جلسة في حلقة الذِكر

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.. مع الصوفية في حلقاتهم


الذكر في اصطلاح الصوفية هو تردد إسم المذكور على القلب واللسان، وقيل امتلاء القلب من المذكور، وقيل طمأنينة بمعاينة الله، وقيل طلوع الأنوار برؤية القهار وبلوغ الأماني بسرّ وجداني.

والذِكر هو الأساس في هذه الطريقة، فلا يصل أحد إلى الله إلا بدوام ذكره وهو مأمور به لما ورد من قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا ً كثيرا ً

وفي الحديث النبوي الشريف: "قال الله تعالى يا ابن آدم إذا ذكرتني شكرتني وإذا نسيتني كفرتني."

وقيل الذكر أفضل من الفكر لأن الله يوصف به ولا يوصف بالفكر. ومن خصائص الذكر أن الله جعل في مقابلة ذِكر العبد ذكرهُ للعبد (فاذكروني أذكركم.)

وهو غير مقترن بوقت محدد لأن المؤمن مأمور به في كل وقت باللسان أو بالقلب ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.)

وأفضل الذكر لا إله إلا الله لحديث بذلك، والخفي منه أفضل من غير الخفي كما نص عليه العلماء (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة.)

هناك ثلاثة أنواع من الذكر هي: ذكر لساني مع غفلة القلب، وذكر مع حضور القلب، وذكر بجميع الجوارح.

وقيل الذاكرون أربع: المريد والعارف والموحّد والمحب.

فذكر المريد (لا إله إلا الله) متردد بين النفي والإثبات، ومقتضاه نفي ما سوى الله.

وذكر العارف (الله) ومقتضاه استيلاء أحكام الصفات الإلهية على العوالم الملكوتية.

وذكر الموحّد (هو) ومقتضاه اضمحلال العين بنور العيان.

وذكر المحب (الإستهلاك) ومقتضاه ذهابه عن الإسم والرسم والصفة. والعاشق لا ذكر له لذهابه بهِ عنهُ.

وقالوا الذاكر بالإخلاص والصدق جليس لمَلك بالحق لما ورد في الحديث القدسي (أنا جليس من ذكرني). وأصل الذكر الصفاء وفرعه الوفاء وشرطه الحضور وبساطهُ العمل الصالح، وخاصيته فتح من الله بحسب الإسم المذكور بهِ.

ولا بد أن يكون الذكر بقوة شديدة بحيث يدخل أثر الذكر في باطن الذاكر فيسري في العروق والشرايين ويحرق ظلمة الوجود وكثافته بنار الذكر. ولذلك نرى من يقومون بحلقة الذكر يهتفون هتافاً شديداً متواصلاً متوافقاً بذكر الله مدة طويلة زمن الحلقة.

وفي الحديث الشريف (لكل شيء مقال ومقال القلوب ذكر الله).

وللذكر شروط وآداب إن فعلها الذاكر حاز مناهُ ولهُ نار تحرق كثافة الوجود ونور تطمئن به القلوب.

ثم إن مداومة الذكر تؤدي إلى المكاشفة بتجلي الأنوار إلى أن يدرك النور الحقيقي. وقال ابن العربي إن من تحصل له المشاهدة لا ينبغي له الذكر كما أن من حضر لدى ملك لا يليق به تكرار إسمه بل ربما يُعد ذلك جنوناً. فالذكر إذ ذاك ذنب عظيم وإثم كبير وعلى هذا حمّل قوله:

بذكر الله تزداد الذنوبُ

وتنطمسُ البصائرُ والقلوبُ

وترك الذكرِ أفضلُ كل شيءٍ

فشمسُ الذاتِ ليس لها غروبُ

وقيل الذكر قسمان: ذكر بالتقليد وهو ما يدخل في مسامع المستمعين من طريق أفواه العامة، مثل ترديد الوالدين وغيرهم من المعلمين، وهو نافع في دفع الأعداء وليس له قوة الحماية للذاكر وتبليغه إلى مقام الولاية والقرب من الله تعالى.

وذكر بالتلقين وهو ما يأخذه المريد بالتعليم من شيخ عارف صاحب تصرّف، أخذه من آخر مسلسلاً إلى الرسول الأعظم. وهذا هو الذكر الذي يتصرف في باطن المريد المستعد إذا غُرس في قلبه بالتلقين ورُبيّ بالأعمال الصالحة وسُقي بماء الإرادة والصدق والإخلاص.

ويشترط في التلقين أن يصوم المريد ثلاثة أيام بإذن الشيخ ويكون فيها دائم الوضوء والذكر، قليل الطعام والمنام ومخالطة الناس، ثم يغتسل بإذن الشيخ وينوي نية غسل الخروج من الغفلة إلى الحضور في المراقبة مع الله تعالى، ويقول في غسلهِ: "اللهم إني طهّرت البدن الذي تصل إليه يدي بتوفيقك فطهّر أنتَ قلبي الذي حكمهُ بيد قدرتك وأنت مقلـّبه بماء معرفتك."

فإذا فرغ من الغسل جاء إلى الشيخ وجلس بين يديه فيوصيه الشيخ بما يقتضي حاله، ويجثو على ركبتيه ويسكت ويحضر قلبه مع قلب الشيخ ويراقب سّره حتى يقول الشيخ مرة لا إله إلا الله، ماداً صوته وهو يأخذ بقلبه متفهماً معانيها بحيث ينفي بقوله (لا) ويثبت بقوله (إلا الله) الحضرة الإلهية، أي لا مطلوب ولا مقصود ولا محبوب ولا معبود إلا الله تعالى.

ثم يقول المريد رافعاً صوته، ماداً نفـَسَهُ، مُحضراً قلبه عند النفي والإثبات. ثم يقول الشيخ مرة ثانية، ثم يقول المريد كذلك، ثم يقول الشيخ ثالثة والمريد كذلك. ثم يرفع الشيخ يديه ويدعو له فيقول "اللهم خذ منهُ وتقبّل منهُ وافتح عليه باب كل خير فتحته على أنبيائك وأوليائك."

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


المصدر: دائرة معارف البستاني 1884

إعداد وتعليق: محمود عباس مسعود