مقابلة مع سلطان باشا الأطرش

بقلم: W.B. Seabrook

ترجمها عن الأصل الإنكليزي: محمود عباس مسعود




كنت قد حصلتُ على نسخة قديمة من كتاب بعنوان Adventures in Arabia للعالم الرحالة W.B. Seabrook مطبوع في العشرينيات من القرن الماضي.

المؤلف الذي أجرى المقابلة مع الزعيم سلطان باشا الأطرش لم يكن صحفياً عادياً بل كان رحالة من الطراز الأول ومعروفاً على مستوى عالمي. وكان مراسلاً لصحيفة من أشهر الصحف في العالم وألف مجموعة من الكتب لاقت رواجاً كبيراً في أمريكا وأوروبا.

كما كانت له أيضاً اهتمامات روحية ويقال بأنه كان باطنياً ولذلك ذهب إلى جبل العرب ليستقصي روحانيته ويدرس طباع أهله. المعلومات التي كان ينشرها كانت في منتهى التشويق، بل وكان لها مفعول السحر في نفوس القراء، ربما لسر في شخصيته وطريقته البارعة في سرد الأحداث.

كان قد درس الفلسفة والماورائيات في إحدى جامعات سويسرا واعتبره البعض من عباقرة العصر في حين أطلق عليه بعضهم ماركو بولو زمانه.

ترك عدة مؤلفات ما زالت دور النشر تطبعها وتعيد طبعها لكثرة الإقبال عليها.

"... عندئذٍ انتخى سلطان باشا وراح يزأر:

We are the Children of Maruf!

Among our rocks is sanctuary.

When our spears grow rusty,

We make them bright

With the blood of our enemies.

بما معناه:

حِنا بني معروف

صخورنا منلتجي ليها

ولما بتصدا رماحنا

بدم العِدى منجليها."

يبدأ الرحالة العلامة سيبروك هذا الفصل بعنوان:

في قلعة سلطان باشا الأطرش

ويمضي قائلا:

عندما قال داوود عز الدين لي ولزوجتي – وقد راح جبل الدروز يتبدّى لنا من بعيد عبر سهل حوران – بأننا قد نبيت ليلة غد في قلعة سلطان باشا الأطرش في القريا، قالها بنغمة توحي بأننا سنكون في ضيافة أحد أولياء الله، أو بأننا سنتعشى مع صلاح الدين الأيوبي.

قلائل هم الذين يتحولون إلى شخصيات أسطورية إبان حياتهم، لكن القصص والروايات التي سمعتها عن هذا الرجل – زعيم الدروز – سواء في المحافل الأوروبية أو في بيروت أو في مضارب البدو في الصحراء كانت خيالية لدرجة يصعب تصديقها.

سمعت عن أفعاله الخارقة حيث تلتقي الضراوة بالوداعة. فقد كان يقاتل بشراسة نمر هائج ثم يعود من المعركة يبكي ويترحم على الذين هبّرهم بسيفه البتار.

أما والدته المسنة فقد حاولت جاهدة إقناعه بالتريث عندما أراد إعطاء كل ما كانوا يملكونه للفقراء والمحتاجين.

كان شبيهاً بالأولياء والقديسين وفيه نفحة من روح الأنبياء.

والآن ها نحن في طريقنا لنكون في ضيافة هذا الرجل الإستثنائي سلطان باشا الأطرش وضيافة أبناء عشيرته دروز الجبل.

سرنا على الطريق الرومانية التي تنطلق من دمشق باتجاه الجنوب الغربي مروراً بمنطقة بركانية وعرة من مناطق الجبل على حافة الصحراء الكبرى.

الجـِمال التي كان داوود قد وعدنا بها لم تكن ضرورية لأننا كنا نتنقل بسيارة كاديلاك مكشوفة على أمل وصول السويداء عاصمة الدروز عصر ذلك اليوم.

وعلى بُعد أميال برزت أمامنا السويداء ما وراء السهل المنبسط. لم تكن ذات شبه بأية مدينة عربية نموذجية رأيتها من قبل. بل كانت أقرب إلى ضيعة محصنة من ضياع مقاطعة بريتانيا في شمال غربي فرنسا.. بجدرانها السمراء ذات الحجارة الضخمة وبيوتها الصلبة كما لو أنها قدّت من صخر حي.

ومع أن بعض أبناء الدروز انتقلوا إلى أوروبا وسكنوا كبريات مدنها لكنهم ظلوا محافظين على عاداتهم وتقاليدهم، وكانوا يلقون دوماً الحفاوة والتكريم لدى عودتهم إلى الجبل.

وكأي من الأقطار العربية فقد خضع جبل الدروز للإمبراطورية العثمانية لعدة قرون. وبالرغم من فرض الوصاية الفرنسية على سورية لكن أبناء الجبل لم يقبلوا بتلك الوصاية – مثلما رفضوا الإنصياع للسلطة العثمانية – ولذلك تمّيز تاريخهم بسلسلة من الثورات والحروب.

وحتى أثناء دخولنا الجبل كانت هناك إرهاصات ثورة مع أننا لم نعتقد بأنها ستحدث بتلك السرعة. إنها الثورة التي اندلعت في صيف 1925 والتي انتشرت كالنار في الهشيم في طول سوريا وعرضها.

مع اقترابنا من مشارف السويداء قطعنا ميداناً عريضاً أمام دار الحكومة (السراي) والقلعة اللتين شيّدهما الأتراك في عام 1886 والآن تقيم بهما حامية عسكرية فرنسية.

وهذه هي نفس القلعة التي احتمى بها بعد أقل من شهر (من زيارتنا هذه) آخر فلول الفرنسيين الذين بقوا أحياء ومحاصرين في جبل الدروز.

السلام كان مخيماً عصر وصولنا وظل كذلك لأيام عديدة فيما بعد. تمكنا من قيادة السيارة لمسافة قصيرة في المدينة، لكن الطرقات راحت تضيق وتتعرج بحيث لم تتسع للسيارة، فترجلنا ومشينا بضعة مئات من الأمتار الأخيرة إلى دار علي بك عبيد قاضي الدروز المدني Druze civil judge (قاضي المذهب) في السويداء الذي سيكون مضيفنا لليلة الأولى.

دخلنا أرض الدار عبر بوابة مقنطرة وسط جدار حجري عالٍ. إلى الشمال رأينا أربعة من الجياد العربية الأصيلة تأكل من معالف حجرية منحوتة. وشاهدنا أيضاً جملاً باركاً يجتر طعامه ويرمقنا بعدم اكتراث. وفي زاوية من أرض الدار كانت "شلعة" من الماعز ذات اللون الأسود والشعر الطويل. وكانت ضروع العنزات عليها أكياس من القماش القطني. وإلى اليمين كانت تقوم درجات حجرية تفضي إلى شرفة وإلى مدخل على جانبية مصاطب من الحجر.

على رأس الدرج وقف علي بك بقامته المعتدلة وعينيه الرقيقتين ولحيته التي وخطها الشيب.

وكان يلبس الرداء الذي يميّز عُقـّال akil الشيوخ الدروز وعمامة بيضاء عالية ودقيقة الإستدارة، وعباءة كبيرة مصنوعة من وبر الجمال.

كان التناغم بادياً بين رب البيت وبين الحيوانات في أرض الدار بما يذكرنا بالنبي أيوب (الذي اشتهر بصبره على الشدائد) منذ آلاف السنين، وكيف كان يستقبل ضيوفه الذين على الأرجح كان يبادرهم التحية مثلما بادرنا بها علي بك قائلا:

" Salaam aleikumالسلام عليكم"

فأجبناه: " Aleikum salaam وعليكم السلام"

بعد ذلك قبّل (علي بك) داوود على وجنتيه، ثم صافحني وصافح زوجتي، وهمس لداوود متسائلا عما إذا كانت زوجتي تحبذ الجلوس معنا في المقعد mukhaad (ديوانية أو مضافة كبيرة) أو التوجه إلى ركن النساء.

فأجاب داوود بأنها تود أولاً الجلوس مع المُضيف (المعزّب) بين الرجال احتراماً وتقديراً له بحسب ما تقتضي آداب السلوك في أمريكا.

كانت المضافة عبارة عن غرفة مربعة وكبيرة تتسع لحوالي خمسة وعشرين إلى الثلاثين شخصاً. لم يكن بها من أثاث باستثناء بعض الفرش البسيطة المحشوة بالأعشاب الجافة والمخدات الموضوعة على أرائك حجرية (طواطي).

وقرب الجمر المتوهج في منخفض وسط أرضية المضافة المبلطة بالحجر (النـُقرة) كانت بعض أدوات معقدة لصنع القهوة.

لدى دخولنا المضافة كان ثمانية أو عشرة من الشيوخ الدروز يرتدون ثياباً شبيهة بثياب علي بك وقد نهضوا بجدية لاستقبالنا والترحيب بنا.

بعد ذلك عرّفنا علي بك على أبنائه الأربعة. كان أكبرهم فؤاد وعمره أربعة وعشرون عاماً وأصغرهم أدهم وعمره أربعة عشر عاماً. كانوا (الشباب الأربعة) جميعهم محاربين أشداء ويُعتبرون من الجهّال jahils ولذلك كانوا يغطون رؤوسهم بالكفيات البدوية بدل العمائم.

جلس الشيوخ لكن الأبناء الأربعة ظلوا واقفين طوال النصف ساعة أثناء تحضير القهوة.

ولإظهار الإحتفاء بنا فقد قام علي بك نفسه بإعداد القهوة، وكان يجلس متربعاً على الأرض أمام (النقرة) المتوهجة بالجمر.

ثم دارت علينا القهوة بفنجانين صغيرين مصنوعين من النحاس، وأثناء ذلك حدثنا علي بك عن عادة من عادات الجبل.

قال إن تخاذل أحد الدروز في المعركة لا يتم زجره آنذاك. ولكن عندما يجلس المحاربون وتدار عليهم القهوة يقف المُضيف أمام المتخاذل ويسكب له فنجاناً تماماً كما يصب للآخرين (الغانمين)، ولكن بدلاً من أن يناوله الفنجان يسكبه عمداً على ثيابه (أي ثياب المتخاذل).

هذه الإهانة هي بمثابة الحكمَ بالإعدام.

في المعركة التالية يُضطر ذلك الرجل ليس للاستبسال في القتال وحسب بل ليتلقى في صدره رصاص الأعداء وطعنات سيوفهم.

ومهما أبدى جرأة في القتال فيما بعد يجب أن لا يعود حياً لأنه إن فعل سيلحق بأسرته العار والشنار.

قبل تناولنا طعام العشاء دعينا إلى أرض الدار حيث صبّ فؤاد الماء على أيدينا من إبريق فخاري طويل ثم قام بعد ذلك بتنشيف أيدينا بمنشفة مطرزة.

عدنا إلى قاعة مقنطرة معدة خصيصاً لتناول الطعام. جلسنا خمستنا في نصف دائرة على الأرض. وقام باقي الأبناء يساعدهم خادم بإحضار خروف كامل مشوي على صفيحة معدنية ضخمة (منسف).

بعد ذلك حضر خادمٌ آخر يحمل كومة من الخبز المرقوق. وهو عبارة عن صفائح دائرية رقيقة، كبيرة بحجم البشاكير ورقيقة كالورق.

أكلنا بيدنا اليمنى بعد أن شمّرنا عن سواعدنا حتى المرفق (الكوع).

أمضينا ليلة مريحة على فرش نظيفة ممدودة على الأرض، وقد اعتذر لنا علي بك لعدم وجود أسِرّة في الدار، موضحاً أن الأسِرّة غير عملية في الجبل لأنه على مدى المائة سنة الماضية اضطر الدروز كل ستة أشهر تقريباً لمغادرة السويداء بسبب مناوشاتهم مع الأتراك وانتفاضاتهم على السلطنة والسلطة العثمانية، مما يقتضي أخذ كل ما لديهم معهم إلى الجبال محمولاً على ظهور الخيول والجمال.

في الصباح التالي تناولنا طعام الفطور ولم أعرف ما إذا كنا سنوّدع علي بك دون رؤية أي من نساء البيت.

وفي الحقيقة كنا قد لمحنا امرأة لدى دخولنا الدار. كانت على ما يبدو خادمة مسنة تجلس في زاوية قصية من أرض الدار أمام كومة من فضلات الحيوانات (أجلكم). فكانت تخلطها بالماء ثم تشكلها قطعا بيديها وتضربها بقوة على جدار قريب لتلتصق به حتى تجف فتستعمل فيما بعد وقوداً للتدفئة أو للطهي. وما أن رأتنا حتى غطت وجهها ونهضت ثم توارت عن الأنظار.

(ملاحظة للمترجم: الكومة المشار إليها أعلاه كانت تدعى (المقباية) والقطعة التي تلتصق بالجدار (الطبّوع)، وهذا النوع من الوقود كان يدعى (الجلـّة). وكان ذلك الوقود الحيواني يضاف إليه أثناء دهك الخلطة القصل أي السيقان الجافة لنبات القمح أو الشعير والمهشمة بالحصى المثبت في الجهة التحتية للنورج (لوح درس الحبوب) أو يضاف إليه التبن وأحياناً العور أي التبن الناعم الدقيق، لتعزيز تماسك جزيئات الطبّوع ببعضها البعض.)

بعد الفطور أخبَرنا علي بك أن زوجته تريد مقابلتنا، وعندما ذهبنا إلى الشرفة العليا ظهرت بخفر وحياء من باب الركن المخصص للنساء واقتربت منا.

أعتقد أنها تزيّنت للمناسبة، إذ تحت الحجاب الأبيض (الفوطة) الذي غطى رأسها وكتفيها كانت تلبس تنورة كاملة الطول مطرزة بالحرير وذات ألوان زاهية.

عندما خاطبناها قامت بحلّ أو إزاحة اللثام فأبصرنا وجهاً كريماً لسيدة طيبة متقدمة في السن. ومع أن وجهها كانت فيه تجاعيد لكنه بدا متألقا تفيض منه الحيوية. وأعتقد أننا أول غربيين كانت تلك السيدة قد قابلتهما في حياتها. فضّمتها زوجتي إلى صدرها وقبلـّت خدّيها.

في تلك اللحظة وكزني داود بمرفقه للفت انتباهي فأبصرت عند الباب منظراً آخر مختلفاً تماماً. رأيت ابنة علي بك البالغة من العمر عشر سنوات وهي في منتهى الجمال كما لو كانت إحدى ملكات الشرق بثيابها البراقة الجميلة، إذ كانت ترتدي تنورة ضافية وصدار (سدر) يغطي الجزء الأعلى من الجسم حتى الخصر وأساور فضية وحجاب أبيض أزاحته بالكامل عن وجهها.

كانت شفتاها بلون الرمان وعيناها زرقاوين براقتين. أما وجهها فكان ملفتاً للنظر لا سيما وأنها كانت نصف طفلة ونصف امرأة. وفجأة قصفت عائدة إلى ركن النساء كما لو كانت أرنباً مرتعداً.

ابتسم علي بك ولحق بها ثم عاد ممسكاً بيدها. كانت تريد ولا تريد الإقتراب منا. وكانت تريدنا ولا تردينا أن نراها. وضعت الحجاب (اللثمة) فوق الجزء الأسفل من وجهها وراحت تتغنج بنظراتها الحلوة. من الواضح أنها كانت تعتبر نفسها فتاة مكتملة النضج وعلى عتبة الزواج. لكن علي بك لم يعتقد ذلك وإلا لما كان سمح لي ولداوود إطلاقاً بمقابلتها. وبالرغم من صغر سنها لم أر فتاة بمثل أنوثتها وحسنها الأخاذ.

كنا نعتزم الإنطلاق فوراً إلى القريا قرية سلطان باشا الأطرش التي تبعد مسافة لا بأس بها عن السويداء. لكن علي بك أخبرنا أن سلطان باشا سيأتي ذلك اليوم إلى السويداء للتداول مع الحاكم الفرنسي العسكري الكابتن رينو Renaud ولذلك أجلنا سفرنا.

حوالي الساعة الحادية عشرة سمعنا أصواتٍ مرتفعة فانطلقنا مسرعين مع نصف سكان السويداء باتجاه القلعة.

وفجأة ظهر سلطان باشا وحراسه الفرسان الذين يبلغ عددهم المائة. كان منظرهم المهيب في غاية الروعة وهم يمتطون صهوات خيولهم ويحملون بنادقهم ويشدون إلى صدورهم بصورة متقاطعة الجنادات اللامعة (جُعب الرصاص وأمشاط الذخيرة). ويا له من منظر مذهل كما لو كنت أرى أمامي صوراً لمحاربين آشوريين على جدران نينوى.

لم تكن ثيابهم الضافية (قنابيزهم) وأغطية رؤوسهم (قضاضاتهم أو كفياتهم) هو ما لفت انتباهي، بل شعورهم المجدولة وقمصانهم ذات الألوان الزاهية وجفونهم التي غطتها طبقة كثيفة من الكحل.

أخيراً وجدت نفسي أمام المحاربين ذوي العيون الكحيلة warriors with painted eyes الذين تـُروى الحكايات عن أفعالهم الشبيهة بالأساطير.

وإذ ساروا في موكب بين الجموع راحوا يهزجون بأصوات عميقة مرددين الأغنية القديمة (جوفية بني معروف The Song of Beni Maruf).

كان يتقدمهم فارس لم تبدُ عليه علامات الزهو أو الخيلاء. وكان يلبس ثوباً أسوداً خشن مصنوع من وبر الجمال (عباءة) وغطاءً للرأس مصنوعاً من القطن. كان منخفض الهامة [لشدة تواضعه]. وفجأة صاح أحد المجتمعين Hadha hoo (هذا هو).

عندها أدركت أنني أرى بأم عيني سلطان باشا الأطرش.

هذه المظاهر الباهرة للأمجاد القديمة تنطوي دوماً على مفارقات تاريخية في بلاد العرب. وفي هذه الحالة كانت المفارقة الآن وهنا عبارة عن زوج من النظارات الشمسية العصرية ذات اللون الداكن يلبسها محارب قدير ومحنك لحماية عينيه من وهج الشمس.

بعد ذلك بنصف ساعة، وفي مضافة خاصة مواجهة للقلعة اجتمع شيوخ الدروز وكهولهم لبحث أمر ذي بال. وقد أخذني علي بك دون سواي إلى تلك المضافة حيث قابلت للمرة الأولى سلطان باشا وجهاً لوجه.

ومن بين كل الحضور لربما كان (الباشا) الشخص الأخير الذي حزرت بأنه "سبع الدروز".

بدا في الأربعين من عمره، متوسط القامة والوزن، كث الشاربين سابلهما، ولم ألمح به من ميزات خارقة باستثناء عينيه. لون عينيه كان أزرقاً شاحب وفيهما تعبير هو مزيج من اللهفة أو الحزن المشوب بالحيرة.

اليد التي صافحني بها كانت ناعمة وكان صوته رقيقاً.

بالكاد تبادلنا عشر كلمات على بعضها. وقد بدا بالنسبة لي في ذلك الصباح لغزاً محيراً يكتنفه الغموض.

جلس مستغرقاً في صمت عميق وتأمل باطني في حين ارتفع هرج الآخرين من حوله حيث كان الحاضرون يبحثون أمر المؤتمر الوشيك.

فهمت أنه كان مصراً على الذهاب بمفرده إلى القلعة، وقد خشي الشيوخ من فقدانهم لزعيمهم المجاهد داخل الأسوار.

كان الجو مشحوناً بنـُذر القلق الفعلي وخاف القوم أن يؤخذ زعيمهم رهينة.

أخيراً صاح أحد الحاضرين: "من الحماقة أن يدخل الإنسان عرياناً (دون سلاح) إلى مغارة الذئب."

أصغى سلطان باشا لهم بصبر وأناة ثم نهض واقترب من الشخص الذي صاح..

ابتسم بسمته الغريبة الحزينة..

وبمرفقيه دفع طيات عباءته السوداء جانباً

فرأينا تحت العباءة مسدسين أوتوماتيكيين من العيار الثقيل مشدودين معاً إلى بطنه.

في داره توثقت معرفتي الشخصية به فوجدته وديعاً كالحملان. ولكن عندما امتطى صهوة جواده بعد ذلك بفترة قصيرة متوجهاً إلى القتال في ميدان المعركة الفعلية كانت عيناه تقدحان شرراً لا يخطؤه أحد، ينبئ بأن هذا الجبار مقاتل لا يعرف الخوف ولا يُشق له غبار.

أخيراً توصلتُ إلى قناعة ذاتية بأنه باطنيّ ملهم بشكل غير معهود.

أما في حياته الخاصة فكان رجلا من رجال الله الصالحين وله سرٌ عند ربه، تماماً مثلما قيل لي عنه. إذ بالرغم من كونه غنياً حتى بالمعايير الأمريكية، وجدت أن أفراد عائلته كانوا يراقبونه على الدوام خوفاً من توزيع كل ممتلكاته (على الفقراء).

وقد علمت أنه عندما لا يكون في معمعة القتال يخصص كامل وقته للإبتهال والدعاء ولمساعدة أصحاب الحاجات.

هكذا كان مزاجه عندما رأيته ذلك الصباح في السويداء. فلا هو ولا نائب الحاكم كانا يريدان الحرب. وعندما خرج من القلعة بعد نصف ساعة من اللقاء قال للحشد الكبير من الدروز الذين اجتمعوا في الساحة العامة لمعرفة ما آلت إليه المفاوضات:

"عودوا إلى بيوتكم يا أبنائي (يا بيي) والله يكون معكم."

في اليوم التالي انطلقتُ بالسيارة مع زوجتي يرافقنا داوود عز الدين والشيخ الشاب فؤاد نجل علي بك لزيارة سلطان باشا وعائلته في قريته القريا التي تبعد حوالي الثلاث ساعات عن السويداء (نظراً لضيق ووعورة الطرقات آنذاك قبل ثلاثة وثمانين عاماً).

(ما أن وصلنا) حتى وجدنا قلعة آل الأطرش، وسط القـَرْية، كومة هائلة من الركام. نسفها الفرنسيون بالديناميت قبل ذلك بسنتين (أي في عام 1923).

كانت العائلة تسكن في خمس غرف جدرانها ما زالت قائمة. وللتعويض عن المضافة وعن الركن المخصص لصنع القهوة اللذين تم تدميرهما، قام (آل الأطرش) باستعمال حجارة الركام لتشييد جناح خاص شبيه بالسرادق أو الصيوان (خيمة كبيرة).

الجهة الأمامية للصيوان كانت مفتوحة وقد استخدمت أعمدة عالية كدعامات للسقف.

وفي هذا الصيوان كان يتم استقبال الضيوف العابرين (أبناء السبيل) والترحيب بهم.

عندما وصلنا وجدنا أمامنا إثني عشر زائراً أو أكثر من القرى المجاورة. وقد استقبلنا اثنان من إخوة سلطان باشا هما علي الذي قـُتل في المعركة الأولى مع الفرنسيين بعد أقل من شهر من زيارتنا، ومصطفى الذي أصيب إصابة بالغة في نفس المعركة.

كانت هناك نافورة في أرض الدار وهي عبارة عن جرن كبير من الحجر يصب فيه الماء المسحوب من النبع عبر أنبوب أو قسطل معدني.

أثناء جلوسنا في الصيوان وشـُربنا للقهوة دخلت ستة أو ثمانية نساء من البدو إلى أرض الدار مع جـِمالهن. اثنتان منهن جلستا أمام الصيوان. خرج علي الأخ الأكبر لمخاطبتهما، فركعتا وقبّلتا يديه. ثم عادتا إلى النافورة وملأتا حوالي الستة قِرَب بالماء وحمّلتاهما على الجمال وانطلقتا مع باقي البدويات في حال سبيلهن.

بعد ذلك بساعة أتى أحد الفلاحين الدروز، بالرغم من كونه شخص غريب (لا أحد يعرفه). حضر راكباً حماره ويقود جَمَلاً. ثم (ترجّل) وجلس معنا وشاركنا في شرب القهوة.

كان جَمَله محمّلاً بكومة من حاويات "تنكات" البنزين سعة كل منها خمسة غالونات. بعد ذلك قام بتعبئة الحاويات بالماء ثم غادر الدار.

ومع ذلك لم أرَ شخصاً واحداً من القرية يأخذ ماءً من الحنفية.

وقد أوضح لي علي بنغمة يمتزج فيها الإحباط بالإعتزاز قائلاً:

"الكلام بسرك هذا قرار أخي سلطان. فنظراً لنضوب معظم ينابيعنا هذا الصيف أعلن على نطاق واسع في المنطقة أن كل البدو والمسافرين والدروز القادمين من القرى الأخرى حيث لا يوجد ماء بإمكانهم أن يأخذوا حاجتهم من هذا الماء (الذي عندنا) دون مقابل. أما نحن أفراد أسرته وأبناء قريته فنضطر لاستعمال الماء الذي تجلبه لنا القوافل من بركة أخرى بعيدة يصعب الوصول إليها وتستغرق الرحلة أربعة أيام.

فيما بعد حضر سلطان باشا إلى الصيوان. حيّانا بوقار وقال معتذراً عن وضع الدار بما معناه "غض النظر يا غانمين."

ثم استطرد قائلا:

"لا تؤاخذوني لأنني لم أكن حاضراً عند تشريفكم للترحيب بكم شخصياً، فقد كنت أدعو لله وأتضرع كي يحل السلام. ذلك السلام الذي لم نعرفه نحن الدروز منذ ألف عام والذي نأمل في أن يأتي يوماً ما. لكنني أخشى أنه لن يأتي الآن."

وعندما سألته عن الظلم المنسوب للفرنسيين الذي ملأ الدروز الآخرون أذنيَّ بأخباره، كان جوابه مختصراً وعلى هذا النحو:

"لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً ما لم تكن إرادة الله. لا شيء يحدث بدون مشيئته. والمستعان بالله؟"

بعدها دُعينا لتناول طعام الغداء في إحدى غرف القلعة (دار الباشا) التي سلمت من الدمار. كانت تلك الغرفة تغص بالصناديق والأثاث والستائر المكومة كيفما اتفق، دون ترتيب.

كانت الوجبة بسيطة، عبارة عن قطع من لحم الضأن المشوي على السفود أو السيخ المعدني، مع يخنة باذنجان وقد دارت علينا طاس كبيرة من اللبن الرائب (الخاثر) فيها ملعقة فضية كبيرة الحجم، استعملها كل واحد منا بدوره.

وعلى الجدار شاهدنا صورة داخل إطار لشيخ وقور من شيوخ الدروز عليه ملامح القوة ومخايل المهابة. تلك كانت صورة ذوقان الأطرش والد سلطان باشا.

كان (ذوقان) مارداً يتمتع بقوة بدنية هائلة، وكان مشهوداً له بأصالة الرأي والبسالة في ساحات القتال.

وقد تحدث عنه سلطان باشا بفخر واعتزاز، قائلاً:

"ما سأحدثك به لا أتذكره، لكن والدتي قالت لي أنه عندما كنت طفلاً في السنة الأولى من عمري حضر الأتراك (إلى دارنا). كان والدي يحملني بيد ويمسك السيف بيده الأخرى. وفجأة نط على ظهر حصانه بقفزة واحدة فلكزه بركبتيه وهجم على الأتراك فذبح ثلاثة منهم أثناء مغادرته المنزل بحيث طرطش الدم على وجهي.

عندما استفسرتُ "منذ متى توفي (والدك) المرحوم ذوقان؟" (لم يجبني سلطان) بل أجابني (أخوه) علي:

"لقد تم أسره غدراً وخيانة وأعْدِم شنقاً على يد الأتراك سنة 1912 بأمر من الجنرال سامي باشا في الساحة العامة في دمشق.

استعملوا لشنقه حبلاً عتيقاً انقطع ثلاث مرات، ولكن في المرة الثالثة كان قد فارق الحياة.

قبل إعدامه سألوه إن كان هناك من شيء يريد أن يوصي به أو يقوله، فصاح بأعلى صوته:

"قولوا لجماعتي بأن لا يثقوا بواحد من الأتراك."

أثناء هذا الحديث كنا جالسين في الصيوان الذي تم تشييده حسبما تقدّم من حجارة القلعة المدمَّرة. وكان سلطان باشا قد استأذن بالخروج وتركنا مع أخويه.

بعد لحظات من السكون الذي أعقب حكاية الشيخ ذوقان وكلماته الأخيرة التي نطق بها قبل أن يسلم الروح، التفتَ إليّ مصطفى وقال بكل جدية: "والله.. الفرنساوي ألعن وأحرق والِدَين!"

حسبتُ أنه قال ذلك بسبب نسفهم لدارهم بالديناميت، لكن كانت هناك أسباباً أخرى فطلبت منه أن يشرح لي تلك الأسباب التي ساعدت في تأزيم الأوضاع وإيصالها إلى ما هي عليه.

فأجاب مصطفى: "هذا فؤاد يمكنه أن يخبرك لأنه كان برفقة سلطان باشا (في الهجوم).

أدركت أن إحجامه عن رواية القصة لنا بلسانه كان ناجماً إما عن تواضع في آل الأطرش أو عن شعور بالإباء (والإزدراء بالفرنسيين).

فراح فؤاد إبن علي بك عبيد يقص علينا الحكاية. وما أن ابتدأ بالحديث حتى انتقل داوود عز الدين من مقعده وجلس بجانبي ثم وشوشني قائلا:

"إن ما ستسمعه هو ذروة بطولة سلطان باشا: هجومه على الدبابة الفرنسية."

راح فؤاد يسرد الحادثة كما خبرها ورآها رأي العين على النحو التالي:

"في عام 1922 عندما كان المندوب السامي الفرنسي الجنرال غورو في طريقه من بيروت إلى دمشق أطلق بعض العرب الرصاص على موكبه. مطلقو الرصاص ربما كانوا من قطـّاع الطرق أو من الوطنيين الأحرار. في تلك الحادثة قـُتل سكرتيرٌ وأصيب المساعد العسكري العربي بجرح بليغ.

اشتبه الفرنسيون بشخص إسمه أدهم خنجر (في الأصل الإنكليزي (Adhan Hanjar اعتبروه أحد مدبري المؤامرة التي أدت إلى إطلاق النار فصدر أمرٌ بإلقاء القبض عليه فالتجأ إلى جبل الدروز.

بعد أن دخل تخوم منطقتنا ألقي القبض عليه في الطريق بحضور عدد من المارة الدروز.

وعندما أخذه الجنود الفرنسيون راح يصيح:

"أنا في ضيافة وجيرة سلطان باشا الأطرش. كنت في طريقي إلى داره لألتجئ إليه وأحتمي به."

ثم واصل فؤاد حديثه:

"يجب أن تعرف أن الضيف في الجبل له حرمته فلا يجوز إهانته أو المساس به."

الدروز الذين سمعوه يصيح انطلقوا على جناح السرعة إلى قلعة الطرشان هنا. كانت الأحوال هادئة والسلام مستتباًً، وكان سلطان باشا في نزهة صيد مع صقوره وكلابه. وفي غيابه أخبروا والدته بما حدث.

عندما رجع سلطان من الصيد قابلته والدته عند بوابة القلعة وصاحت:

"يا إبني، هذه الدار المصبوغة أرضها بدم وشحم الذبايح والمعروفة بالكرم والجود وإغاثة الملهوف لازم الآن تحمي الدخيل."

فأجابها الباشا: "ومتى قصّرت يا أمي؟"

قالت: "التجأ أدهم خنجر إلى الجبل وفي طريقه إلى دارك أخذه العسكر ورموه في السجن في السويداء."

انفجر سلطان باشا باكياً، ثم انتخى وراح يزأر مردداً أهزوجة الحرب الخاصة بالدروز:

"حِنا بني معروف

وصخورنا ملجا الدخيل

بتحمي الملتجي ليها

ولما بتصدا رماحنا

بدم العِدى منجليها."

بعد أن أكمل نخوته رفع ابتهالاً لله وبعث برسالة إلى الحامية الفرنسية في السويداء هذا فحواها:

"مع أن هذا الرجل لم تطأ قدماه أرض داري لكنه كان قاصداً ضيافتي. لذلك أناشدكم إكراماً لعادات الضيافة عندنا أن تطلقوا سراحه بكفالتي حتى يتم البت في أمره."

لم يبعث الفرنسيون من جواب لسلطان.

في تلك الليلة أخذ سلطان باشا معه أخويه الموجودين الآن هنا معنا وخمسة رجال آخرين وذهبوا لاقتحام السجن فوجدوه فارغاً لأن الضباط الفرنسيين كانوا قد أخذوا أدهم إلى القلعة.

عاد سلطان باشا إلى داره وقبل الفجر بعث (الفزيع) أي أرسل رُسُلاً إلى كافة قرى الجبل.

في غضون ذلك بعث الفرنسيون من دمشق بثلاث دبابات (مصفحات) لينقلوا السجين إلى دمشق. الدبابات كانت صغيرة الحجم وفي كل منها ضابطان.

سمعنا بالخبر في السويداء فتوجهتْ مجموعة منا إلى القريا لملاقاة سلطان باشا هنا.

عندما وصلتُ إلى القريا وجدتُ أن الباشا قد جمع حوالي الأربعمائة أو الخمسمائة مقاتل. وبهذه الحملة انطلقنا نحو السويداء لنباشر بالهجوم.

عندما وصلنا الهضبة المطلة على السهل الغربي أبصرنا الدبابات الثلاث تدب كالخنافس في طريقها إلى دمشق.

واصلنا زحفنا وفجأة راح دم سلطان يغلي ويفور فهمز فرسه البيضاء ثم انطلق كالسهم يسابق الريح قاصداً الدبابات..

بقي (سلطان باشا) منطلقاً بسرعة فائقة حتى وصل السهل فاستهدف الدبابة الأولى. وما أن اقترب (من الدبابة) بحوالي النصف كيلومتر حتى تم إطلاق النار عليه لكنه لم يُصب مع أن أربع رصاصات اخترقت طيات عباءته.

(لما اقترب من الدبابة) التي كان غطاء سطحها قد تـُرك مفتوحاً لشدة الحر، ألقى سلطان باشا سلاحه جانباً وانطلق بفرسه بأقصى سرعة بمحاذاة الدبابة فوقف على السَرج ثم نط عنه (إلى الدبابة) وذبح بسيفه قائدها (الكابتن) والضابط (اللوتينانت) اللذين كانا داخلها.

وإذ احتدم غيظه وتعاظم غضبه لم يرضَ بأن يقتل بضربة واحدة من سيفه، إذ وُجدتْ بعد انتهاء المعركة عشرون طعنة سيف في جسم الكابتن.

(ذلك حدث قبل وصولنا أي التحاقنا بالباشا) ولدى وصولنا كنا قد فقدنا إثني عشر من رجالنا، لكننا تمكنا من إعطاب الدبابتين الباقيتين.

بعد ذلك عرفنا أن الفرنسيين سيهاجمون قلعة سلطان باشا وقريته. قادنا سلطان في الليل، وكنا بضعة مئات من الفرسان، إلى مكان (قرب القريا) فيه أكوام من الحطام والركام، مطلٍّ على القـَرية التي جلا عنها كل أهلها.

توارينا عن الأنظار وأخفينا خيولنا بكيفية بارعة بحيث أن الفرنسيين الذين حلـّقوا فوقنا بالطائرات للمعاينة والإستطلاع لم يقفوا لنا على أثر.

بعدها (فوجئنا) بأفواج من الخيالة والمشاة وهم خليط من العساكر الفرنسيين والعرب والزنوج يدخلون القرية لنهب كل القمح والحبوب الأخرى قبل تدميرها بالمتفجرات.

كان سلطان يعلم أنه لن يستطيع وقف العملية لكنه أمِل (على الأقل) في مضايقة الفرنسيين. فقال لنا: لا تطلقوا النار قبل دخولهم إلى البيادر ووضعهم أسلحتهم جانباً.

لكن غلب الحماس على أحد رجالنا فأطلق النار قبل الأوان. حدثت معركة صغيرة نتيجة لذلك وفي اليوم التالي أرسل الفرنسيون المزيد من الجنود فأخذوا كل الحبوب ونسفوا قلعة سلطان بالديناميت والقنابل.

عندما تم عقد الصلح فيما بعد، حضر سلطان باشا إلى السويداء محمولاً على أكف فرسانه وهم على ظهور الخيل. فتراكض سكان السويداء وكذلك الجنود الفرنسيون وتهافتوا ليلقوا ولو نظرة خاطفة على سلطان.

عرض الفرنسيون (على الباشا) إعادة بناء قلعته (داره)، لكنه رفض بأدب قائلا: "إن الدار التي لا تستطيع توفير الحماية لضيوفها لا تستحق أن تبقى قائمة، وحسناً فعلتم بتدميرها."

(ويختتم علي بيك القصة قائلاً للرحالة: وها أنت ترى الدار على حالها تماماً كما كانت منذ ذلك اليوم.)

في واحدة من غرف القلعة الخمس التي سلمت (جدرانها)، نمنا أنا وزوجتي تلك الليلة – كالشرقيين –على فرش ممدودة، في حين نام داوود وفؤاد عبيد في غرفة مجاورة.

بعد ذلك بيومين توغلنا في قلب الجبل قاصدين زيارة فارس آخر من فرسان الدروز من نفس العائلة هو حسين باشا الأطرش شيخ عنز. وقد تحتم علينا ترك سيارتنا الكاديلاك والركوب على ظهور الجمال.

وصلنا قرية عنز قبل الغروب فوجدناها عبارة عن قلعة ضخمة كثيرة الغرف والدهاليز المبعثرة بغير انتظام قائمة على هضبة وقد تناثرت حولها بيوت ذات سقوف مسطحة وجدران سميكة.

استقبلنا الخدم عند البوابة التي في باب القلعة ومشوا وراءنا وهم يقودون جمالنا إلى أرض الدار حيث الإسطبلات ومخازن الغلال (الكواير).

تسلقنا سُلماً حجرياً ضيقاً وشديد الإنحدار لأكثر من مائة قدم وصولاً إلى رواق ذي أعمدة مطل على الوادي. ومن الرواق أو الشرفة دخلنا إلى قاعة الإستقبال الرئيسية (المضافة) ذات السقف العالي والمفروشة بالبسط العجمية والسجاجيد النفيسة ذات النسيج الصوفي والزخارف والرسوم التطريزية على الطراز الشرقي.

وكانت قطع الأثاث الأوروبية الفاخرة المطلية بماء الذهب والمنجّدة بالمخمل الناعم قد تم جلبها من دمشق (إلى الجبل) على ظهور الجمال. وفي إحدى زوايا المضافة رأينا سريراً أوروبياً هائل الحجم مرفوعاً عن الأرض وفوقه ظِلة رائعة الزخرفة والتصميم. وكان ذلك السرير هو الوحيد الذي رأيناه في جبل الدروز، لكنه كان سريراً يليق بالنبلاء والأشراف وقد نمنا عليه تلك الليلة.

بعد وصولنا بلحظات دخل حسين باشا إلى المضافة فانحنى أمامنا عدة مرات مردداً لكل منا: "يا أهلا وسهلا ومرحبا. شرفتونا."

كان رجلاً بديناً في منتصف العمر تشع القوة من محياه. وكالأمراء العرب كان يلبس كفيّة بيضاء مصنوعة من الحرير وفوقها عقال مذهّب ذو حلقتين (على طاقين). وكان يرتدي أيضاً عباءة سوداء مطرزة بالذهب والفضة. وقد عرفنا فيما بعد أنه تزيا بهذا الزي الفخم إكراماً لقدومنا، لأنه في اليوم الثاني والأيام التالية رأيناه يلبس ثياباً عادية. وما كان أروع منظر ذلك الزنجي الشاب الذي كان يقف بجانبه، عند مرفقه!

عند الغسق انتقلنا (من المضافة) إلى الشرفة (الليوان) الأكثر برودة حيث المصابيح والفوانيس المعلقة. بعد فترة قصيرة حضر أبناء (الشيخ) حسين بحياء للسلام على الضيوف الغرباء. كان عمر أكبرهم حوالي السبعة عشر عاماً. كان مجدول الشعر ويرتدي ثياباً تماماً كالتي يرتديها والده.

أحد الصبية كان عمره حوالي الإثنتي عشرة سنة بشعر محلول ومسدول على كتفيه كأحد مساعدي فارس من فرسان العصور الوسطى. وكان يرتدي ثياباً من المخمل الأحمر. وصبي آخر عمره حوالي الخمس سنوات كان يرتدي بزة عسكرية فـُصلت خصيصاً له في القدس. أما الطفلة الصغيرة التي عمرها سنتان فقد جيء بها لتجلس على ركبتي حسين باشا قبل العشاء. وكانت كالدمية أو كأميرة صغيرة من أرض الأحلام ودنيا الخيال.

كانت جفونها مكحّلة ووجهها مصبوغاً (بالحمرة) بعناية فائقة. وكان شعرها مضفوراً بقطع من المجوهرات والعملة البراقة. أما أطراف أصابعها المصبوغة بالحناء فكانت تشبه إطلالة الفجر الوردية. وبتلك الأصابع راحت تشدّ شاربيّ حبيب قلبها والدها وتعبث بهما..

أحد الضباط الفرنسيين في بيروت كان قد أخبرني أن حسين باشا (الأطرش) هو قاطع طرق. لكن الإنكليز كانوا ينظرون إليه نظرة مختلفة تماماً ويقدرّونه حق قدره. لأنه عند قرب انتهاء الحرب العالمية (الأولى) تمكن من جمع ثلاثة أفواج من الخيّالة العرب لمساعدة (القائد الميداني) آلنبي Allenby والحلفاء ضد الأتراك، وأعطى (القوات البريطانية) مئات أحمال الجمال من الحبوب من مخزنه الخاص لإطعام الجنود. وقد أصبح عقيداً (كولونيل) في الجيش البريطاني وتميّز بالفروسية أثناء الإرساليات العسكرية الرسمية.

أما بالنسبة لنا فقد وجدناه مضيفاً طيب النفس أنيس المعشر.

(بعد ذلك) قام عبدان أسودان بإحضار العشاء إلى الشرفة، وكان منظرهما يوحي بأنهما قد بزغا للتو واللحظة من إحدى صفحات ألف ليلة وليلة، بثيابهما الفضفاضة وخنجريهما المرصعين بالأحجار الكريمة.

كان جو الوليمة شبيهاً بجو ولائم هارون الرشيد مع أن الطعام كان عصرياً بكافة التفاصيل.

كانت هناك مائدة طويلة مع محارم في غاية النظافة وملاعق وأشواك وسكاكين فضية وأقداح زجاجية عالية وآنية من الخزف الرقيق الفاخر،النصف شفاف. أما الشمبانيا فكانت من نوعCordon Rogue 1912.

وتحت تأثيرها المنعش راح (الشيخ) يروي لزوجتي بلغة إنكليزية مطعّمة بالفرنسية حكاية ذلك الرجل والـ 12 بزرة بطيخ، وكان للتو قد رواها لنا بالعربي.

توقف حسين باشا عن سرد الرواية ليتناول من أحد الصحون طائر حجل (مطبوخ). وإذ كان يشعر بارتياح تام في قلعته فقد تجلـّت معه وبدون تكلف أو تحفظ أمسك الحجلة بقبضة فارس صنديد ونهش منها نهشة محترمة بكل ما فيها من لحم وعظم وغضروف ونحوه.

عندئذ بدأت أشعر بالمودة نحوه. لأنه بالرغم من الزفر الذي لطخ وجهه.. وبالرغم من إمساكه بتلك "النهشة" بفكيه القويين، نظر إلى زوجتي معتذراً وهو يبتسم ويقول: "عدم المؤاخذة يا مدام، فقد رافقت الإنكليز لفترة طويلة، وهم متعودون على أكل الطيور بالأصابع."

وكانت الأيام التي أمضيناها في قرية عنز من أمتع أيام رحلتنا في بلاد العرب. كما أتاحت لنا الفرصة لزيارة قرى نائية أخرى من قرى الجبل.

في عصر أحد الأيام أخذني حسين باشا إلى إحدى القرى (ليحا ?Liheh ) لحضور محكمة قروية حيث طريقة الدروز القديمة للبت في القضايا وإعطاء كل ذي حق حقه.

عُقدت الجلسة في مضافة شيخ القرية الذي سيقوم بدور القاضي وقد حضرها عدد من المشايخ ووجهاء القرية.

المدعي كان فلاحاً مسيحياً من حوران. فوقف أمام القاضي وراح يشكو له بحسرة ولوعة قائلاً أنه في الليلة الفائتة سُرق له في هذه القرية ما مقداره حمولة أربعة جمال من الحبوب.

سُمح له بإبراز أربعة من الشهود الدروز لدعم حجته. وبعد المداولات أصدر القاضي حكمه على هذا النحو:

"مع أن الذي سرقك قد لا يكون من الدروز، وحتى لو كان الذي سرقك هو بدوي أو شخص آخر غريب، فإن العار والمسؤولية يقعان علينا، لأنك كنت ضيفنا في قريتنا. ولذلك سنصرف لك الآن من مخزن القرية العام مقداراً من الحبوب مساوياً للذي فقدته ونعتذر منك رسمياً ونأمل أن تقبل عذرنا."

بعد ذلك شرع الشيوخ في البحث عن السارق.

سألت حسين باشا عن القصاص الذي يتعرض له الجناة فأجاب:

"توجد سجون في السويداء تطبق فيها أحكام القانون الفرنسي، لكن لا يوجد لدينا سجون هنا (في القرى). إن كان الجاني غريباً يتم تغريمه ولا يُسمح له بالعودة إلى جبل الدروز ثانية. وإن كان درزياً يتم تغريمه بالمثل. إن كانت جنايته قابلة للصفح يُصفح عنه. أما إن تعلقت المسألة بتلويث السمعة فيكون الخزي والعار عقابه الدائم."

قلت له: "لا بد أن هناك جرائم لا يكفي الخزي والعار ثمناً لها."

أجاب: "الموت هو عقاب مثل تلك الجرائم."

وأثناء عودتنا إلى بيته أخبرني بالقصة التالية:

"نحن الدروز غير متمرسين بالتجارة... ونجلب البنّائين من لبنان لكي يبنوا لنا بيوتنا.

"منذ عدة سنوات حضر بنـّاء (معلم عمار) مسيحي من الشوير إلى قرية الشيخ أمير لبناء دار جديدة لأحد الأثرياء وقد جلب معه زوجته المسيحية الجميلة التي كانت تتجول (في شوارع القرية) حاسرة الرأس. وعندما أصبحت الدار نصف جاهزة ذهب في أحد الأيام الأخ الأصغر للشيخ أمير إلى بيت البنـّاء واعتدى على زوجته بالإكراه.

" أخبرت المرأة زوجها على الفور فقام، بدافع الخوف، بجمع كل أغراضه ومعدّاته ووضعها على حمارين وغادر القرية مع زوجته أثناء الليل.

"في صباح اليوم التالي لحق به، على ظهر الفرس، صاحب الدار التي كان يقوم ببنائها وسأله بغضب عن السبب من فسخ التعاقد ومغادرة القرية قبل إتمام الدار. فأجاب المسيحي: "لقد فقدت شرفي وإن قلت لك كيف حدث ذلك سأفقد حياتي أيضاً. والذي اعتدى على كرامتي هو درزي تهابه الدروز. فماذا يمكنني أن أفعل معه وأنا مسيحي؟"

"عندئذ أصر صاحبُ الدار بأن يخبره المسيحي بما حدث له وطلب منه العودة معه إلى قريته.

"ذهب مباشرة إلى الشيخ أمير وقال له: "أنت وأنا وقريتنا فقدنا شرفنا ولا يمكن استعادة ذلك الشرف إلاّ بتطيير (إراقة) الدم."

بعد ذلك نودي باجتماع كبير حضره شيوخ القرية والمحاربون. ومن جملة الحضور كان الأخ المذنب نفسه وهو بكامل عدة القتال كباقي المحاربين.

وبينما كان المحاربون يقفون في دائرة كبيرة ممتطين ظهور خيولهم، جلس الشيوخ وأعيان القرية البالغ عددهم قرابة الأربعين في دائرة أصغر وقام رجال الشيخ أمير، بصفته المضيف، بتقديم القهوة لهم. الإجتماع عُقد على مشارف القرية.

"عندئذ وقف الرجل الدرزي الثري الذي لم يكمِل البنـّاء داره وقال:

"يا شيخ أمير! افترضْ أنك كنت إنساناً فقيراً وذهبت مع زوجتك للعيش والعمل في إحدى المدن أو القرى بين الغرباء. وافترض أنك أثناء عملك خارج البيت ذهب أحد الرجال إلى بيتك في غيابك واعتدى على زوجتك!"

"(في تلك اللحظة) نهض الشيخ أمير واستل سيفه ليقتل المتحدث، ليس لأنه ظن أن المسألة تتعلق بشقيقه، بل بسبب الإشارة إلى زوجته في مثل هذه المسألة المقيتة الفاضحة. لكن باقي الشيوخ اندفعوا نحوه (نحو الشيخ أمير) وأمسكوا به، وقد أدركوا أن أمراً خطيراً يكمن وراء ذلك الكلام.

وواصل الرجل (الغني) حديثه قائلا :

"يا شيخ أمير، اقتلني فيما بعد إن رغبت، ولكن أجبني الآن على سؤالي: لو حدثت مثل هذه المأساة فما هو العقاب الذي يستحقه الجاني؟"

أجاب الشيخ أمير: "حتماً الموت."

واستطرد الرجل قائلا: "وافرضْ أن أحد الدروز فعل ذلك؟"

أجاب الشيخ: "يجب أن يلاقي حتفه حتى ولو كان ابني."

فسأله الرجل: "وهل تمْسِك على كلامك؟"

فأجاب الشيخ: "حتى لو كان من لحمي ودمّي يجب أن يموت."

فصاح المتحدث: "وهل هذا العقاب ينطبق على الجميع؟"

أجاب الشيخ: "هذا هو حُكمنا."

(عندئذ) تم إحضار المسيحي وكان يرتعد من الخوف بحيث لم يقو على الحديث فقام الرجل (الثري) بسرد القصة نيابة عنه وطلب منه أن يشير بإصبعه إلى الجاني. ففعل وهو يرتجف هلعاً.

كان الحق واضحاً وجلياً. وطبقاً للعادات والتقاليد إن فعل أحدهم مثل هذه الجريمة يقوم أفراد أسرته بتنفيذ الحكم به. فقام الشيخ أمير بذبح أخيه أمام كل الحضور وبذلك تم إحقاق الحق."

بعد ذلك بساعة كان الرجل الذي قص على مسامعي هذه الحكاية الدموية يجلس في بستانه وعلى ركبتيه طفلان يلعبان بعباءته. وكان أحد العبدين قد تسلق شجرة التوت لملء طاسة فضية بتلك الفاكهة. وها هو حسين باشا يضع كبوش التوت في فم كل من الطفلين.

على إحدى ركبتيه كانت تجلس ابنته الرضيعة، وعلى الركبة الثانية كان يجلس طفل بلون الفحم هو ابن العبد الزنجي. فحشا فاه كل منهما بالتوت وبطرف ردائه مسح وجهيهما الملطخين.

عدنا من البستان إلى الدار بعد غياب الشمس وابنة (حسين باشا) نائمة بين ذراعيّ زوجتي، أما الطفل الأسود فكان يجثم على كتفيّ حسين باشا.

تلك كانت نهاية الزيارة التي قام بها الرحّالة في ربوع جبل العرب الأشمّ المضياف.. ومن بعدها ينتقل إلى لبنان...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.