العقل المتحرر

إن كل عناصر الحكمة و التعاليم الداعية إلى مبادئ الدين و مكارم الأخلاق يمكن اختزالها بعبارة واحدة هي "سعة الأفق". فالفكر يثمر العمل، والعمل يؤكد الفكر، وكلاهما يؤلفان الحياة.

إن رغبتَ في أن تكون الحياة حلوة فما عليك إلا اختزان العسل في خلايا الفكر.

المنطق والسحر لا يلتقيان في عقل واحد في نفس الوقت. فالذي يُدعي سحراً بالنسبة للمتفرج هو منطق للساحر. وما يبدو تغيّراً سحريا في الحياة بالنسبة للآخرين هو تطبيق للعقل السليم بالنسبة للشخص الذي يعيش حياة منطقية و سليمة.

الفكر المتحرر هو فكر مبني على أسس العقل. وبما أن مجال الفكر لا حد ولا حصر له، هكذا لا حد ولا حصر لأفق العقل واستخداماته.

فمن يتقبل الإنطباعات دون أن يسمح لها بأن تطغى عليه وتقتل فيه روح الأصالة..

ومن يمتلك عمقاً في ذاته دون أن يستثني الآخرين من دائرة حياته..

ومن يقدّر الإستحقاقات دون أن يغفل تقييمها أو يتغاضى عن قيمتها الفعلية..

ومن يحترم وجهة نظر الآخر وفي نفس الوقت يؤمن بوجهة نظره ويتمسك بها..

ومن يتقبل آراء الغير لكن ليس دون غربلة وتمحيص..

هو بحق صاحب عقل منفتح و فكر متحرر، و باختصار هو واسع الأفق.

الأفق الواسع راسخٌ لكن ليس وحيد الجانب.

متدرّجٌ في مراحله لكن ليس مملاً في نوعيته و تنوعه.

مثيرٌ في تأثيره لكنه ليس ضعيفاً في ردود أفعاله.

هدفه الخافي والبادي، وكوكبه المتألق الهادي هو الخير الأعظم لأكبر عدد ممكن من الناس.

ومقبض دفة سفينته هو الثقة بالنفس والإتزان.

وطريقه هو الأقلُ عناداً و مشاكسة.

وشرعته و شراعه هو الإنفتاح على حقائق الحياة.

والريح التي تدفعه هي الإرادة الصلبة و الطيبة.

والأنشودة التي تتردد في أرجائه هي أنشودة مشاركة الآخرين مشاعرهم والتعاطف معهم.

والتعبيرات البادية على محياه هي نظرات الإلفة والمودة نحو الجميع.

سعة الأفق هي سمة الشخص الذي يكره الحواجز التي تفصله عن الآخرين.

الذي يعارك و يصارع وفي نفس الوقت يأبى التزمت أو التخندق في جحور العادات والتقاليد البالية.

الذي يطلق التحدّي ويقابل خصمه في الميدان وجهاً لوجه مثلما يفعل النبلاء.

ويشرع في البلاء الحسن لتبرير ما يؤمن به ويعتبره الصواب.

إن تغـّلب على خصمه، يبتسم الخصم لأن المعركة كانت مع إنسان شريف ولا يعتبر نفسه مهزوماً، في حين من يخسر المعركة مع شخص ضيق الأفق يشعر بمرارة الهزيمة لأن الصراع لم يكن مع إنسان كبير بل مع شخص صغير.

هناك أناس يبنون حولهم جدرانا و يقيمون حواجز، وهناك من يهدمون تلك الحواجز والجدران.

البعض يحوّل الأرض إلى مرافق مجزّأة في حين يحوّل البعض الآخر نفس الأرض إلى منتزهات خضراء باسمة.

هناك من يعيش في الهواء الطلق و لا يرى أبعد من أقدامه. و هناك من يعيش داخل بيته ومع ذلك يبصر أطراف الأرض وأقاصي المعمورة.

إنهما نوعان من الناس، لكل منهما تفكيره و نظراته الخاصة و نشاطاته التي تختلف تماماً عن نشاطات و نظرات و تفكير الآخر.

أحدهما يؤمن بالتقيّد والتضييق والآخر بالتمدد والإنطلاق.

كلاهما على حق من وجهة نظره الشخصية، إنما قد لا يكونان على صواب إذا بقيا مفصولين انفصالا عن بعضهما البعض.

الحاجة تمس لكليهما في العالم.

كلاهما دعم للآخر. فالمدينة لا يمكن أن تتألف من الأبنية و حسب، ولا يمكن أن تكون شوارع ليس أكثر، أو فضاءات لا غير.

فالمباني ضرورية لتكوين المدينة، تماماً كالمساحات الحرة والشوارع والمنتزهات.

بناء الجدران و هدمهما كلاهما ضروري لتطوير المدينة وتحسينها. وتلك هي الحال مع ذوي الآفاق الواسعة والضيقة.

الآفـاق الواسعة وذوو الآفاق الضيقة موجودون في هذا العالم وربما ذوو سيتواجدون فيه حتى نهاية الزمن، و للغرابة الحاجة تمس للفئتين معا!

فلولا ضيق الأفق لما عرفنا سعة الأفق، لأن الضد بضده يظهر.

كل شيء نسبي في هذا العالم. وعندما يُمحى ضيق الأفق مرة وإلى الأبد من هذا الكون سيتلاشى الكون كما نعرفه من سفر الوجود، و يتحول إلى كون آخر لا قدرة لنا على شرحه.

الكون حزمة من الأضداد.. أب و إبن، زوج وزوجة، رب عمل وعامل، حكومة وشعب، بُعد وقرب، ضوء وظلام، خير وشر، طول وقصر، صعود وهبوط.

إن فكرة ً واحدة دون الأخرى لا معنى لها. فإن أقصيتَ إحداهما تقصي الأخرى معها أيضاً. هناك روعة مدهشة في وجود الضدين الأبديين: الخير والشر. فمن يقوى على كل الشر أو كل الخير سيتمكن من القضاء على كليهما معاً. وفي كلتا الحالتين ستبزغ حقيقة جديدة هي المطلق اللانهائي الذي يفوق ما تعوّدنا على إدراكه بعقلنا المحدود على أنه خير وشر. فالقضاء على النسبي هو بلوغ المطلق. هذا لا يعني مَحْق الكون أو الإنسان الذي يعيش فيه، بل يعني القضاء على النظرة النسبية المحدودة للحياة.

لا يمكننا فهم أو استيعاب الحالة المطلقة أو التعبير عنها بكلام القاموس البشري المحدود.

الخطان المتوازيان يلتقيان في اللانهاية، و هكذا تصوراتنا و أفكارنا عن الخير والشر.

والسلام عليكم.

Eastern Thoughts

ترجمة: محمود عباس مسعود