمسكون بأهداب الفضيلة ويصْبون إلى المُثل العليا التي لا وجود لها إلا في عقولهم الواهمة الواهنة يواجهون مصيراً محتوماً ينتهون إليه ولا يحسدون عليه. أما إن كنت في ريبة من أمرك فما عليك إلا أن تضع  أمرك بين يديّ وتترك الباقي عليّ، وأقسم لك بأنني سأخلصك مما أنت فيه.

قال الموحد: الرحمن الرحيم قد يبطئ في منجاة مريديه ليتأكد من ثباتهم على عهدهم ومحبتهم له حتى النهاية.  إن عونه قريب للواثقين بعونه، أسرَع من لمح البرق وارتداد الطرف. وأتباعه لا يغالون بالملذات الدنيوية بل يطمعون برضا ربهم ويطمحون لتذوق نعيمه الأبدي. وهم يشعرون بالأمن والأمان أينما كانوا لأنهم يحسون بحضور إلهي يواكبهم وكأن عسكر الرحمن يحيط بهم من كل جانب، يجنبهم البلايا ويدفع عنهم غائلة الأذى. لقد وعد الله المؤمنين خيراً، إن وعد الله حق وعهده باق إلى أبد الآبدين.

أجاب الباطش: إن لم تكن مخلصاً في اتـّباعه فكيف ترجو مثوبته؟

قال الموحد: وما الذي تقصده؟

أجاب: في أول رحلتك عندما كدت تغرق في بالوعة القنوط راودتك الشكوك. ثم غيرت طريقك وسرت في درب أعوج لتتحرر من عبئك الثقيل وكان الأجدر بك أن تنتظر قدوم مولاك إليك ليرفعه عن كتفيك. بعد ذلك نمت تلك النومة ثم خمد حماسُك وراودتك نفسك بالرجوع عندما رأيت النمرين.  ومع كل هذا وذاك ظللت تطلب المجد الزائف إذ رحت تطبل وتزمّر وتحدث الناس عن أسفارك وما اعترض سبيلك من أهوال وما اختبرته من أحوال.

قال الموحد: هذا صحيح، وقد يكون ما ذكرته أقل من الواقع.  لكن مولاي الذي أضع ثقتي به وعليه ألقي اتكالي محب وكريم.  فهو لا يحاسبني على تقصيري لأنه يعلم تمام العلم أن ما أصابني من وهن في العزيمة حدث لي وأنا في ديارك. أما الآن فأنا إنسان جديد ومن رعايا السيد المجيد.

هنا راح الباطش يرغي ويزبد ويقول: إني عدو مولاك هذا، أبغضه وأبغض من يحبه،  وأزدري نواميسه ولا أتقيد بأحكامه. ها الساحة والميدان بيني وبينك، فابشر بما يسوؤك.

قال الموحد:  دعك من كل هذا واكفني شرك. ولا تظن أن بمقدورك – مهما حاولت – ردي أو صدي عن طريق النور والنصر الذي اخترته ولن أحيد عنه قيد أنملة.

وما أن نطق الموحد بهذه الكلمات حتى وقف الباطش أمامه وقال وقد استبد به الغضب: قسماً بمغارتي مغارة الجحيم أنني لن أسمح لك بالتقدم خطوة واحدة على هذا الدرب. وإن كنت قد الحملة امتشق سيفك ودافع عن نفسك. وكان يحمل سهماً نارياً فضرب به الموحد في صدره، لكن الموحد تلقاه وتوقاه بترس كان معه فلم ينفذ إليه، وسل سيفه وتشدد للنزال.

فهجم عليه الشيطان وراح يرميه بالنبال، فكان الموحد يتلقى بعضها ويتلافى البعض الآخر وهي تنهمر عليه كزخات المطر مما أفقده توازنه وأثخنت الجراح رأسه ويديه ورجليه وكاد عدوه يجهز عليه.

ووجد الموحد أن لا مفر من الثبات حتى الممات. فتشدد وراح يدافع عن نفسه دفاع المستميت ودام الصراع بينهما قرابة الست ساعات، فشعر الموحد بالوهن وراح تدريجياً يفقد قوته بفعل الجراح التي أصابته.  وما أن أبصر عدوه ذلك حتى انقض عليه فرماه أرضاً.  كانت سقطة الموحد رهيبة وقد أفلت السيف من يده، فراح الباطش يضربه ضرباً عنيفاً ويقول: ها قد وقعت في يدي وأراد أن يعاجله بضربة قاضية من سيفه المسلول.

هنا نظر المولى جل ذكره إلى الموحد فتحنن عليه وقوّى عزيمته حتى تمكن من الإمساك بسيفه، فقال لعدوه: لا تبتهج ولا تهنئ نفسك لأنني سقطت،  فأنا قادر على النهوض ومواصلة القتال بعون الباري تعالى وأنبيائه الأبرار وبركات أهل الخير. ثم انتخى قائلا: استعنت عليك بالواحد القهار وعاجله بضربة قاضية فأصابه بجرح بالغ ارتد على إثره إلى الخلف وقد اختل توازنه. فارتفعت معنويات الموحد واقترب منه وهو يهز سيف النصر في وجهه ويهزج:

        هيهاتَ أن تغلبني    هيهاتَ أن تقهرني

        فإننــــي من جندهِ   وعونـُــــه يعضدني

وهوى عليه بضربة محكمة جعلت باطش يترنح ويبتعد عنه متهالكاً. ولم يرَ الموحد وجهه بعد ذلك أبداً.

قال صاحب الرؤيا: لا يمكن لأحد أن يتصور تلك المعركة الرهيبة وذلك الصخب الذي كان يحدثه ذلك اللعين. أما الموحد فلم يهدأ له بال في تلك المنازلة حتى رأى غريمه مجروحاً فتبسم ونظر إلى السماء شاكراً الله على ذلك الفوز العظيم.

تلك المعركة كانت مروعة لم أر نظيراً لها من قبل.  وما أن انتهت حتى راح الموحد يحمد الله الذي أنقذه من مخالب ذلك الوحش الكاسر وأيده بقوة منه على منازلة ذلك الشيطان الزنيم.

وما أن التقط الموحد أنفاسه وانشرح صدره حتى راح يترنم قائلا:

كلَّ شكري لإلهي كلَّ شكري

فهو مني قريبٌ وهو سيدُ أمري

مدّني بالعون ِ وقتَ الضيق ِ

حتى نلتُ نصري

فامتناني لهُ فيضٌ

زاخرٌ في دمي يجري

صحيح أن الموحد انتصر لكنه أصيب بجروح بالغة فظهر له أحد رجال الله الصالحين وناوله بعض أوراق من شجرة الحياة فوضعها على جروحه الأليمة فالتأمت في التو واللحظة. ثم أكل بعض الطعام الذي زوده به الفطين، ولما انتهى من طعامه شرب بعض الماء ثم نهض وواصل مسيرته حاملاً السيف بيده تحسباً لأية مفاجأة أخرى.

اجتاز الوادي ولم يرَ أحداً هناك. وكان ما وراء هذا الوادي واد ثان ٍ يدعى وادي ظلال الموت وهو مكان موحش يبعث الرهبة في النفس ويمر عبره الطريق الموصل إلى المدينة السماوية، تماماً كما وصفه أحد أنبياء الله عندما قال:

"هذا الطريق يمر عبر برية موحشة غير مأهولة في أرض مقفرة وسط ظلال الموت، لم يجتزها إنسان ولم يقطن بها كائن."

هبط الموحد الوادي وراح يسير فيه فلاقى من الأهوال أكثر مما لاقاه في معركته مع الباطش كما سيأتي تفصيله.

قال صاحب الرؤيا: لما اجتاز الموحد وادي التواضع ووصل إلى تخوم وادي ظلال الموت قابل رجلين من نسل الذين تكلموا بالسوء عن الأرض الطيبة، وهما عائدان على جناح السرعة.

سلـّم عليهما الموحد وسألهما: ما هو مقصدكما؟

أجاباه: إننا عائدان أدراجنا. وإن كنت ترغب بالسلامة والحياة فعد معنا.

قال: أوضحا ما تقولانه.

قالا: كنا سائرين على نفس الدرب الذي تسلكه وقطعنا مسافة لا بأس بها بحسب ما سمحت به جرأتنا حتى أصبحت العودة مستحيلة بالنسبة لنا.  ولو أننا تقدمنا أكثر من ذلك لما تمكنا من العودة ولما عرفت ما ينتظرك.

قال: وما الذي رأيتماه؟

قالا: عندما اقتربنا من وادي ظلال الموت وكنا على وشك التوغل فيه أبصرنا أمامنا الخطر المحدق.

قال: وأي خطر رأيتماه؟

قالا: وجدنا ذلك الوادي رهيباً يكتنفه الظلام ويعج بالجان والمردة ووحوش الأعماق. وسمعنا عويلا لا ينقطع تتقطع له القلوب، كما لو كان صادراً عن قوم يعانون سكرات الموت وغصّات العذاب. وقد غطت الوادي غيوم ربداء واكتنفته أعاصير هوجاء ونشر الموت جناحيه الرهيبين فوقه. وخلاصة القول فإنه وادي الشقاء والعتمة وظلال الموت وليس فيه سوى خوف قاتل ورعب متواصل.

قال: لا أرى أياً مما وصفتماه فلماذا كل هذا التهويل؟ وعلى أية حال فهذا هو الطريق الوحيد إلى بر الأمان.

قالا: الله يبارك لك بهذا الدرب. امش به إن شئت أما نحن فسنبحث عن درب آخر.  ثم تركاه وواصلا سيرهما.  واصل الموحد كذلك السير والسيف المسلول ما زال في يده خوفاً من أن يباغته شيطان آخر.

قال: ثم رأيت على الجانب الأيمن لذلك الوادي حفرة عميقة تمتد من أوله حتى نهايته. وهي نفس الحفرة التي وقع فيها العميان عندما قاد أحدهما الآخر فحاق بهم الهلاك.

ورأيت على الجانب الأيسر مغاصة رهيبة إن وقع فيها أحدهم فترحموا عليه وقولوا البقاء لله!

أما الدرب الواصل بين الحفرة والمغاصة فكان ضيقاً للغاية. وقد أظلمت الدنيا فتسلل الخوف إلى قلب الموحد لأنه إن تلافى الحفرة من جهة كاد يسقط في المغاصة في الجهة الثانية.  وإذا تفادى المغاصة كاد يقع في الحفرة.  فراح يسير ببطء وحذر شديدين كما لو كان يسير على حبل مشدود.

وكانت العتمة قد اكتنفت ذلك الدرب فكان يرفع قدمه ولا يدري أين يضعها.

قال ثم أبصرت فوهة الجحيم في منتصف ذلك الوادي ينطلق منها اللهب والشرار والدخان القاتم مع أصوات منكرة.  ولما أدرك أن السيف الذي في يده لن يجديه نفعاً إزاء كل هذه المخاطر الكثيرة، وضعه في غمده واستعان بدلا منه بسلاح آخر إسمه الدعاء المستدام.

ثم صرخ صرخة خوف ورجاء قائلا: عليك توكلت يا رب الأمجاد وباسمك استعنت. احمني من الشرير ولا تدعني أفقد إيماني حتى ولو فقدت حياتي.

سار طويلاً على هذا المنوال واللهب الحارق يقترب منه وتتناهى إلى مسامعه حشرجات حزينة وزلزلات فظيعة حتى تصور أن عفاريت الجن ستنقض عليه وتمزقه إرباً ثم تدوسه كوحل الطرقات.

بقيتْ هذه الهواجس تؤرقه حتى بلغ مكاناً موحشاً وخيّل له أنه يسمع صوت عصابة من الأرواح الشريرة قادمة نحوه. فتوقف وراح يقلب الرأي ويشاور نفسه. وقد فكر أحياناً بالرجوع وأحيانا يقول لنفسه أنه قطع نصف الوادي فلا يريد أن تذهب جهوده أدراج الرياح.  ثم فكر في نفسه أنه رأى الكثير من المخاطر وقد نجاه الله منها كلها، ولعله إن هو عاد لن تكتب له السلامة. أخيراً صمم على التقدم وسار متكلا على الله. أما جلبة وضوضاء الجن فكانت ترتفع أكثر فأكثر وتدنو منه حتى اقترب منهم فزعق بهم صوتاً دوى صداه في الوادي، وقال:

"إنني أسير في نور الله وروحه الأمين يعضدني ويرد عني الأذى"

فكفت عصابة الجن أذاها عنه وتركته وشأنه.

قال صاحب الرؤيا:  ثم رأيت الموحد مرتبكاً لأنه لدى اقترابه من حافة الهاوية المشتعلة بزغ شريرُ وراح يسير بخفة خلفه بحيث لم يشعر به الموحد، وراح يهمس بكلام فيه كفر ونكران لوجود الله.  فظن الموحد أنه هو نفسه الذي كان يتلفظ بتلك الكلمات بصورة لا شعورية. فشعر بالندامة ولام نفسه أشد اللوم على تلك الأفكار التي راودت عقله وتحرك بها لسانه.

ولشدة دهشته لم يسد أذنيه ليعرف مصدر الصوت، سواء كان منه أم من شخص آخر. فسارع الخطى حتى قطع شوطاً لا بأس به وهو في وضع نفساني لا يحسد عليه.

وإذ هو على تلك الحال أبصر رجلا يمشي أمامه ويتحدث إلى الباري قائلا:

"لا أرهب الردى ولا أخشى شيء حتى ولو سرت في قلب وادي ظلال الموت لأنك معي تعضدني وتساندني، تدفع عني الشر وترد عني الأذى."

فانشرح صدر الموحد وقويت عزيمته فغمره سرور فائق لأنه أدرك أن بعض رجال الله الصالحين يسيرون مثله في نفس الوادي.

بل وشعر أن المولى جل وعلا يسير مع أولئك الموحدين فتمنى على الله أن يجمعه بهم حتى يفرح بصحبتهم ويطمئن قلبه برفقتهم المباركة. وراح يناجي الله قائلا:

"يا إلهي الحبيب قربني من إخواني الموحدين وانعم علي برفقتهم المقدسة."

بعد قليل بزغ الفجر فقال الموحد:  يا سبحان الله! ها قد حوّل الرب القادر على كل شيء ظلالَ الموت إلى صباح مشرق منير. ثم نظر إلى الوراء ليعاين الأهوال التي اجتازها ليلا فأبصر الحفرة على جانبي الطريق وكذلك الدرب الضيق. كما شاهد أيضاً جماعات الجن والمردة والعفاريت والوحوش إنما عن مسافة لأن تلك الكائنات الجهنمية لم تتمكن من الاقتراب منه بعد طلوع الشمس، بحسب ما جاء في الكتب السماوية: ( ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير) "يظهر الأمور الخفية من قلب الظلمة ويُطلع الضياء من ظلال الموت." وكان الجزء المتبقي من الطريق أشد خطراً من المراحل السابقة كونه كان يعج بالمصائد والشباك والفخاخ والأشراك من أحد جانبيه وبالحفر والخنادق والكمائن من الجانب الآخر.  ولو كان هذا الجانب الأخير مظلماً كالجانب الآخر لما تجرأ على اجتيازه حتى ولو كان أجرأ الناس. لكن إشراقة ضوء النهار بددت الظلمة فتوكل على القدير وواصل السير قائلا: (الله نور السموات والأرض) "ضياؤه أمامي وفوقي وفي نوره أمشي وسط الظلام."

قال: ثم رأيت الموحِّد يسير في ذلك النور حتى منتهى الوادي. لكن مفاجأة غير سارة كانت في انتظاره. إذ أبصر دماء وعظام مكسّرة وشلايا متناثرة في جانب الوادي بما يوحي أنها من بقايا الموحّدين الذين مروا على هذا الدرب من قبل.

فذهل الموحد واستولت عليه الحيرة بفعل ذلك المشهد المريع. ثم أبصر قرب المكان كهفاً يقطن فيه من أمد بعيد ماردان يدعى أحدهما الدجال والثاني الملحد. وهما ليس غيرهما من قتل هؤلاء الناس ظلماً وتعسفاً.

سار الموحّد في ذلك المكان الموحش ولم يصبه أذى، ولم أكن أصدق أنه نجا من الخطر المحدق والمحقق. فيما بعد علمت أن الملحد قد قضى وأن الدجال بلغ أرذل العمر فصار "هِرشاً" متهالكاً من كثرة ما مر عليه من معارك. ولحسن الحظ لم يعد قادراً على التعرض لأحد بأذى. لكنه مع ذلك كان يجلس عند باب الكهف فإن رأى أحد السائرين على الدرب بَحْلق به عينيه وحرّق أسنانه عليه وراح يتحسّر لعدم قدرته على الوثوب والقتال.

قال: ثم أبصرت الموحّد وقد واصل السير حتى مرّ بالقرب من عجوز النحس ذلك. فرمقه العجوز بنظرة حادة يتطاير منها الشرر وقال بما معناه:

"ألا ليتّ الشباب يعودُ يوماً        لأسحقَ عظمَكَ سحقاً رهيباً

وأمتصُ دماءكَ.. كلَّ قطــرة         فتصبح للورى خبراً عجيبا"

فأجابه الموحّد: راحت عليك.. وطويلة على رقبتك. ولم يعر كلامه انتباهاً بعد ذلك بل واصل سيره دون مبالاة ولم يصبه أذى. فابتهج قلبه وراح يصدح بالحمد والثناء مرنماً:

نجانيَّ الربُّ القديرْ

وحماني من أمر خطيرْ

فتباركَ سبحانهُ

مولايَّ كليّ الحضورْ

فلقد نجوتُ من إبليسَ

ذي الشر الكبيرْ

وقلبيَّ مبتهجٌ

وأكادُ من فرحي أطيرْ

ثم راح يسرع في سيره إلى أن بلغ مرتفعاً يطل منه المسافرون على الطرق المجاورة، فسار حتى بلغ أعلاه ونظر فأبصر ذلك الرجل الذي كان قد سمع صوته وكان يدعى الأمين. فناداه بصوت عالٍ "يا رجل الله. بالله انتظرني حتى أصل إليك." التفتَ الرجل إلى خلفه فكرر الموحد طلبه منه كي يتوقف فقال الأمين: لن أفعل ذلك لأني طالب خلاص ومن خلفي مصاص الدماء. فهرول الموحّد حتى وصله بل واجتازه فصار هو في المقدمة والأمين من خلفه.  عندئذ راوده بعض الغرور لهذا السبْق وكان الأجدر به أن يكون أكثر تحفظاً وتواضعاً. فزلت قدمه وسقط على الأرض في التو واللحظة ولم يقدر على النهوض إلى أن أدركه الأمين فأمسك بيده وأنهضه، فسارا معاً.

توطدت المحبة بينهما وراح كل منهما يقصّ على رفيقه ما حدث له في مشواره.

قال الموحّد: يا صاحبي الكريم، لقد سعدت برفقتك الطيبة وحمدت الباري عز وجل الذي أتى بنا إلى هذا الطريق المبارك.

فقال الأمين: منذ البداية شعرت برغبة قوية في مصاحبتك لكنك انطلقت قبلي فاضطررت لقطع الطريق بمفردي.

قال: وكم بقيت في تلك البلدة بعد مغادرتي لها؟

قال: بقيت حتى لم يعد بقائي ممكنا. فالناس بعد رحيلك راحوا يتكهنون بأن بلدتنا ستتعرض لكوارث رهيبة ومفاجآت لا يعرف مداها إلا الله.

قال: أأنت الوحيد الذي خرجت منها؟

أجاب: نعم. هم كانوا يتحدثون عن هذه الأمور مع أنهم لم يجزموا بحدوثها. بل سمعت بعضهم يسخرون من خروجك ويعتبرونه تصرفاً عبثياً مجانباً للصواب. أما أنا فقد شعرت أن شيئاً ما سيحدث ولذلك طلبت النجاة.

قال: وما هي أخبار جارنا المطاوع؟

أجاب: سمعت أنه رافقك حتى بلغتما بالوعة القنوط فوقع فيها بحسب ما قال بعضهم، غير أنه كتم الأمر عن الناس ولم يخبرهم به.  لكني أعرف قصته لأنني رأيت ثيابه الملطخة بالوحل.

قال: وماذا قال جيرانه عنه؟

أجاب: بعد عودته أصبح مضغة في أفواههم ومهزلة يتندرون بقصته ويستهزئون به. بل اعتبروه ضعيف العقل لا يصلح حتى للقيام بأمور عادية. وبالفعل فهو الآن أسوأ حالاً مما كان عليه قبل مغادرته القرية.

قال: إن كان هجر الطريق الذي لا يرغبون به فلماذا يستهزئون به؟

أجاب: إنهم ينظرون إليه بعين الإحتقار لأنه لا يثبت على رأي ولا يقر على قرار. وكأن الله أوحى لأعدائه فراحوا يتهكمون عليه وجعلوه أمثولة في المجتمع لأنه لم يثبت على الطريق.

قال: وهل تحدثت إليه قبل السفر؟

أجاب: التقيت به ذات مرة في السوق فأشاح ببصره عني وغيّر دربه ربما خجلاً فلم أكلمه بشيء.

قال الموحد:  في الحقيقة يعز عليّ أن يترك أي شخص درب الخير ويتحول عنه إلى سواه. وراح يبكي تعاطفاً مع ذلك المسكين قائلا: هداه الله ولامس قلبه من جديد لعله يعود إلى طريق الحياة والنور والله سبحانه يغفر الذنوب ويعفو عن الزلات ما دامت النوايا صافية والمحبة تسكن القلب والعزيمة قوية والحماس مشتعلا لبلوغ الغاية المباركة والظفر بأكاليل المجد الذي في الإنتظار.

ثم أردف قائلا: أود سماع ما حدث لك في الطريق أثناء قدومك، وأنني متأكد يا أخي أن جعبتك فيها من الأخبار الكثير.

قال: لقد نجاني الله من البالوعة التي وقعت أنت أيضاً فيها.  لكني قابلت امرأة تدعى الإغراء فحاولت أن  توقعني بشباكها لكن الله نجاني من المحظور.

قال: ونعمى بالله. فإنه خلصك من شراكها كما نجا منها يوسف الصديق في سالف الأزمان.

قال: وعدتني بلذات كثيرة لكنني رفضت رفضاً قاطعا متذكراً القول المأثور "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" فعاهدت نفسي أن يكون حب الله ورضاه الإعتبار الأول في كياني.

قال: وهل رأيت أو لقيت غير ذلك؟

قال: عندما بلغت الجانب الآخر من الجبل الذي يدعى الصعوبة رأيت شيخاً طاعناً في السن، فسألني: "من أنت وما هو مقصدك؟" قلت: "سائح على باب الله قاصد المدينة السماوية". قال: "يبدو من مظهرك أنك رجل طيب فهل تقبل دعوتي للإقامة عندي، وأنا أتعهد بأن أدفع لك أجرتك؟"

قلت: "ومن حضرة الشيخ، وأين تقيم؟"

قال: يقال لي (المحنـّك) ومقيم في مدينة الخداع.

سألته: وما هو العمل الذي لديك يا عم، وأية أجرة تدفع؟

قال:  العمل يا طويل العمر هو ما لذ وطاب من الشهوات. أما الأجرة فهي الإرث الذي سأتركه لك من بعدي.

قلت: وأين بيتك ومن هم معاونوك في عملك؟

قال: بيتي هو ميدان الملذات والمشتهيات الدنيوية على اختلافها. أما من يساعدني في عملي فالمحروسات بناتي.

سألت: وكم عندك من البنات؟

قال: عندي ثلاث بنات هن: شهوة الجسد وشهوة البصر والكبرياء. وإن أردت الزواج فعلى الرحب والسعة.

قلت: وإلى متى تريدني أن أمكث معك.

قال: ما دمتُ على قيد الحياة.

فسأل الموحدُ الأمينَ: وماذا حدث بينكما يا صاح؟

قال: مبدئياً شعرت بالرغبة في مرافقته إذ وجدته طيب المعشر، حلو اللسان وعليه مسحة من وقار. ولكن يا أخي ما أن نظرت في عينيه وتفرست في وجهه حتى شعرت بالنفور منه لا سيما وقد قرأت على جبينه ما يوحي بـ: "احذروا المكر والمكارين والدجل والدجالين."  فقلت بيني وبين نفسي. مهما بالغ هذا الرجل في إكرامي فإنه سيستعبدني إن أنا وافقته وسكنت عنده، ولذلك طلبت منه أن لا يسترسل في هذا الحديث. وما أن شعر بنفوري نحوه حتى اكفهر وجهه وقال " ابتعد عني يا وجه النحس وسأتكفل بإرسال من يتعقبك ويضع العراقيل في دربك."

تركته على الفور وضاعفت سرعتي، لكنه أدركني وأمسك بي محاولاً أن يطرحني أرضاً فتماسكت وزعقتُ في أذنه زعقة مدوية جعلته يتركني وهو يسب ويولول قائلا: "قبحك الله لقد أفقدتني صوابي." ولم أرَ خلقته من بعدها أبداً.

ثم صعدت الجبل إلى أن بلغت منتصفه وإذ بشخص يعدو خلفي بسرعة الريح، وبقي على ذلك حتى لحق بي عند الشجرة.

فتنهد الموحد قائلا: إي والله أذكر تلك الشجرة إذ جلست تحتها لأستريح قليلاً من عناء السفر فأثقل النوم جفوني وفقدت هذه الوثيقة.

قال الأمين: مهلا يا صديقي حتى تسمع بقية القصة.

قال: وهل مررت بالقصر المشيَّد على قمة الجبل؟

قال: نعم ورأيت أيضا النمرين وأعتقد أنهما كانا نائمين كونهما لم يعترضا سبيلي. حدث ذلك عند منتصف النهار فسرت لا ألتفت يمنة أو يسرة حتى بلغت أسفل الجبل.

قال: لقد أخبرني بواب القصر عن مرورك وكم تمنيت لو أنك دخلت القصر وشاهدت ما يحويه من مشاهد رائعة لا ينساها من يراها مرة واحدة بل تنطبع على غلاف قلبه إلى الأبد.

وإلى اللقاء – عندما يحين الوقت - في حلقة أخرى إن شاء الله

والسلام عليكم أيها الأصدقاء ورحمة الله وبركاته

  محمود